مدخل:
في بداية عام ١٩٩٠، وصلنا كراس بعنوان (اختلافاتنا) لمنصور حكمت، حينها كنا في الحزب الشيوعي العراقي، في تنظيماته السرية، وكنت واحد من الذين تصفحوا الكراس، وقد سمعت عن منصور حكمت بشكل مقتضب وبأنه يصف الاتحاد السوفيتي كدولة امبريالية وليس له أية علاقة لا بالاشتراكية ولا بنظرية ماركس في إلغاء رأس المال والعمل المأجور.
لم يكن من السهل علينا أن نستوعب هذه المسائل عن الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية التي تحولت إلى صرح فكري وسياسي ومادي من الصعب زعزعته في خضم الحرب الباردة التي أضفت طابعها في جميع الميادين على المجتمع البشري . وأكثر من ذلك تحول الاتحاد السوفيتي إلى مسلمات لا يمكن دحضها في منظومتنا الفكرية والسياسية التي تربينا عليها في تلك المرحلة. ولابد من الإشارة إلى أن المصالح الطبقية كما يعلمنا ماركس هي التي تحدد الاختيارات الفكرية والسياسية. بيد إننا وفي تلك الفترة لم تكن لدينا أية مصالح طبقية في رفض الكراس المذكور او ما جاء فيه، بل عوامل أخرى وقفت حائلا بين اختياراتنا وبين ما ذهب إليه بصواب منصور حكمت، وهي نوع الثقافة والعقلية التي كانت سائدة على سبيل المثال، عدم إعطاء الفرصة لسماع مخالفينا ومعارضينا، والتسليم بأن ما وصل إلينا بأنه هو الحقيقة المطلقة دون اي حوار وتفكير ومناقشة، وعدم إفساح المجال لحرية النقد، او النظر إلى كل شيء بشكل انتقادي وجدلي حسب ما تقتضيه روح الماركسية التي تعلمناها بعد ذلك من الشيوعية العمالية ومنصور حكمت. وبصراحة لم أتحمل الكراس أكثر من تصفحه وقراءة عدد من الأسطر منه، فقد كان محكوماً عليه مسبقا بأن كل ما فيه مرفوض وان منصور حكمت لا يخدم إلا (البرجوازية والامبريالية العالمية)، هكذا تعلمنا ممن يوجه نقدا سياسيا وفكريا إلى ( المعسكر الاشتراكي) حينذاك، ركنته جانبا ولم أبالي له.
الوقائع المادية تحسم دزينة ساعات من النقاشات:
المعطيات المادية دائما تدحض وتنسف التصورات والأفكار والكاذبة التي تتحول إلى مسلمات وبديهيات وهمية تهيمن على عقول البشر. فالأساطير والخرافات والدين التي تطبع ذهن البشر على مدى عشرات القرون، ونضال العقل والفكر الحر رغم كل التضحيات ضدها لا يضاهي عقد واحد من وقائع مادية مثل اندلاع الثورة الصناعية في أوربا كي تدحض تلك (المسلمات). فبقدر ما كان انهيار الكنيسة ومسلماتها وسطوتها وسلطانها قد أدى إلى فتح الآفاق أمام التطور الإنساني على اثر الثورة المادية التي فتحت الطريق لثورة اجتماعية عظيمة وهي الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩، فأن انهيار الاتحاد السوفيتي وجدار برلين، كان انهيار لأكبر كذبة (الاشتراكية) عرفتها البشرية بل اكبر من الأديان والأساطير على مر التاريخ، ومررتها البرجوازية سواء بشقها الغربي او شقها الشرقي على العالم وبشكل مخطط ومدروس وممنهج. وكلا الطرفين، البرجوازية الغربية والبرجوازية الشرقية كانتا لديها المصلحة المادية في وصف الاتحاد السوفيتي وكتلته الشرقية بالاشتراكية. فالبرجوازية الغربية كانت تريد أن تصور الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان واقتصاد السوق الذي )يخلق( حرية الفرد بشكل مخادع بالتملك هي نتاج وإبداع النظام الرأسمالي، أما الدكتاتورية والنظام الشمولي كما تصفها النخب المثقفة للبرجوازية الغربية هو نتاج الاشتراكية، كي تحولها إلى سلاح لتشن هجوم شرس ودائم على الماركسية والاشتراكية ومساواة البشر على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. في حين كانت البرجوازية الشرقية تصور أن (الاشتراكية) هي هويتها في مقابل الهوية الرأسمالية الغربية، وان توفر فرص العمل ومجانية الصحية والتعليم هي نتاج اشتراكيتها (التي هي بالحقيقة كانت اشتراكية الفقر)، وان كل الشرور هي مصدرها النظام الغربي، كي تشن الهجمة على الاقتصاد الحر وتمجيد شكلها الاقتصادي السائد لديها وهو رأسمالية الدولة. وكانت الهوية (الاشتراكية) من عدمها تستخدم كمادة فكرية وسياسية واجتماعية لتجنيد المجتمعات في الحرب الباردة من أجل اقتسام العالم بين النفوذ الغربي والشرقي.
لم يستغرق الوقت طويلا على رمي كراس منصور حكمت حتى بدأت تلوح عاصفة تجتاح العالم، وهي وصول الأخبار في عالم مغلق مقطع الأوصال على صعيد التكنولوجية المعلوماتية والاتصالات حول التغييرات العميقة الحاصلة في الاتحاد السوفيتي تحت عنوان بريسترويكا وغلاسنغوت أي إعادة هيكلة الاقتصاد والشفافية، ثم وصل إلينا خبر فتح جدار برلين، وتزامنا معها وصل مسودة نظام الداخلي للحزب الشيوعي العراقي لمناقشته وإقراره في المؤتمر الخامس، وقد وجدنا فيه تأثير واضح للتحولات الجارية في الاتحاد السوفيتي وانتهازية فاضحة أمام الدين الذي بدء يرفع رأسه بقوة. كان الجميع يتهامسون خلسة بأن الاشتراكية فشلت أو أعلنت إفلاسها، وهناك علامات لانهيار الاتحاد السوفيتي. هذه المعطيات المادية دفعت بانهيار المسلمات الوهمية أمامنا دون اي عناء بشري غارق بالبحث والنقاش وسوق الأدلة، مما دفعنا إلى أن نبحث عن الحقيقة، حينها أدركت انه قد جاءنا كراس ولكن لم أكن أعرف أين رميته. بحثت عليه حتى وجدته وبدأت بقراءته بعين نقدية وحذرة، وكنت أعيد كل فقرة عدة مرات كي استوعب ما تكشف عنها تلك الفقرات. وكلما انتهيت من قراءة فقرة اصطدم بفقرة جديدة أخرى لتكشف عن مسالة أخرى حتى تبين في نهاية الكراس وبعد أيام طويلة من الإرباك والإحباط والذهول والصدمة، أن الحظ حالفنا ولم نعتقل او نعدم من اجل نضالنا في سبيل كذبة كبرى. وليس تلك الكذبة محصورة فقط بما سميت بالاشتراكية فحسب، بل أن كل نضالنا، كان نضال من اجل إسقاط نظام صدام حسين، ومن أجل وطن للبرجوازية الوطنية. وما فشلت بالقيام به من الأحزاب كالحزب الشيوعي العراقي وجماعة الجلبي وعلاوي والدعوة والمجلس الإسلامي نجحت فيه أخيرا قوات المارينز الأمريكية باحتلال العراق وإسقاط نظام صدام وتحقيق حلم تلك القوى السياسية.
أما قصة العامل، قصة المساواة، قصة الحرية، قصة بناء مجتمع اسمه الاشتراكية، قصة الثورة الاشتراكية، قصة الماركسية واقتدار الشيوعية، فقد رحلت او سفرت او في الحقيقة انتزعت ورميت كرزمة واحدة في مكان لم يسمع لها صوت، في خضم قعقعات الكؤوس في نخب الحرب الباردة التي سماها حكمت أكثر الحروب سخونة على مر تاريخ البشرية حيث أشعلت حروب وكالة في عشرات البقاع من العالم. وأخيرا وفي خضم الاحتفال ببزوغ انتصار النظام العالمي الجديد المخضب بالدم كما سماه منصور حكمت، في وصفه للحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية لتحرير إقطاعية الكويت من جيش صدام حسين، أسدل الستار بشكل نهائي على تلك الرزمة ليخرج جميع من كان يدور في فلك الاتحاد السوفيتي من الأحزاب الشيوعية التقليدية، من بدلتها المزركشة بالماركسية المسروقة، و ليظهروا عراة ومكشوفين باحثين عن زيهم الحقيقي، سواء كانت قومية أو ديمقراطية او ليبرالية، وتكشف عن ماهيتهم الطبقية دون أي رتوش.
موضوعات ماركسية:
في ٣١ آذار عام ٢٠١٠ وفي لقاء مع إحدى القنوات الفضائية، لم استطع الحضور بشكل شخصي بل شاركت تلفونيا مع السيد حميد مجيد موسى حين كان سكرتير للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي حينذاك و بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب، وجه المذيع سؤال؛ اي منكم يمثل الشيوعية الرسمية، انتم أم الحزب الشيوعي العراقي؟ أجبت لا أعرف ما هو الرسمي او ماذا تعني بالرسمي وما هو غير الرسمي، ولكن استطيع أن أقول لك، نحن نمثل البيان الشيوعي والأيديولوجية الألمانية ورأس المال، نحن نريد بناء الاشتراكية عبر إلغاء رأس المال والعمل المأجور، نحن ضد مجلس الحكم الطائفي القومي الذي أسسه بول بريمر، نحن ضد العملية السياسية لأنها قائمة على التقسيم القومي والطائفي للبشر في العراق، نحن ضد الاحتلال ونناضل من أجل إنهائه، وكنا ضد الحصار الاقتصادي وناضلنا برفعه دون قيد او شرط، نحن نمثل المساواة بين المرأة والرجل..الخ. فأنت اختار أن كنا نمثل الشيوعية الرسمية او غير رسمية. ما قلته حينه هو ما تعلمناه من منصور حكمت. حقا نحن مدينين إلى منصور حكمت، ذلك الطيف من الشيوعيين في وسط وجنوب العراق الذين استطيع أن أتحدث نيابة عنهم او باسمهم. مدينين إلى حكمت لأنه أعاد البريق لماركس وانجلز ولينين.
أذا كانت هناك هجمات فكرية وسياسية على الشيوعية العمالية ومنصور حكمت، فهي هجمات بالأساس على ماركس. هنا لا احدث مقارنة بين ماركس وبين منصور حكمت، فماركس واحد من اكبر عباقرة البشرية خلال الألفية كما بينتها إذاعة بي بي سي التابعة لوزارة الخارجية البريطانية، سواء كأعظم مفكر ألفية عام ٢٠٠٠ او كتابه رأس المال في ٢٠٠١. إلا أنني هنا أشير مثلما كان لينين تلميذا مخلصا ووفيا لتعاليم ماركس وانجلز، نستطيع أن نقول دون اي تردد وبيقين هكذا كان منصور حكمت. وهنا سأتحدث عن منهجية منصور حكمت في تناوله لأهم الموضوعات الماركسية التي شوهتها وحرفتها الأكاديميات البرجوازية و تصورات وأفكار البرجوازية الصغيرة التي انبثقت منها عشرات المنظمات اليسارية تحت عنوان الماركسية.
من أين ينطلق ماركس ومن أين يكمل منصور حكمت طريق ماركس بعد لينين. لنتناول خمس موضوعات مهمة لدى ماركس ولينين وكيف جسدها منصور حكمت عمليا في تنظيراته الفكرية والسياسية والعملية. تلك الموضوعات هي الطبقة العاملة، الحزب والشيوعية، السلطة السياسية، الثورة، الاشتراكية. هذه الموضوعات الخمسة هي أكثر الموضوعات الماركسية التي تعرضت إلى التشويه. طبعا أن الوقت الذي يسمح لي كما المساحة التي أمامي يدفعني أن أتناول هذه الموضوعات بخطوطها العامة لتبيان تمايز حركتنا عن بقية التيارات التي تتبنى الماركسية.
منهجية منصور حكمت من منهجية ماركس:
أن السؤال الذي يطرح نفسه وفق أية منهجية سنتناول تلك الموضوعات؟ وما هي الدلائل التي تثبت صحة منهجيتنا وحقانيتنا؟ او بعبارة أخرى إثبات حقانية ماركس التي هي حقانية منصور حكمت.
أن انطلاق منصور حكمت يأتي بالجواب على سؤالين، يبدأ من منهجية ماركس الثورية التي تنطلق من أطروحاته حول فيورباخ، في نقدها للمادية الميكانيكية كما يصفها منصور حكمت بدقة ويسمي منهجية ماركس بالمادية الممارساتية. (وبعد ذلك يستخدم حكمت الشيوعية الممارساتية أو العملية سنأتي عليه لاحقا). فماركس أشار في أطروحاته إلى مسالة جوهرية وأساسية وهي الدور الإنساني او النشاط الإنساني في التغيير. فمادية فيورباخ صورت أن هنالك عالم موضوعي والوعي فيه ليس إلا مرآة عاكسة بشكل سلبي، وينفي اي دور للوعي الإنساني بالتغيير. وهنا كما يقول منصور حكمت في تأكيده على أطروحات ماركس، أن هذا العالم الموضوعي وان الانسان له دور فيه في صنعه. اي يعتبر ماركس ان هذا العالم هو المجتمع وان الإنسان هو القوة المحولة له. اي أن ماركس أشار وأكد أن العمل الإنساني او النشاط الإنساني هو جزء من صنع العالم الموضوعي الذي نعيشه وهو المجتمع. . وهنا تأتي مقولة ماركس أن الفلاسفة قاموا بتفسير العالم إلا أن المهمة تقوم بتغييره. أن كل عمل ماركس ونضاله الفكري والسياسي والاجتماعي والحزبي انطلق من هذه المنهجية، وهذا ما أثبته منصور حكمت لاحقا في نضاله على جميع الأصعدة.
الطبقة العاملة ورسالتها الإنسانية:
ولم يرى ماركس دور النشاط الإنساني في البرجوازية، بل رأى ذلك في الطبقة العاملة ودورها الثوري. والسؤال هو لماذا الطبقة العاملة واين يلتقي منصور حكمت في هذه الموضوعة؟ هل لان العامل محروم، ولماذا الشيوعية لم تتخذ من جميع محرومي المجتمع أساسا لها ولنظريتها؟ أوليس هناك أقسام اجتماعية أخرى أكثر حرمانا من الطبقة العاملة في المجتمع الإنساني؟.
أن ماركس عندما حلل المجتمع الذي عاش فيه انطلق من موقع الطبقة العاملة ومكانتها التاريخية والسياسية. أنه لم ينطلق من الوضع المأساوي للعمال وشروط عملهم والظلم الطبقي الواقع على عاتقهم. فأن اي قارئ للبيان الشيوعي، فلا يجد لا ماركس ولا انجلز يتحدثان عن الحياة والظروف القاسية للطبقة العاملة وعلى أساسها يظهر دورها التاريخي كما ينظر عموم اليسار عندما يتحدث عن الطبقة العاملة. ويختتم البيان الشيوعي بجملته المشهورة (أن العمال ليس لديهم ما يخسروه سوى أغلالهم).
في حين عندما يتحدث عموم اليسار عن البيان الشيوعي، فكأنهم يتحدثون عن آثار او كتاب شاخ ولا يصلح إلا خلال الفترة التي كتب فيها مبررين ذلك بأن الماركسية تريد التجديد هنا. أن منصور حكمت يوضح هذه المسالة، وينظف كل الشوائب التي غطت دور الطبقة العاملة ومكانتها. بيد أن هذه المكانة مرتبطة باقتدار الشيوعية ورايتها الماركسية. اي لا يمكن الفصل بين الدور التاريخي للطبقة العاملة وبين الشيوعية. وهنا نقصد الشيوعية كما يبين ماركس وانجلز في البيان الشيوعي بأنه احزم فريق في صفوف الطبقة العاملة. أن الشيوعية بالنسبة لحكمت هي علم تحرير الطبقة العاملة، وفي نفس الوقت بتحرر الطبقة العاملة لنفسها ملزمة وبشكل موضوعي أن تحرر المجتمع برمته. لأنه كي تتحرر الطبقة العاملة يجب إنهاء أساس استغلالها واستثمارها وظلمها وهو العمل المأجور، وتعمل على إرساء مجتمع جديد. هذان الشرطان يوضحهما منصور حكمت بإسهاب ويكتب عشرات الأبحاث والدراسات والمقالات لتبيان هذه الحقيقة. بيد أن هذه الشيوعية التي هي احزم فريق في صفوف الطبقة العاملة كما يقول عنها ماركس، عليها أن ترتبط اليوم بالنظرية الماركسية. اي لا يمكن الفصل بين الشيوعية والطبقة العاملة ونظريتها الماركسية. ولذلك ذكر حكمت بأن الشيوعية هي علم تحرير الطبقة العاملة. لكن أن هذه (الماركسية والشيوعية) انتزعت من مكانتها الطبقية وأصبحت راية طبقات أخرى. ويذهب منصور ابعد من ذلك، فيوضح أن البرجوازية عندما حررت نفسها من الإقطاعية، اكتفت في دائرتها، ونفس الشيء ينطبق على الإقطاعية عندما تحررت من العبودية، في حين أن الطبقة العاملة لا تستطيع تحرير نفسها دون تحرير المجتمع، لأنه أساس استغلالها هو رأس المال والعمل المأجور، ودون إنهاءهما، لا يمكن أن تحرر نفسها، وهما أساس استعباد المرأة وأساس العنصرية والحروب والأمراض وموت الأطفال جوعا وأساس الفقر والبطالة وتلوث البيئة والاحتباس الحراري. أن مكانة الطبقة العاملة تنبع من هذا المكان، فأساس تحررية الطبقة العاملة هو الإنسانية.
الحزب والشيوعية :
لا يقف منصور حكمت عند هذه الحدود، أي لا يتحدث عن الشيوعية (الشيوعية العمالية) كمنهج فكري وعقيدة، بل يتعدى ذلك، ليتحدث عن الشيوعية في مستويين، المستوى الأول تحزبها والمستوى الثانية الشيوعية الممارساتية. أي ليس اي حزب وأية شيوعية وبأي ثمن. أن تصور حكمت للشيوعية لا ينبع من الإخلاص الأيديولوجي ولا من الموقف الأخلاقي من الطبقة العاملة كما هو موجود عند منظمات اليسار. أن الحزب الذي يريده منصور حكمت كما كان ماركس هو حزب العمال الاشتراكيين. حزب أكثر أقسام الطبقة العاملة وعيا. أن العامل بالنسبة له ليس صنف، ولا هو مقدس، بل أن مكانة العمال تنبع من رسالته الإنسانية، في تحرير المجتمع برمته مثلما أشرت. وهنا تكمن الرسالة الإنسانية للماركسية والشيوعية المقترنة بالعامل. اي ليس هناك فصل بين العامل والشيوعية.
أن تصور حكمت للشيوعية كما اشرنا ينبع من المنهج الثوري لماركس في نقده لأطروحات فيورباخ. وعلى الصعيد العملي يجسد هذا المنهج من منهجية لينين حول الحزب ونظرية التنظيم. ليس هناك شيوعية لا في منهجية ماركس ولا عند لينين ولا منصور حكمت، شيوعية دون حزبها، دون تنظيمها. ولكن اي نوع من الأحزاب أو التنظيم الذي نبتغيه؟ انه حزب ينظم القسم الواعي داخل الطبقة العاملة ويعمل من أجل تنظيم ثورة طبقته، الثورة الاشتراكية. انه ليس حزب المثقفين المعترضين على أوضاعهم الاجتماعية، ولا حزب المناضلين من أجل إنهاء الدكتاتورية، ولا حزب يعمل من اجل الدفاع عن الصناعة الوطنية، او حزب يناضل في مقارعة الامبريالية، او حزب (انتي إسلام سياسي)، (ضد الإسلام السياسي) انه حزب من اجل إنهاء الرأسمالية من خلال ثورة اجتماعية وبناء المجتمع الاشتراكي. وعليه تأتي النظرية التنظيمية لمنصور حكمت التي تعلمنا أن تنظيم الطبقة العاملة هي من أجل تنظيم الثورة الاجتماعية للبروليتاريا التي تحدث عنها ماركس قبل أكثر من قرن ونصف، وغير ذلك كلها تشويهات وترهات البرجوازية الصغيرة إلى نثرتها في صفوف المجتمع.
أن اقتران الشيوعية بالحزب بالنسبة لحكمت هو وحدة واحدة لا يمكن الفصل بينها. وهنا يتحدث عن الشيوعية التي تتحول إلى قوة مادية واتجاه سياسي في المجتمع عندما تسيطر في مكان ما أو منطقة ما أو قرية ما وتعلن عن برنامجها وتنفذها؛ بمنع ضرب الأطفال وتطبيق المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، إطلاق الحريات السياسية دون اي قيد او شرط، حرية التعبير …الخ، او ان تتحول الى جزء من المعادلة السياسية في المجتمع. أي بمعنى آخر أن اي شخص يعيش في منطقة نفوذ الحزب الشيوعي العمالي يشعر هناك اختلاف جذري بين حياته في ظل الحزب وبين حياته في ظل القوى الأحزاب السياسية الأخرى. فكما أن البرجوازية تظهر نفسها صاحبة المجتمع وليس المسؤولة عن طبقتها فحسب، فعلى الشيوعية أن تظهر هي أيضا بأنها صاحبة المجتمع. أن شيوعية لا تحدث تغيير في حياة الأفراد، في حياة المجتمع، من الممكن أن تكون اي شيء ولكن ليس شيوعية ماركس. هكذا فعل لينين عندما قاد ثورة أكتوبر، وتحولت الشيوعية إلى موديل فكري وسياسي لا ينافسه اي موديل فكري وسياسي آخر كما يعلمنا منصور حكمت.
موضوعة السلطة السياسية:
وهنا تأتي الموضوعة الأخرى وهي (السلطة السياسية). لماذا نريد حزبا شيوعيا، هل من اجل المشاركة في تظاهرات ضد الامبريالية الأمريكية، او من اجل مقارعة إسرائيل، او من اجل تشجيع الصناعة الوطنية، او من اجل تأميم النفط، او نريد نادي اجتماعي نجتر نقاشات ونقاشات لا طائل منها ولا تحرك ساكن…الخ كما هي حال الأحزاب الشيوعية واليسار التقليدي او من اجل إثبات إخلاصنا الأيديولوجي والدفاع عن النقاوة الأيديولوجية؟ .
أن البرجوازية عندما هدمت بالمعول تمثال لينين في الساحة الحمراء في روسيا، كانت توجه رسالة واضحة كما يبين حكمت في مقولته هو أن لينين هو رمز الجسارة الطبقية. لقد كان تهديم تمثال لينين يعني كسر شوكة الشيوعية والطبقة العاملة وجرأتها في استلام السلطة السياسية. أن موضوعة (السلطة السياسية) بالنسبة لشيوعية ماركس كانت هزة عنيفة أحدثها منصور حكمت في المنظومة الفكرية والسياسية والعملية لعموم اليسار. أن صعود او حتى التفكير بصعود او استلام الطبقة العاملة للسلطة وحزبها الشيوعي بالنسبة للآخرين قد دفن في درج التاريخ. أن البرجوازية عملت بجد ووظفت كل إمكانياتها المادية من اجل محو آثار ما أقدم وتجرئ عليه لينين والطبقة العاملة الروسية. وهكذا ومنذ هزيمة ثورة أكتوبر على يد البرجوازية الروسية بقيادة ستالين، أركنت السلطة السياسية جانبا او في الحقيقة محيت من المنظومة الفكرية لليسار الماركسي. أن كل الشغل الشاغل الذي ساد في اليسار وشيوعيته وماركسيته ــ قبل موضوعة منصور حكمت حول (السلطة السياسية) ــ هو المشاركة في التظاهرات والاحتجاجات والحملات السياسية، وإثبات الإخلاص الأيديولوجي عبر إبداء المواقف السياسية..الخ. أما التفكير بالسلطة السياسية من قبل الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي فلقد وضعت مئات التنظيرات الفكرية والسياسية حول وجوب عدم مس العامل كرسي الحكم او سلطة البرجوازية. انه كرسي محجوز تحت مبررات الظروف غير المواتية، والطبقة العاملة غير واعية، وان اليوم هو مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية..الخ من تلك الترهات الفكرية والسياسية. في حين أن البيان الشيوعي تحدث قبل أكثر من قرن ونصف عن السلطة السياسية واستعداد الطبقة العاملة لاستلامها. وكانت كومونة باريس عام ١٨٧٠ وهي أول سلطة عمالية خير مثال على ذلك برغم من نواقصها وإخفاقاتها.
و يلتقي من جديد ماركس ومنصور حكمت عندما قال أن الثقافة السائدة هي ثقافة الطبقات السائدة. اي أن انتصار الأفكار في ميدان الواقع هو ليس سره النخب المثقفة ودرجة الوعي في المجتمع إنما بحاجة إلى قوة مادية وهذه مرتبطة بسعي الشيوعية للعمل في الميدان الواقعي، في توجيه أنظارها صوب السلطة السياسية. انظر كيف يصور منصور حكمت تغييره للثقافة المعادية للمرأة في المجتمع ( نحن نقوم بتغيير ثقافة الناس. وبدلا من أن تأتوا وتضحونبنصف المجتمع، بإمكانكم التضحية بتلك الثقافة. نحن سنقوم بعمل بحيث ينظر المجتمع لكل من يتعرض لمسألة تحرر المرأة ومسالة مساواة المرأة والرجل، كشخص مخطئ بالضبط مثلما ينظر لمن يتعرض لصحة الناس). اي بعبارة أخرى عندما تكون بيدك السلطة السياسية يعني انك تسيطر على جيش الإعلام، وتسيطر على منظومة إنتاج الخرافات مثل دور العبادة التي تنفق عليها من أموال وزارة الأوقاف المسلوبة من العمال وعموم مسحوقي المجتمع لتنظيم دوامة فكرية غيبية تعيش فيها الأغلبية الكادحة من البشرية والحيلولة دون التفكير بالمساس بأساس فقره وظلمها، وتسرح جيش من الأقلام المأجورة، وتلغي تلك المؤسسات المعدة لتشويه الوعي التي تمول من الدولة والمؤسسات الدولية وتحت اسم منظمات المجتمع المدني، وتسن القوانين والأنظمة، وتحل المليشيات الرسمية وغير الرسمية كل ذلك من اجل تحويل الأفكار إلى معطيات مادية وراسخة لا تدحض.
موضوعة الثورة:
بيد أن الاستيلاء على السلطة السياسية لا تأتي إلا عبر الثورة، وليست أية ثورة بالنسبة للشيوعيين. وهنا تأتي موضوعة الثورة. أن أهمية الحزب ونظرية التنظيم هي من اجل القيام بثورة اجتماعية عمالية. ليست أية ثورة. نحن كما يقول لنا منصور حكمت. لسنا دعاة أية ثورة. وإذا اشتركنا في الانتفاضات او الثورات فإننا نشترك فيها لتنظيم الطبقة العاملة فيها وقيادتها، اي قيادة تلك الثورات والانتفاضات وسيادة الآفاق الشيوعية عليها وتغيير مسارها إلى ثورة اشتراكية. أن الحفاظ على الاستقلالية السياسية والتنظيمية للطبقة العاملة هي واحدة من وظائف الأساسية للحزب الشيوعي العمالي، وتصاعد درجة شدة وظائفها في أيام الثورات والانتفاضات، حيث تحاول القوى البرجوازية الأخرى في سيادة آفاقها عليها وجرها إليها.
أن الثورة الوحيدة التي أمامنا هي الثورة الاشتراكية. بيد أن موضوعة (الثورة) هي الأخرى وضعت عليها تفسيرات وتنظيرات عديدة بالنسبة لذلك الطيف من اليسار، وبما أنهم لا يكترثون في منظومتهم الفكرية للثورة العمالية، فنجدهم يسبحون في خيالهم إلى حد الغرق، ويتصورون أن كل شيء يتحرك في الشارع ثورة، حتى عراك بين شخصين في الشارع يتصوره ثورة، مثلما كان يتصور دون كيشوت أعدائه من طواحين الهواء. وهذه أيضا نابعة من النزعة ضد الاستبداد او الإسلام السياسي دون تحليل طبقي للجذر الاجتماعي للاستبداد والدكتاتورية. ولا يقف هذا اليسار عند هذا الحد بل وفي خضم سباحته في خياله وذهنه البعيد عن الوقائع المادية وافتقاره إلى التحليل الطبقي الماركسي، فيتصور أن شبح الشيوعية يخيم على أية حركة يراه في الشارع ويصورها ثورة. لقد نسف منصور حكمت بنقده هذه التصورات، وقد وجه ضربات نقدية لهذه التصورات، وتحدث بإسهاب منذ بداية الثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩ أن لا ثورة أمامنا غير الثورة الاشتراكية، الثورة الاجتماعية للبروليتاريا.
موضوعة الاشتراكية:
وفي سياق هذا العمل النضالي الفكري والسياسي والاجتماعي والتنظيمي المتواصل لمنصور حكمت، يريد أن يصل إلى الاشتراكية، التي أجلتها المنظمات اليسارية ورحلتها من برامجها وجدالاتها الفكرية والسياسية. في الوقت الذي قال حكمت بأن ثورتنا القادمة ــ وكانت إيران تخوض غمار ثورة عام ١٩٧٩ــ هي ثورة اشتراكية، والجميع يعلم حينها أن الرأسمالية بلغت مرحلة متقدمة جدا من التطور، وهي مرحلة الامبريالية التي تحدث عنها لينين قبل أكثر من ستين عام، ووصول العلاقات الإنتاج الرأسمالية إلى جميع بقاع المعمورة. وكان حين قالها قد وقف بعكس كل تصورات اليسار وبجميع تلافيفه وأطيافه، في تصورها بأنه لم يأتي الأوان للثورة الاشتراكية، وبأن هذه المرحلة هي مرحلة الثورة الديمقراطية التي لم يقل لنا هذا اليسار متى ستنتهي هذه المرحلة وتزف مرحلة الاشتراكية.
أن موضوعة الاشتراكية يعد جزء لا يتجزأ من المنظومة الفكرية والسياسية للماركسية. أن أكثر المنظمات راديكالية تتشدق بالاشتراكية، ولكن على صعيد أسلوب العمل وشكل التنظيم والممارسة العملية والتكتيك السياسي لا تتعلق لا من قريب ولا من بعيد بالاشتراكية. بل أن الأفق الاشتراكي والدعاية والتحريض والتنظيم من أجل الاشتراكية يغيب بشكل كلي في عمل ذلك اليسار. ويحذر منصور حكمت بأن الاشتراكية والنضال الاشتراكي من أن تختزل إلى الدعاية وتوضيح النصوص الماركسية. وان غياب هذا الأفق مرده إلى أن اي اليسار يمثل توجهات مصالح طبقية أخرى وهي البرجوازية الصغيرة التي تكرس كل عملها وعلى جميع الأصعدة بالتعبير عن السخط السياسي والاجتماعي لما آلت إليه أوضاعه وان الثورة التي ينشدها ليس أكثر من ثورة ديمقراطية عسى ولعل تغيير أن أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الخاتمة:
من خلال ما أوردناه بشكل مقتضب عن الموضوعات التي تناولناها، نجد دون اي عناء أن منصور حكمت أعاد البريق إلى الماركسية، أعاد الشيوعية والماركسية إلى مكانتها الحقيقية، إلى أساسها الطبقي وجذرها الاجتماعي. انه تحدث عن ماركسية بلغة معاصرة، واثبت في جميع أطروحاته الفكرية والاقتصادية والسياسية والتنظيمية انه تلميذ مخلص لماركس ومعلم الطبقة العاملة بعد لينين. أن الشيوعية العمالية ليس إلا الماركسية في الميدان العملي السياسي والاجتماعي، وليست اقل منها، واللينينية في مجال التنظيم والتحزب والثورة الاجتماعية للبروليتاريا واستلام السلطة السياسية وبناء المجتمع الاشتراكي. أن الشيوعية العمالية أرست مكانتها الفكرية والسياسية والتنظيمية في زاوية معينة من المجتمع وضمن التيارات والأحزاب السياسية وبغض النظر عن جميع نواقصها ومشكلاتها وموقعها الاجتماعي ونقاط ضعفها والمسارات السياسية التي مرت بها.
أن ما نشاهده اليوم من احتجاجات عظيمة في أمريكا ضد العنصرية ويتضامن معها آلاف المؤلفة في بلدان أوربا، تكشف عن حقيقة هذا النظام البشع الذي نعيشه. أن العنصرية أشعلت شرارة احتقان اجتماعي كبير في صدور الملايين الذي ألقتهم وباء كورنا في جحيم خطر الموت أو البطالة والعوز والجوع.
أن جذر هذا النظام البشع هو الربح، وسعيه لفعل أي شيء من أجل الربح. فانهيار القطاع الصحي في بلدان متقدمة مثل أمريكا وايطاليا وفرنسا واسبانيا تكشف أن النظام الرأسمالي يتعامل مع القطاع الصحي وحياة البشر بقوانين السوق لذلك سعت إلى قطع كل المعونات والتمويل عليها وتحويلها إلى قطاع الدفاع والسلاح. أن تصاعد عقارب ساعة الموت لتصل إلى نصف مليون إنسان في تلك البلدان تنم عن بشاعة النظام الرأسمالي الذي تحدث عنه منصور حكمت بإسهاب طوال سنوات نضاله . فسواء قبلت كل الأقلام المأجورة ومنافحي النظام الرأسمالي، أو لم ترض، فإن الاشتراكية هي الرد على هذا النظام. وهذا ما علمنا منصور حكمت الذي قال أن أساس تحررية العامل هي الإنسانية، وإن أساس تحررية الماركسية هي الإنسانية.
لقد تعاهد ذلك الطيف من الشيوعيين الذي أشرت إليه في بداية هذا المقال وفي المراسيم التأبينية لرحيل منصور حكمت في لندن عام 2002 بأننا سنكمل ما انتهى منه رفيقنا وقائدنا وعزيزنا منصور حكمت، طريق نضال الحزب الشيوعي العمالي، شيوعية ماركس، وشيوعية لينين، شيوعية تسعى لتغيير المجتمع.