19 ديسمبر، 2024 4:55 ص

قراءة في نصوص الزمان

قراءة في نصوص الزمان

وقفة مع قصيدة (البسي شالك الاخضر وتعالي) للشاعرة بشرى البستان

ضجيج الازمنة يطفئ مصابيح دلالات النص
لعل الشاعر دائما يحرص في كتابته للقصيدة على اساس ان الكتابة هي في كل اعتباراتها ، ملهي الا عملية (افراغ تنفيسي) عن دواخل الشاعر ، صحيح هذا الشيء ولكن من جهة واحدة فقط ، وهو عندما يكون ذلك المتنفس ، مدعوما بمقومات وشرائط الوصول الحقيقية ، واذا كان هذا الشيء مفقودا تماما ، فيصح لهذا المخزون ان يكون سجينا بشكل ابدي داخل تلك الذات التي لاتصح منا نعتها بشاعرة في أي يوم من الايام .. في قصيدة (البسي شالك الاخضر وتعالي ) للشاعرة العزيزة بشرى البستاني والمنشورة من على صفحات ( الف ياء / الزمان / العدد 3216/من شباط 2009 ) ومع انني اقدر كثيرا كتابات الاستاذة البستاني الشعرية والنقدية ، الا انني سوف ادعوها لمسامحتي هنا ومن خلال مقالي هذا ، وذلك لمحاولتي اماطة اللثام عن غوامض لغة هذا النص ، كما ارجو ان تقدر الشاعرة البستاني صراحتي في الكتابة عن قصيدتها ، وذلك لعزائي الوحيد بان للشاعرة مسكونية (الامانة النقدية) وحصافة الشان المعرفي والمنهجي بذلك .. وفي الواقع لربما اول ما قد اثارني وانا اقرا قصيدة الشاعرة ، هو بزوغ ذلك المستهل البدائي :-

الهي لقد خلقتني برحمتك

فلماذا تلتهمني كل هذه

النار ..

ان توظيف الشاعرة لهكذا مطلع اولي من زمن قصيدتها ، قد لا يوحي الا بان ثمة قصورا مخياليا ما في رسم او تشكيل ادوات هذا الشاعر فاننا بقول مثل هذا لربما قد لاتسعفنا ذاكرتنا ، الا بتذكر هيئة وشخصية معلم (درس الاسلامية) في قاعة الدرس ! او بمعنى ادق صورة العبد وهو يتوجه بالدعاء إلى ربه ، متناسين كقراء كل اعتبارات هذه المقدمة التي ما هي سوى بداية لقصيدة ، ومما اثار اندهاشنا اكثر هو ما قد جاء بعد هذا المقطع :-

في داخلي تموج لغات غريبة

واصوات صماء

في داخلي موج يضطرب و

دوي يتكسر ..

في داخلي رجل يغمض عيني

ويقودني لهاوية لا اعرفها ..

ان رغبة الشاعرة البستاني في اظهار ما هو مضمر ، قد لارتكون دائما نابعة من حالة (تشتيت المقروء) ثم استهواء القارئ إلى منطقة اللامعلوم ، كما نها من جهة اخرى ، قد تكون حالة ما من حالات الشاعرة في عملية ( ملء فجوات النص) التي

قد خلفتها حالة المصادرات في اثارة ما هو مخالف للمعلوم ، ولان مسار الكتابة الشعرية عند البستاني لم تتوصل في قصيدتها هذه إلى( منطقة الاستقصاء) فاننا نلاحظ بعض من مقاطع القصيدة تغالبها اغفالات راجعة اساسا بسبب من ان الشاعرة البستاني ، تخالط ما بين حبها للنزعة التراثية في كتابة القصيدة وما بين حداثوية خطابها الشعري ، وهذه العملية بدورها ، هي ما قد اضفت على نسيج الكتابة الشعرية عند البستاني نوعا ما من الجمود والثقل في توصيفية الخطاب الشعري لديها :-

لكنني بسكين الملائكة اتبعه

يكسر اسرار المدن العتيقة

واتبعه ..

يشعل النيران بالانهار و

اخوضها معه

يزيل الصخور عن فم النبع

مبتهجا بالطوفان

ولا احتج ..

ان المقولة التعددية في رسم ابعاد الصورة الشعرية في مقاطع قصيدة البستاني ، لربما من جهة يشعر ازاءها المتلقي بشيء ما من اللاتحديد ، او بمعنى اخر ، ان القارئ لهكذا قول (يزيل الصخور عن فم النبع) او (يشعل النيران بالانهار واخوضها معه) اول ما قد يتبادر لذهنه ، هو صورة ملحمية ما في احدى ملاحم الاغريق ، او انها بعبارة ادق ، مقطوعة سردية مقتطعة من احدى الاساطير الهندية . ان القارئ لعوالم قصيدة البستاني ، قد يتبادر لذهنه طويلا ، بان ما يقراه هو ليس من الشعر بشيء ، بقدر ما هو عبارة عن جمل ماخوذة من سياقات تذكرنا كثيرا بادب الملاحم والاساطير والحكايات الخرافية ، وذلك كمثل هكذا اقوال للشاعرة :- (بجبروت البراكين المنعتقة في لياليه / الزمن يجري يجري يجري / لاتبتلعي الدموع حبيبتي / لحظة كونية يتوحد الزمن وتنفرج ازمة قلبينا / اما انا فمشتعل يجتاح الجهات الاربع زمني / وتلمسينني فاتحول إلى ماء ..) ان اعتماد الشاعرة البستاني في كتابتها للقصيدة ، على اساس من المرجعية التراثية ، يبدو ظاهرا لاسيما وان الذات الكاتبة لدى البستاني ، تنهض في مرحلة مبكرة من حياتها الشعرية على مركزية المقولات التراثية ، وبالتالي نلاحظ عدم انفصال (المعنى الماضوي من خلال معظم كتابات الشاعرة ، وهذا بدوره ما يفسر لنا ، بان قصيدة (البسي شالك الاخضر) ما هي الا صوتا دلاليا يعبر عن حيثيات ارضا ماضوية ، مبعوثة بفعل مصادرات المنطلقات النصية ، وعلى هذا نلاحظ تعددية الازمنة وحجم ذلك الاشتعال داخل فيوضات دلالة ذلك الزمان القادم من داخل القصيدة ، الا ان المتتبع لفعالية وظيفة مجموع ازمنة القصيدة يلاحظ بان قصدية دلالة ازمنة المروي الشعري ، قد احالة زمن دلالة النص إلى شيء ومعنى قريب من (الغيبانية الدلالية) أي ان عملية تعدد الازمنة واشكال المراوي الضمائرية في فضاء خطاب النص ، قد جعلت من النص عبارة عن (مدينة ضاجة) باساطين اصوات الملاحم

وصرير العربات و (المنجنيق) وصهيل (اقفلي الظلام كي تنفتح شرف الليل) وايضا القارئ لا ينسى (البسي شالك الاخضر وتعالي) إلى (نعيش ازمنة متباينة ) ثم إلى (انها اللحظة الطافحة بالمعنى) وكذلك (نحن من نفجر الزمن ..) هذا ما وجدناه في قصيدة البستاني ، ومن الفاعلية الشعرية كل ما قد عثرنا عليه ، هو توظيف للرموز الاسطورية والاسماء التوصيفية للمدلول التاريخي ضمن ذاكرة حية ومتفاعلة مع موضوعة (البسي شالك الاخضر وتعالي) وقد لاتبدو هذه الاختلافات ظاهرة بين اقسام ومقاطع القصيدة الا على نحو غير معرقل لمسيرة التلقي والقراءة ، وعلى هذا فاننا نناشد شاعرتنا البستاني ،بالماسنا المزيد من المغفرة والصفح ، اذا كنا بهذه القراءة قد تطاولنا على حدود الممنوح لنا وبتعقيبنا هذا اختصر قولي :- بان معاناة الكتابة كبيرة جدا ، الا ان الاكبر منها ، هو كيفية بلوغ ما نكتب ذائقة الاخرين بطريقة تجعل من مرارة الكتابة ومعاناتها (ارقا جميلا) لربما لايشعر به كل من مسك القلم وكتب القصيدة وقال انا شاعر .. وعلى هذا النحو من تفسيرنا لقصيدة الشاعرة ، قد لا نسبعد الاعتقاد الاول ، وهو لربما الاهم والاصح من الناحية التقديرية النقدية ، وذلك حين نقول للشاعرة المثقفة البستاني :- ان قيمة قصيدة (البسي شالك الاخضر وتعالي) ليس بكونها شعرا ولا في كونها اتخذت من (اساطير الموت) مثلا اعلى ، بقدر مردها إلى حقيقة واحدة هي ان هذا الشكل الذي اتبتعيه في الكتابة ، يقدم شكلا ما ، اشمل واعمق وصف لحالة هي فردية في كل ابعادها القيمية والايهامية ، أي ان كتابتك لهذه القصيدة من ناحية ما ، تبدو تشخيصا لسيرورة (الشاعرمع ذاته) بيد ان هذا التشخيص راح يلوح من جهة معلومية الشاعر بخصوصية ما يشعر به هو فقط ، اما من ناحية اخرى ، فتبدو طريقة رصد الواقع المتخيل ، كما لو كانت الاشياء وعلاقاتها ، تجري على اساس ترجمة رمزية تنكشف لنا باسلوب واضح للغاية ، الا انه معقد لايمكن لكل قارئ فهمه منذ الوهلة الاولى . ومن هذا يبدو ان قصيدة (البسي شالك الاخضر وتعالي) بمثابة المسلك الاجرائي في انقطاع المعنى عن شكل المكتوب ، او هي بعبارة ادق ، اشبه بقضية سابقة عن زمن وقوعها ، او هي ايضا بمناص حامل الرغبة المجردة من فعل الارادة الفاعلة عن كل ما هو مرئي ومثير للصورة الشعرية ، وهذه المجاهدة من لدنا في مقاربة الامثلة والامثال ، هي في الواقع خير وسيلة لاستيعاب الواقع الكتابي في قصيدة الشاعرة ، والتي قادتنا إلى نقطة (الجوهر المهمل) حيث احاسيسنا التي استحالت إلى مجرد ضرورات مسلوخة عن علاقات ومكونات ذلك النص الذي راح ينازع البقاء والغياب ، انطلاقا من قيم وعلاقات متوارية خلف ستار (عناية البستاني) المتمسكة والمتعطشة إلى مطلق المكانة الكاملة والتي حاولت ان تجعلها صنيع قصيدتها التي بقيت (مع الاسف) في قائمة النصوص التي تبحث عن خلود ازمنتها الشعرية ، ناسية شاعرتنا المبدعة ؟ بان خلود النصوص الادبية قد لاياتي ، الا بفعل خصائص ما هو مؤثر فينا لدرجة الصمود والبقاء . وفي الختام لايسعنا سوى تقديم الحب والاحترام لشاعرتنا البستاني ، راجين من الله ، ان يدعمها دعما كبيرا ، وكذلك راجين ايضا من جميع قرائها إلى المزيد من التمعن والتبصراهتماما منا بادب هذه الشاعرة التي غالبا ما تكون شعريتها عبارة عن

(حالات خاصة) لاتكشف عن نفسها الا بوجود هذه الصيغ من عدم توافق مقايس الازمنة وما بين اساطين الالهة الغيورة وتلك الغرائبية في بوح ذاتية (ضجيج الازمنة يطفئ دلالات النص)..

أحدث المقالات

أحدث المقالات