23 ديسمبر، 2024 2:22 م

قراءة في مخاطر إغلاق النوادي الليلية وأماكن الترفيه في العراق

قراءة في مخاطر إغلاق النوادي الليلية وأماكن الترفيه في العراق

لو تمعنا في جملة القرارات والاجراءات الاخيرة التي إستهدفت النوادي الليلية وأماكن الترفيه في بغداد ، لوجدنا ان هناك مخاطر جمة تنجم عن مثل تلك القرارات المتسرعة، التي أقل ما يقال عنها ، أنها لم تكن مدروسة، ولم تستند الى دراسة بحثية إجتماعية نفسية وحتى دينية وأخلاقية ، بل كانت قرارات ارتجالية لاتصب في مصلحة الكثير من العراقيين ولا تخدم إستقرار بلدهم، ان لم تزيده تأزما وتصعيدا غير مبرر ، وتشكل في نظر المجتمع العراقي المتحضر تعديا صارخا على حرياته المدنية وتجاوزا على القوانين والتشريعات، وستترك تأثيرات غاية في الخطورة على مستقبل العراق والعراقيين ، ندرجها كملاحظات وقراءات مستفيضة للواقع العراقي وفق نظرة شمولية، وكالآتي:

1.   ان قرار إغلاق النوادي الليلية وأماكن الترفيه يفوق في حدته قرار تحديد شكل العلاقة المستقبلية بين العراق والولايات المتحدة، بل ان صانع القرار ينبغي أن يدرك ان هذا القرار يفوق في الأهمية تحديد مستقبل الاتفاقية الأمنية مع أميركا، كونه يتعلق بمستقبل وتفكير شعب داخل بلده، يتعرض لشتى أنواع الشد والضغوط، وحرمانه منها ، يزيد في تفجر الوضع الداخلي ويفاقم من أوضاع العراقيين، ويقلب الأمور على الطاولة ، خلافا لما يعتقده البعض من ان القرار سيعيد الهدوء والاستقرار الى بغداد والمحافظات، أو يقلل من الجريمة، كونه يمثل حرمانا لشرائح متوسطة الثقافة وأخرى من الوسط الاجتماعي المحترم ، من ان يكون بمقدورها ان تنفس عن كرباتها في جو عراقي مشحون، بكل أنواع القتل والأجرام والفوضى السياسية، وتفشي الفساد والبطالة بين صفوف الشباب وعموم الاوساط الشعبية، ما يعني قتلا لتطلعاتها ، في ان تجد وسيلة تنفس من خلالها عن كرباتها في الازمات ، وفي الحياة اليومية في مجمل مفاصلها.

2.   وحتى في زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو نبي الرحمة وباني الخلق ومؤسس القيم الرفيعة، لم يصل به الحد  الى أغلاق منافذ من هذا النوع كانت منتشرة في الجزيرة العربية انذاك، وقد أدرك (ص) انه رغم تعارضها مع الاسلام، الا ان القضاء عليها نهائيا سيؤدي الى تصدعات وتفكك اجتماعي وخلقي من نوع آخر ، ربما لم يتحمله المجتمع العربي في ذلك الوقت، وأزيد في تبيان المخاطر من ان دعوات بعض رجال الدين للسير نحو اتخاذ هكذا قرارات لاتنطلق من مصلحة دينية ولا قيمية ، ان لم تتعارض مع الدين نفسه، الذي حرم استباحة حريات الآخريات ولم يرغم أحدا على ان يدخل في دين أو عقيدة رغما عنه، بل كان دين السماحة والاخلاق الحميدة( لا إكراه في الدين ) ، وكثيرا ممن كانوا يرتدون اعمالا مشابهة للنوادي الليلية وأماكن الترفيه، أيام قيام الدولة الاسلامية ، في عهودها الأولى، كانوا على مرتبة عالية من المنزلة والوجاهة، لكنهم كانوا رجالا محافظين على قيمهم واخلاقهم، وكانت لهد أدوار مشهودة في القيادة والريادة، ولم تكن عليهم شائبة في سلوكهم وتصرفاتهم، وكانوا من أكثر الحريصين على رفع شأن الدين الاسلامي وإعلاء شأنه،دون المساس بقيمه وتعاليمه.

3.   وحتى يدرك من يتابع هذا الموضوع حياديتي ككاتب وباحث ، في الطرح والمناقشة، فأن كاتب هذه السطور لم يلج أيا من تلك الميادين منذ عام 1988 ، ولم يكن لديه من تلك الإهتمامات ، ليطمئن ممن لديه أي شك بأن تلك المناقشة نابعة من حرص اكيد على ان نحافظ على شعبنا ونخفف عنه أعباء الحياة ، وهي ثقيلة الوطأة في دولة تركت مواطنيها وهم بالملايين عرضة للفقر والتشرد والتهجير والبطالة وللاعتقالات والقتل وكل أشكال السلوك المنحرف، وفي بلد سادت فيه الفوضى، ودخلت اليه عصابات الجريمة من كل الاجناس والاقوام والملل ، وراحت أجهزة وأجندة تتحرك لتعبث بأمنه وإستقراره، كل يحركه وفق أهوائه وأهدافه اللاوطنية بالتأكيد، لأن الأجندة العراقية كانت غائبة في الأغلب، وحلت بدلا عنها النوازع الشخصية والانانية الضيقة والحزبية القاتلة والانتقام الغريب،ما غرس الكثير من الامراض النفسية والاجتماعية في الجسد العراقي، وأصابه بالكثير من الآهات والعاهات ومختلف أنواع الضغوط الثقيلة الوطأة، والتي لم تترك للانسان العراقي فرصة ان يلتقط أنفاسه، ويعيد بناء نفسه وفق اسس صحيحة وبناء سليم.

4.   ان من أوصى بإغلاق  تلك الاماكن، على رغم مشروعية القرار من الناحية الدينية، فانه انطلق من غايات تخدم توجهات رجال دين بعينهم، وهم وان كانوا ربما ينطلقون مما ورد في الشريعة الاسلامية، الا انهم في الجانب الآخر يتغافلون ما يوصي به خبراء علم النفس والاجتماع، وانطلقوا من نظرة آحادية غير شمولية، ولم يدركوا حجم الضرر الاجتماعي الكبير الناجم عن هكذا قرارات، لاتؤدي الا الى مزيد من التفكك الاجتنماعي والقيمي، بأن تنتقل أشكال السلوك المنحرف الى مناح  وتوجهات أخرى ، الى البيوتات لتتحول الى مرتع خصب للدعارة، كما جرى ذلك في التسعينات في العراق، فقد اتخذت في حينها اجراءات بهذا الأتجاه كان لها عواقب خطيرة ، بأن انتشرت تجارة البغاء والدعارة ، في العشرات من البيوتات في مناطق مختلفة من بغداد، وراحت المشكلة تتفاقم في خطورتها وتأثيرتها، وكان قرارا خاطئا وكارثيا انذاك ، وأدى الى نتائج عكسية، وسيؤدي القرار الجديد الى نفس الكوارث التي حدثت في التسعينات ومن قبلها وما بعدها، ويفترض ان لايتم التحرش بهكذا أنشطة اجتماعية، وربما فقد تحتاج لاعادة تنظيمها بطريقة لاتلغيها، بل تضع لها ضوابط ومحددات ،لكن كبحها وقمعها ومحاربتها بهذه الطريقة، فانها تنجم عنها مخاطر لاتحمد عقباها، أقل تلك الخسائر ان نسير بالالاف من أبناء المجتمع الى دروب ومسالك أكثر خطورة على مستقبل مجتمع يعاني التفكك والانحلال ، أكثر من عوامل التماسك والاندماج والوئام.

5.   ويفترض ان نمنح علماء النفس والاجتماع والإعلام الفرصة لان يدرسوا هكذا قرارات ويبينوا لنا مخاطرها وآثارها الاجتماعية على السلوك، وما تتركه من تأثيرات ضارة وهدامة، وتسببها في إشاعة انماط سلوك مرعبة ، وكان قرار إعادتها قبل سنتين أو ثلاثة صحيحا ومفيدا وينطلق من رؤية أكثر عقلانية ، ويفترض برجال الدين أن يشاركوا في صون تماسك المجتمع بأكمله ، من دخل دهاليز الدين وإنخرط في فلكه، أو ممن هو خارجه ولم ينخرط في سلوك ضار، وكان من المفترض تغليب عوامل النفع لا الضرر، وان تكون للقرار رؤية مستقبلية للنمخاطر الناجمة عنه، فما سيتركه من كوارث قد تفوق أهمية تقييد المجتمع او محاولة منعه من أرتياد هذه الاماكن، فبلد تسود فيه المخدرات على نطاق واسع ، ويميل الى الانفتاح على بعض سلوك المجتمعات العالمية ، هو عامل ايجابي أكثر من كونه عاملا سلبيا، عدا انتشار ظاهرة المخدرات التي تحتاج الى علاجات اجتماعية شاملة ، بأن تقتلع جذور البطالة من أساسها، وتبعد المجتمع عن فرض إملاءاتك السياسية عليه، حتى تترك له فرصة ان يتمتع ببعض أجواء الحرية ، في وقت يرى المواطن العراقي ان ابواب الحياة موصدة بوجهه، واذا بك تزيد عليه ابواب الغلق، فتضعه في طوق حصار جائر، فلا انت ترحمه وتخفف عنه معاناته، ولا تتركه ينفس عن كرباته، وهو في اشد حالات التدهور الحياتي والاجتنماعي، وتعود لتزج نفسك في متاهات قرارات تدخل نفسك في مواجهة من نوع آخر مع بقية  الشعب، ما يعني ان قرارات كهذه يجب ان تدخل في مختبرات علمية ونفسية، قبل الاقدام على خطوة من هذا النوع، وكأن من اتخذ القرار قد دخل في مواجهة مع شرائح اجتماعية واسعة، وادخل نفسه في عداء معها.

6.   ان من إحدى النقاط المهمة في معالجة تركات هذه الظاهرة هو في توفير فرص عمل ووظائف لالاف الخريجين والخريجات القابعين في دهاليز البطالة المقرفة، وتخصيص مبالغ أكبر في ميزانية الدولة ، من تلك التي تخصص الان للوظائف وفرص العمل، لكي لانخسر شعبنا بهذه الطريقة التي تركناه بها يتجرع السم الزعاف والعقلم ، بأن تركنا الملايين من الشباب يبحث عن اية فرصة عمل أو وظيفة ولا يجدها، وتجد الرشوة والفساد الاداري والمبالغ الباهضة التي يضطر الخريج والعاطل لدفعها للحصول على وظيفة أو فرصة عمل كبيرة جدا ، وليس بمقدورالا ميسوري الحال دفعها، او نرغمه على دخول ابواب الحرام والاعتداء على الآخرين وولوج ابواب السرقة لكي يبلغ بعض مراده، ما يضطره للانجراف في ولوج أبواب الحرام، وفي ركوب موجة الطيش الأعمى ، بان يجد البعض منهم ، في النوادي الليلية ، فرصة ان يخفف عما يتعرض له من ضغوط كبيرة عليه تشعره بعدم قدرته على ان يحقق آدميته، ولو في حدودها الدنيا.

7.   ان هناك نظرية ينبغي ان نحذر منها، وهو ان كل ممنوع مرغوب، فما تؤدي الى منعه، يعني أنك تسهم، بارادتك او بدون أن تدري، في إشاعة تلك الظاهرة، وتزيد من أشكال ظهورها، عبر أطر وأمكنة أخرى، قد تكون مخفية أو معلنة، لكن منعها هو الأخطر، وعلى من يتخذ القرار في هكذا موضوع خطير، ان لايتسرع في اتخاذ مثل هذه القرارات، وأن يدرس أبعادها وتوجهاتها ونتائجها، فقد يجد من الخسائر الباهضة ما يفوق فوائدها، بل ان فوائدها لا تضاهي حجم الضرر الكبير الناجم عنها، وفي مدى ما تتركه من تأثيرات انحراف سلوكي يتسع نطاقه في المجتمع، واذا بهذا السلوك قد اتخذ أشكالا لايكون بمقدورك مواجهته أو وضع حد له في المستقبل.

8.   ان عزوف آلاف الشباب عن الزواج ، بسبب الظروف الصعبة وعدم وجود فرص عمل، يشجع من ظواهر الانحراف، ولو تم تشجيع الشباب من خلال منحهم مكافآت ومنحا مجزية، ولو تم بناء مجمعات سكن للشباب أسوة بالدول المجاورة، لما وصلت الامور الى مثل تلك الظاهرة التي تفشت بشكل خطير، ونتائجها كارثية على مستقبل الاجيال،وما موجود من حلول لها ترقيعية في الأغلب، كونها تلامس الظاهرة، لكنها لاتضع حلا ناجعا لها.

9.   ان السيد وزير الدفاع سعدون الدليمي الذي زاملته لمرحلتين دراسيتين مهمتين والذي هم مهتم بشؤون علم الاجتماع ومؤسس مركز بحثي مهم منذ سنوات، والسيد الوكيل الأقدم لوزير الداخلية عدنان الأسدي ومن يتابعون هكذا موضوعات ذات مساس كبير بحياة العراقيين ، لديهم إلمام بجوانب هذا الموضوع ، وينبغي ان يضعوا هذا الموضوع في أولويات اهتمامهم، لكي لاينزلق المجتمع العراقي الى مهاو خطرة، ويكون العراق كذلك عرضة لانتقادات دولية  من مختلف الدول والمنظمات التي تجد في هكذا موضوعات، مادة دسمة لتوجهاتها، لتزيد في الطين بلة، وتمعن في تشتيت أوصال العراقيين، وفي البحث عن اية منافذ أخرى لهم من خلال تشجيعها للجريمة وللإيغال في مسالكها الخطرة، بوسائل أخرى والتي سيكون الدخول اليها من هذه البوابة من منافذها السهلة، مستغلين توجهات تحت طابع ديني، للسير بهذا الإتجاه، على غرار حملات سابقة، دون أن ندري، وكانت نتائجها ( كارثية ) مايؤثر على البناء السليم لمجتمعنا من خلال قرارات لم تدرك الجهات المعنية حجم مخاطرها على مستقبل العراق كبلد له امتدادات دينية وقومية مختلفة، وله مشارب وتوجهات شتى، مايؤثر بشكل خطير على مستقبل أجياله  وعلى تماسكه الاجتماعي بوجه عام.

هذا غيض من فيض، وهذه هي بعض الملاحظات السريعة، عبر مقال، وليس دراسة، إذ لوكانت دراسة لاحتاجت الى عشرات الصفحات، بل المئات، حتى يمكنها ان تلم بالموضوع ، وتبين مدى مخاطر تلك القرارات ، على صعيد المجتمع العراقي، وعلينا أن نكون أكثر حذرا في الانجرار وراء تلك القرارات، التي تترك تاثيرت ضارة، أكثر من كونها نافعة، ما قد يؤدي بمجتمعنا الى انزلاقات خطيرة ليست في الحسبان.