منذ اول مجموعة له وحتى ( موسيقى الكائن ) يتابع سعد جاسم حلم حياته و هو مشروعه مع الشعر الحديث.
واقول مشروع لأنه دائما يربط الحلقة السابقة بالحلقة التالية. فنهايات مجموعاته مفتوحة و غالبا تكون آخر قصيدة بمثابة تمهيد لفكرة قيد الإنجاز.
وبهذا المعنى يقول في خاتمة آخر مؤلفاته ( موسيقى الكائن ): إنه بصدد مشروع شعري مستمر يطوره من سنوات.
ولكن لكل مشروع أرض أو أساسات وركائز يقوم عليها. وإن كنت أرى أن خلفيات سعد جاسم هي الشعر الإنساني على وجه الإطلاق، قديمه وحديثه، الناطق بالضاد والمكتوب بلغات أعجمية، فهو ينطلق من عالم السياب الرافض لشرطه البشري، المتمرد على ضعف الذات والخارج على قانون الأوائل.
لقد كان مثله مختلفا مع ذاته، و قريبا من الأدوات الأسطورية في البناء و التركيب و تسلسل المعاني، و تجد أكثر من إشارة لأساطير إغريقية و رومانية منها: غابة الأولمب، أوريديس، عالم هاديس السفلي، إلخ…
كذلك لا تخلو لديه قصيدة من شبح الموت و صور المقابر. حتى أن كلمة موسيقى التي وردت في عنوان المجموعة وردت أيضا في عدة مواضع بالترابط مع تشييع الموتى و حفلات العزاء. يقول في أولى قصائده :
موسيقى جنائزية .. موسيقى.. موسيقى
لاغتيالات
……..
موسيقى، موسيقة خطرة
موسيقى لعالم قد يفنى في نهايات القرن.
و لئن كان تكرار مفردة موسيقى يذكرنا بـ ( أنشودة المطر ) للسياب التي استعملت إيقاع المشابهة بين هطول المطر المدرار و إيقاع تكرار كلمة مطر عدة مرات على التوالي، إنها تلفت الانتباه لما في هذه الرؤية من تلازم مع عدمية السياب و احتفاله بالموت. فقد كانت فترة علاجه واحتضاره تمهيدا لحوار خلاب مع العالم المحايث، حيث أنسن في قصائده الأخيرة العدم و شخصن المجهول، و رأى في الموت غرفة نوم فاخرة الرياش، تصل حاضره بما انقطع من ماضيه. و بهذا المعنى يقول:
هات الردى، أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثرة ( ص 706 – المعول الحجري).
و طبعا إن سعد جاسم ليس وحده من ورث السياب. بل قبله سار على هذا الدرب سعدي يوسف الذي أعاد إنتاجه فنيا. و هذا يفترض أنه لم يكن مخلصا له في الإيديولوجيا ( نظام الأفكار ) و لكن في المنطق فقط ( الظاهرة الفكرية المجردة).
**
يلعب سعد جاسم في ( موسيقى الكائن ) على و تر فكرة: اللامتناهي و الخلود و المرأة.
بالنسبة لأول نقطة. اللامتناهي. إنه يستعمل الإسقاط و الاستعارة غير الصريحة. و لنضرب على ذلك مثلا بقصيدته ( عربات الأرقام )، إن وجه الشبه مفقود بين حياة بطل القصيدة ( و هو بلا جدال ضمير أو ذات الشاعر ) و الأرقام.
وإن هذه المشابهة غير التامة بين السقوط أو نكوص الأهداف و الغايات و بين الأرقام المحرومة من المشاعر بل التي تعيش بنصف إمكاناتها، بقوة الضرورة والإكراه و ليس استجابة لدافع عاطفي، تترك مساحة للترميز و التأويل.
و الأهم من ذلك أن تلك المساحة غير المعّرفة قد لعبت دورا تجريديا لتضخيم إحساسنا بالرعب و الخوف من رحلة العودة.
يقول في قصيدة تحمل عنوان ( عربات الأرقام ):
هل سأزج في كوميديا العودة
و أساق في عربات الأرقام.
لقد تنازعت الشاعر بوجه عام عاطفتان: الشوق لمسقط رأسه، و بالإبدال لأحضان أمه، موضوع الرغبة الدائم في الفن والأدب منذ أيام الأغريق و حتى اللحظة الحالية، و الخوف من العودة بسبب الظروف القهرية.
و هذا يضعنا بمواجهة المثلث الأوديبي: الأب الذي يمثل قوة ردع، و الأم التي هي سبب للكبت، و أخيرا الاحتمالات المؤسفة بالسقوط و الخطيئة.
**
النقطة الثانية وهي الفراغ. و تنتمي لنفس شجرة التناهي و عكسه. إنها تعبير عن الخوف من الفناء. و لكن بما أن سعد جاسم لا تهمه هذه الحياة الباطلة، الموبوءة بالفساد، التي تفشى فيها القهر و الممنوع، أرى أن رهبة الموت و الفراغ لديه تعادل الخوف من المجهول.
بهذا المعنى يقول في ( عربات الأرقام ):
الآخر الحزين هذه الأيام
ينتظر مصيرا مجهولا.
و يقول أيضا:
راح يهيء نفسه لمصير يعرف أنه غامض
و ينتظره.
و لا يخفى على أحد صلة الوصل بين هذا الانتظار المجدب والعقيم و ضبابية الموقف ولاجدواه. كأننا حيال مسرحية ( في انتظار غودو ) لبيكيت.
لقد رسمت هذه القصائد لوحة للإغتراب و المنفى. و تحدثت بإسهاب عن تعدد المحطات في حياة الشاعر. و هذا دليل على وضعية وجودية، أقل ما يقال عنها إنها بلا محددات. إنها من غير هوية خاصة. و بفضلها تحول الشاعر إلى شخصية مركبة و أصبح عالمه فضاء مفتوحا، خريطة من غير بلدان. أو بتعبير المرحوم هاني الراهب : أصبحت حياته تدور في ( بلد واحد هو العالم ). إنه بلد يتجاور فيه حميد قاسم صديق الشاعر و شكسبير ملهمه و معلمه. و تتوازى فيه تجربة وسام هاشم مع فلسفة أفلاطون.
**
آخر نقطة كانت عن النساء. و باعتبار أننا اتفقنا أن هذه القصائد يحدوها هم وجودي و يتقاطع فيها سيفان متبارزان: مباهج الحياة و لؤم و فظاعة الموت، أراد الشاعر لنسائه أن يكن متبرجات. وجمالهن ليس فطريا. إنهن لسن جزءا من الطبيعة المعشوقة ويغلب عليهن معنى الخطيئة الأصلية و الضرورة و الليبيدو.
لم يرهق سعد جاسم نفسه في إضفاء فلسفة أو استراتيجية خاصة لتصعيد الغرائز، وترك للنساء مهمة الإتجار باللذة.
يقول في قصيدة ( موسيقى الكائن):
وهكذا يمكن أن يكون هنالك الحب:
حب مدمر
حب تقليدي
حب أعور، إلخ…
ثم يقول:
وفكرت أن أتوسل – لا أتسول
أتوسل:
العراقيات اللواتي يبعن سجائر اللذة.
و أرى أن هذه الصورة الدميمة لغريزة الحب وما يقف خلفها من افتراض بموجبات الحياة قد حولت مبدأ إشباع اللذة الفرويدي إلى نقيضه، وإلى حالة بلا قوام و لا شكل. و أشير بذلك للرابط المنطقي بين السيجارة ثم المتبقي منها: الدخان و الرماد.
و هذا قد دفعه ليرى المرأة بصورة قرين للمرآة كما ورد في قصيدته ( مبلغ من النوم ). و هنا ترى الجناس في المعاني و في الإلفاظ واضحا. إن مخارج الحروف بل الحروف نفسها متقاربة و متماثلة في الكلمتين، بينما المعنى واحد. فالمرأة تحولت لعلاقة مشبوهة لا غاية منها غير تبادل المنفعة و بأردأ صورها، كأنها سطح عاكس يوضح كم في هذا العالم من شرور و مكائد. و كيف يتطور فيه مبدأ الحياة و الخصوبة إلى علاقات ربوية.
و لكن لا بد في النهاية من إشارة سريعة إلى نقاط تفاؤل نراها هنا و هناك، هي من طبيعة الأمور. فالشاعر يستطيع أن يكون ساديا و ساخطا و لكنه لا يستطيع أن يكون ضد جوهر الفن ذاته، و هو إرادة البقاء. حتى جحيم رامبو لم يكن يخلو من منفذ للنجاة . فقد كان يبذل ما بوسعه ليهرب من لحظات الصحو و المواجهة مع الواقع المزري.