23 ديسمبر، 2024 12:22 م

قراءة في نظريات كبار مهندسي السياسة الاميركية

قراءة في نظريات كبار مهندسي السياسة الاميركية

ربما كان وزير الخارجية الاميركي هنري كيسنجر ، الملقب بـ (مهندس السياسة الاميركية ) في السبعينات، هو من وضع الولايات المتحدة في مكانة متقدمة في السبعينات ، يوم تبوأت الولايات المتحدة صدارة العالم، في وقت عمل كسينجر منذ ان كان مستشار الامن القومي الاميركي جل جهده على تكريس مبدأ ( توازن القوى ) بين الدولتين الكبريين أنذاك ، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، الى ان جاء خلفه بريجنسكي، وعد ( التوازن ) بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ( وهما ) ، مكرسا دور الولايات المتحدة في أن تبقى القطب الوحيد الذي كانت له السيطرة على مقدرات العالم.

وقد تولى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية للفترة من 1973 إلى 1977 وكان مستشار الأمن القومي في حكومة ريتشارد نيكسون. وقد لعب دورا بارزا في السياسة الخارجية للولايات المتحدة مثل سياسة الانفتاح على الصين وزيارته المكوكية بين العرب وإسرائيل والتي إنتهت باتفاقية كامب ديفيد عام 1978.

ويعد عهدي الرئيسين الاميركيين ( كارتر ) و ( ريغان ) من أفضل عهود السياسة الاميركية أمنا واستقرارا للعالم ، وقد اظهرا هيبة أميركا ، بصفتها المدافع عن ( القيم الاميركية ) وكانت شعوب العالم تتطلع الى الولايات المتحدة في نهاية الستينات ومنتصف السبعينات على انه ( قبلة ) الحالمين بالدمقراطية وحقوق الانسان، وأكتسبت الولايات المتحدة سمعة دولية طيبة، نتيجة عدم توريط جيوشها في حروب دولية، وكانت تعتمد سياسة اقامة علاقات قائمة على الاحترام وتبادل المصالح المشتركة ، وكان النشاط التجاري الاميركي في اوجه، ولم تتبوأ سمعة دولية بعد ذلك التاريخ، منذ ان تورطت الولايات المتحدة في نزاعات العالم وحروبه لأمد غير قصير.

وكان مستشار الامن القومي بريجنسكي (تولى منصبه في إدارة كارتر ما بين عامي 1977 و1981، ) هو الذي أرسى في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات  دائم التوجه نحو التفرد والسيطرة على العالم الكترونيا، وعد نظرية كيسنجر في التوازن ( أوهاما ) يوم أعد كتابه الموسوم انذاك عن ستراتيجيته الجديدة التي أسماها ( أوهام في توازن القوى ) ليقلب هذا التوازن في السياسة الاميركية رأسا على عقب ، مشيرا الى انه من الخطأ ابقاء الولايات المتحدة تعيش على مبدأ (التوازن) الذي اعتمده كيسنجر، وسار باميركا نحو مزيد من التقدم ( التكنوالكتروني ) للسيطرة على العام وغزوه الكترونيا، والتحكم بمقدرات العالم عن بعد، بل وفرض إرادة اميركا حتى على الاتحاد السوفيتي أنذاك ، الذي كان ينافس أميركا انذاك في نهاية السبعينات على زعامة العالم ، وكان مبدأ ( التوازن ) الذي أرساه وزير الخارجية الاميركي الأسبق هو الذي جعل العالم يعيش في أمن واستقرار، وكانت اميركا تركز على الدفاع عما تسميه بـ ( القيم الاميركية ) يوم نظرت شعوب العالم الى ( الثورة الاميركية)  على انها ستكون مركزا لتحرير العالم من الإضطهاد وانتهاك الكرامات، لكن النتيجة لم تكن بهذه الصورة، وسارت امريكا باتجاهات العسكرة ومحاولة السيطرة على مقدرات العالم حتى كان الغزو الاميركي للعراق عام 2003 ومن قبله في أفغانستان ، هو الحالة الأسوأ التي أوصلت الادارة الاميركية نفسها الى مستنقع لايحمد عقباه وخسرت الولايات المتحدة سمعتها، بل وخسرت قيمها الكبيرة التي كانت تدافع عنها والتي عدتها الكثير من شعوب العالم نبراس فجر الحرية الذي تحلم به لان تسود العدالة وحقوق الانسان وتتخلص الشعوب من اضطهاد وجور حكامها، لكن ما انتهت اليه في الثمانينات والتسعينات لايبشر بخير ، إن لم يكن قد اوصلت سمعتها ومكانتها الى الحضيض.

ولم تكتسب الولايات المتحدة سمعة مثل التي حظيت بها في منتصف الستينات والسبعينات، وربما انتهت مكانة اميركا كدولة للقيم منذ منتصف الثمانينات وما بعدها، وكان غزوها للعراق وتدخلها العسكري في هذا البلد الأسوا في تاريخ اميركا على الاطلاق، وهو الذي اوصل السياسة الاميركية الى منحدر خطير، لم يكن للولايات المتحدة ان تبلغ هذه القيمة المتدنية من الانحطاط الخلقي لولا اصرار بعض سياسييها بدفع من ضغوط صهيونية ، لتوريطها في حروب وتدخلات أصابت هيبة اميركا في الصميم.

كانت نظرية بريجنسكي ( الحفر أسفل الجدار ) هي التي أدت الى انهيار الاتحاد السوفيتي نهاية السبعينات وبداية الثمانيات ، وكانت تعتمد على أسلوب ان يتم عزل دول أوربا الشرقية ( الشيوعية ) عن الاتحاد السوفيتي ، والسعي لابقاء الاتحاد السوفيتي ينشط تقدمه في الميادين العسكرية في نوعية الاسلحة، وليس في الجانب الاقتصادي، وتكريس كل موازنات الاتحاد السوفيتي نحو ( العسكرة ) وفي تخصيص مليارات الدولارات في سباق تسلح كبير ورطته الولايات في برامج ( حرب الفضاء ) وفي استناد انظمة في دول الشرق الاوسط بمدها بالاسلحة، دون ان يكون بمقدور الاتحاد السوفيتي ان يطور نشاطه الاقتصادي المدني، ما سمح للاميركان بأن يضعفوا دور السوفييت، وقد ورطوهم في حرب افغانستان نهاية السبعينات، وكان هذا التوريط هو الذي أوقع الاتحاد السوفيتي في مهب الانهيار فيما بعد، ثم في تحريض شعوب دول أوربا الشرقية على حكامها، وما تمثل في انهيار هذه الدول الواحدة تلو الاخرى في مسلسل درامي خطير، أدى الى انهيار الاتحاد السوفيتي ودول المنظمة الإشتراكية، حتى أسقطت حكوماتها الواحدة بعد الاخرى، وكان لاميركا ماكان، بعد ان أضعفت كيانات هذه الدول، وأشاعت الخراب والدمار والفوضى بين اطنابها.

ويرى سياسيون أميركيون سابقون رفيعو المستوى ومنهم ديفيد ماك المسؤول عن ملف العراق في الخارجية الاميركية في السبعينات ان الولايات لم تستفد شيئا من احتلالها للعراق، اذ لم تتمكن من السيطرة على مقدرات الامور في هذا البلد ، ولم تتمكن من ترويض العراقيين طيلة عشرة سنوات من احتلالها للعراق، بل ان أميركا لم تستفد حتى اقتصاديا جراء تورطها في احتلال العراق، أن لم تكن قد خلقت حالة من العداء للسياسة الاميركية عمت العالم بأسره.

وكانت مادلين أولبرايت أول امرأة تتسلم منصب وزير الخارجية في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن سماها الرئيس بيل كلينتون في 5 كانون الاول 1996 لهذا المنصب لتكون وزير خارجيه فترته الرئاسيه الثانية، وتسلمت المنصب في 23 كانون الثاني 1997 لتصبح وزير الخارجية الرابع والستين للولايات المتحدة، وظلت في منصبها حتى 20 كانون الثاني 2001.

وكانت وزيرة الخارجية الاميركية مادلين أولبرايت في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات هي التي دفعت الولايات المتحدة نحو التوجه الى اعتماد سياسة جديدة، تعتمد الغزو وسيلة لوصول اميركا في فرض هيمنتها على العالم، لكنها اعترفت قبيل اعتزالها ، ان هذه السياسة كانت خاطئة، وقد اعتورتها الكثير من المصاعب والنسكات، وقد وقعت ضحية ( تضليل صهيوني ) أرغمها على اتباع سياسة متشددة أزاء منطقة الشرق الاوسط، وبدأ مشروع الشرق الاوسط الكبير في عهد الرئيس الاميركي الأسبق بوش، يغزو التفكير الأميركي، على انه الوسيلة الأمثل لترويض دول منطقة الشرق الاوسط، وايجاد مشتركات للتعايش بين إسرائيل والعرب، وأرغام العرب على التعامل مع اسرائيل ككيان لابد من القبول به، رضي العرب ام لم يرضوا.

أما كولن باول فقد تولى أدارة وزارة الخارجية الاميركية بعد 2003عام  ، بعد ان كان قائدا لحرب الخليج التي احتلت بموجبها اميركا العراق، ثم اخضعته لسيطرتها العسكرية، وقد تم مكافأة كولن باول على غزوه للعراق، بان تم تعيينه وزيرا للخارجية الاميركية، ولكن سياسة باول كانت أقرب الى اتباع العسكرة من أن تكون تعنى بشؤون السياسة الخارجية في اطارها المدني.

وكان كولن لوثر باول قد تولى وزارة الخارجية الأمريكية للفترة من 20 كانون الثاني 2001 حتى 26 كانون الثاني 2005 في الفترة الرئاسية الأولى من عهد الرئيس جورج دبليو بوش. وكان قبل ذلك قد وصل إلى رئاسة هيئة الأركان المشتركة الثانية عشر وذلك للفترة من 1 تشرين الاول 1989 حتى 20 أيلول 1993. وانهى خدمته كوزير الخارجيه اثر تقديم استقالته وتولى منصبه من بعده غوندا ليزا رايس عام 2005.

ومن ثم تولت غوندليزا رايس، مقاليد وزارة الخارجية الاميركية في عام 2005 ،وحتى كانون الثاني من عام 2009  وكان يطلق عليها ( البنت المدللة ) ، يوم كانت تتغنى بسياسة جديدة، وهي التي إعتمدت مبدأ ( الفوضى الخلاقة ) ستراتيجية جديدة للادارة الاميركية ، ومؤداها ان بإمكان ( الفوضى الخلاقة ) حين تثور الشعوب على حكامها أن يستقيم العالم ، وتقوم هي بالتحكم بمقدراتها، ويكون بمقدورها أن تتخلص من النظم الدكتاتورية، وتطيح بها في ثورات وردية، تحقق لاميركا السيطرة على العالم، بعد ان تكون هذه النظم قد انهارت، وتدحرجت الواحدة بعد الاخرى، وتحقق للولايات المتحدة المتحدة حلمها في السيطرة على مقدرات هذه الدول لتخضعها لارادتها، من خلال هذه ( الفوضى ) التي ضربت أطناب العالم واصابته بهزات وانتكاسات مريرة، كان حكام المنطقة ضحية لكل هذه الفوضى، وما حدث لدول المنطقة العربية، هو أحد مخلفات سياسة ( الفوضى الخلاقة ) التي هي نتاج سياسة مفكرين اميركيين ضليعين في اعداد ستراتيجية كونية جديدة للسياسة الاميركية.

وفي عام 2009 تم تعيين هيلاري كلينتون وزيرة للخارجية الاميركية، وقد سعت جاهدة لتخفيف حدة اختناقات السياسة الاميركية قدر امكانها، بعد ان وجدت الولايات المتحدة انها في موقف لايحسد عليه، في تورطها في احتلال العراق وافغانستان، والذي كلف الولايات المتحدة  تريليونات المليارات من الدولارات والاف القتلى الاميركان.

وتولت هيلاري كلينتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة من 20 كانون الثاني 2009 حتى 1 شباط 2013، وكانت أبرز المرشحين الديمقراطيين لانتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 2008، لكنها أعلنت انسحابها أمام منافسها باراك أوباما بعد منافسات حامية أدت إلى بعث الخوف في القائمين على الحزب الديموقراطي بسبب الانشقاق الواضح الذي خلفته هذه المنافسه بين مؤيدي الحزب. وكانت قبلها سيناتور عن ولاية نيويورك من 3 كانون الثاني  2001. قبل ذلك كانت السيدة الأولى للولايات المتحدة بعد أن أصبح زوجها بيل كلينتون الرئيس الثاني والأربعون للولايات المتحدة الأمريكية.

وقد سعت كلينتون للبحث عن مخرج يخفف عن بلادها وقع هذين الحربين ومخلفاتهما المأساوية على المستقبل الاميركي، ثم جاء جون كيري ليخلف هيلاري كلينتون في ادارتها للخارجية الاميركية وهو المعروف باندافعه مع اللوبي الصهيوني لفرض أرادة اميركا على دول المنطقة وتأمين دولة اسرائيل من أي خطر يداهمها، وهو ما يكون هم كل الساسة الاميركان على طول امتداد السياسة الاميركية خلال خمسة عقود مضت على الأقل.

 ان ما نريد قوله في هذا الاستعراض ان الستراتيجيات الاميركية التي اعتمدت منذ السبعينات ، كانت هي الأفضل نوعا ما، وهي التي وضعت الولايات المتحدة في مصاف الدولة الكبرى التي كان ينظر اليها العالم بدوله وشعوبه، بإحترام، ويضع لها الاعتبار، لما كانت تدافع عنه من مثل وقيم، أما السياسة الاميركية منذ خمسة عشر عاما الماضية، فربما كانت الأسواء في حياة أميركا كدولة كبرى، لانها وان تحكمت بمصير العالم ومقدرات دوله وشعوبه، الا انه خسرت سمعتها كراعية للقيم ومباديء حقوق الانسان، وما سجلها في العراق وما غزوها لهذا البلد، الا واحد من الشواهد التي أوصلت نفسها عليه، وهو مصير يعرض مستقبل الولايات المتحدة لمخاطر جمة لايمكن التنبؤ بنتائجها على المدى المنظور، إن بقيت سياسات الولايات المتحدة تتخبط على هذه الشاكلة ، بعد ان فقدت أميركا كبار صانعي القرار الكبار في السياسة ، يوم كان لها منظرون على مستوى راق من التفكير، وما ان تخلى عنها حتى منظريها، ولم تعد تشهد ولادة عمالقة في الفكر والابداع الفكري والانساني، حتى تدحرجت الولايات المتحدة المتحدة شيئا فشيئا عن مكانتها، وهي الان في وضع لايحسد عليه، ولو استفادت من دروس التاريخ القريب، لكان بأمكانها ان تنقذ نفسها أو تنتشل سياستها مما أصابها من إرهاق وانكسارات كثيرة، ما كان بامكان الاميركيين ان يصلوا اليها، لو لم تنهار القيم الاميركية وينتكس سجل حقوق الانسان فيها الى مرتبات متدنية ، هي التي أوصلتها الى هذه المكانة التي لاتليق بها، لكن مصير كل الدول الكبرى ومصير حضاراتها سيسير نحو التلاشي والزوال، وهو ما أكدته نظرية إبن خلدون قبل مئات السنين، وأكدنه نظرية داروين هي الاخرى، وقد يبدو العملاق الصيني أخذ في أن يضع لنفسه المكانة في المستقبل، لكننا لم نلحظ حتى الان، أي مدى تحتاج اليه الصين لتصل المكانة التي وصلتها الولايات المتحدة، لكنه ليس بمقدور الصين دون ( توازن قوى ) ان يكون بمقدورها ان تكون الدولة العظمى بلا منازع، حتى وان تفوقت اقتصاديا، لان القوة تحتاج الى دعائم قوى عسكرية عملاقة ، وهو ما لايتوافر للصين حتى الان..