لايخفى ان النوايا الحسنة – ان وجدت – لاتؤدي دائما الى نهاية حسنة… وبهذا فان ما جاء في مشروع قانون التأمينات الاجتماعية من احلام وردية وامال براقة، بشمول اكبر مساحة من قطاعات الشعب بالتأمينات الاجتماعية، هي رعودٌ خـُلَّب، لامطر يعقبها.
ان شمول فئات جديدة بالتأمينات الاجتماعية لايعنى انتزاع ذلك من فئات اخرى، وهذا معناه توزيع الفقر على الطبقات. ان مشروع القانون يبدو قد اعد على عجل ويلاحظ ذلك من التناقض الذي ورد في بعض مواده ، فما ورد في المادة(3/ ثانياً) من سريان القانون على المتقاعدين الذين احيلوا على التقاعد قبل نفاذه، يقرر في المادة (113)، ان الحقوق التقاعدية لمن انفك قبل نفاذه تعد نهائية. وكذلك ما ورد في المادة (96) من اضطراب في العبارة ، فضلاً عن كثرة الاخطاء اللغوية والاملائية فيه. ويبدو لي ان مشروع القانون او معظم احكامه استعيرت من قانون اجنبي، والّا فان ما ورد فيه من احكام بشمول شريحة واسعة من المجتمع بالضمان مسألة لا غبار عليها، لكنها تتطلب استقراراً سياسياً واجتماعياً لاتتوفر في العراق حاليا. لذا فان ما ورد فيه يعد من الاماني غير قابلة للتطبيق، فهل يتوقع احد من بائع جوال ان يقدم طلباً للدولة لتستلم اشتراكه اليومي، على ان يتسلم تقاعده منها بعد 25 سنة.
ويلاحظ ان ما ورد في (المادة -2-) وكذلك (الاسباب الموجبة) من عبارات: (تأمين العيش الكريم اللائق) و(تعزيز قيم التكافل الاجتماعي)، ما هي الا كلمات حق يراد بها باطل، فليس في القانون يحقق ما يؤيد ذلك، فقد اجهضت مواد مشروع القانون الاخرى جميع ما تحقق من مكتسبات جاهد وناضل فيها ابناء الشعب ليلمسوا بعضأ قليلا مما تدره خيرات وطنهم، وها هي الطبقة الحاكمة تبرز انيابها وتنشب مخالبها لانتزاع ذلك القليل الذي حصلوا عليه، بعد ان كلت اعينهم من النظر الى دول الجوار النفطية التي يترعرع ابناؤها بخيرات بلدهم على الرغم من ان بلدنا العراق قد سبقهم باستخراج النفط وتصديره.
وحتى لايكون كلامنا بدون دليل فلنرَ كيف امتصت مواد مشروع القانون نسغ الراتب التقاعدي الحالي للموظف باكثر من طريقة ملتوية، فهي لم تكتفِ بالهجوم المباشر بل اطبقت عليه من خمس جهات :
لحساب الراتب التقاعدي، يحسب معدل الراتب خلال (84) شهراً الاخيرة من خدمته التقاعدية (م/1/ رابع وعشرون)، بدلاً من 36 شهرا في القانون النافذ. ولا يخفى ما يترتب على ذلك من نقص في الراتب التقاعدي.
لا يجوز ان يزيد الراتب التقاعدي على (80) % من اخر راتب وظيفي (م/40/ رابعاً)، بدلاً من 100/% في القانون النافذ.
الغاء مخصصات الشهادة.
تقليص مخصصات المعيشة بتحديدها بـ (25%) من الراتب ولمدة (5) سنوات، (م/53/ثانياً/أ) ، بدلاً من اطلاقها في القانون النافذ.
انقاص النسبة التي تضرب في معادلة حساب الراتب من (5،2) الى(2 و% و 5،1)، (م/40).
ومن الملاحظات المهمة ان القانون استهدف المرأة بتعسفه باكثر من مادة، وهي الفئة الاَولى بالرعاية وكما ياتي:
ورد في المادة (49/سادساً) ان الحصة التقاعدية تقطع عن المرأة اذا تزوجت مرة اخرى، وإن تطلقت او ترملت مرة ثانية. ان هذا الموقف العدائي من المرأة غير مبرر اطلاقاً، فعلى الرغم من ان اعداد هذه الفئة قليل جداً الا ان المرأة التي تترمل او تطلق بعد زواجها الثاني ، هي في جميع الاحوال بحاجة اكثر الى رعاية الدولة المجتمع.
كنا نأمل ان يلتفت المشرع الى النقص الذي شاب القانون النافذ عندما حصر حجز الراتب التقاعدي في حالتين فقط (النفقة الشرعية ودين الحكومة)، دون ان يعود الى القواعد العامة الواردة في قانون التنفيذ رقم (45) لسنة 1980، الذي قرر في المادة (82) منه: (حجزالراتب في ما يتعلق بالمهر)، اما مشروع القانون فلم يجز ذلك، اي ان المرأة لا تسطيع استيفاء مهرها المؤجل من راتب الزوج التقاعدي، حتى ولو لم تكن له اموال اخرى يمكن حجزها. وهذا يناقض امراً قرره الشرع والقانون لان حق المرأة في مهرها المؤجل، ثابت قي حجة زواجها.
بعد ان انزل المشروع الحد الاعلى للراتب من 100% الى 80% ، انزل حصة الخلف اذا كان واحداً – وهو في اغلب الاحيان (الام او الزوجة) – الى 65% بدلاً من 80 % من الراتب التقاعدي.وهذا يعني حصتها اختصرت مرتين في ان واحد، فاذا كان راتب زوجها التقاعدي (مليون دينار) على سبيل المثال فان حصتها ستصبح (000،520 دينارا) بدلا من (000،800 دينار) كما قرره القانون النافذ. وسيزداد النقص كلما زاد عدد الخلف من الاولاد والاب والام. من(90% الى 75%) اذا كان الخلف اثنين، و(من 100% الى 85%) اذا كان الخلف ثلاثة فاكثر.
كان المشرع في المادة(79/اولاً) كالغراب الذي اراد ان يقلد العصفور في مشيته ، فضيع المشيتين، فالمشرع هنا نظر الى قانون الخدمة المدنية رقم(24) لسنة 1960 الذي منح المرأة في التعليمات عدد (132) لسنة 1980 اجازة امومة امدها سنة واحدة، نصفها براتب تام والنصف الاخر بنصف راتب، ويحق للام تكرار التمتع باجازة الامومة اربع مرات طيلة مدة الخدمة، الاانه منحها في الوقت عينه في المادة(43)، اجازة حمل وولادة لمدة (72يوما) تتكرر مهما تعددت الولادات. الا ان مشروع القانون سحب ما ورد من تحديد في اجازة الامومة في قانون الخدمة المدنية، على اجازة الولادة والوضع، فحددها باربع مرات، وهي غير اجازة الامومة كما يلاحظ . ان الحمل والوضع حاجة انسانية وبايولوجية وشرعية وقانونية . فكيف تقسر المرأة على العمل او العمل بدون راتب اذا حصلت لديها حالة الحمل للمرة الخامسة، ولنفترض انها فقدت ابناءها في الحالات الاربعة السابقة، فهل تقسر على ترك حاجتها وحاجة الاسرة الطبيعية للولد.
ان هذا الامر يتطلب من المنظمات النسوية الانتباه الى هذا الحيف الذي قرره مشروع القانون للمرأة العراقية ذات العطاء الذي لا ينضب.
ان هذا القانون ولد ميتاً وسوف لن يشرع ، لذا فاذا كان القول الشائع : اذكروا محاسن موتاكم ، فان الحسنة الوحيدة التي تضمنها مشروع القانون، هي زيادة خدمة المتوفى اثناء الوظيفة الى (20) سنة بدلاً من (15) سنة، وعدم استيفاء الاشتراكات عنها.