لأن كل نص أدبي هو بلا شك منظومة لغوية، إشارية، رمزية، لذا لم يعد الناص مضطرا للبقاء في دائرة الجمال التقليدي، بل أخذ ينزع بالجماليات إلى مسايرة التغايرات الفنية، والانحرافات السياقية، باشتراطات متمردة نحو احتمالات المدون والمحذوف والقابل للقراءة. فثراء الملفوظات في مجازاتها، والتناصات وإحالاتها، والاندغام بالبعدين الذاتي والانساني، كل ذلك يهيئ المتن الكتابي للانفلات من فضاء أحادي متواضع، تشكله النجوى، إلى فضاء مركب ومعقد، تتراكم فيه التفاصيل، وتشعباتها. وقد عكس النص الشعري الحداثي العراقي وعيا كتابيا تجسد في المغامرات الجمالية، والممارسات التجريبية، التي أظهرت تميزه في أكثثر من جانب إبداعي إذا ما قورن بالنص الشعري الحداثي العربي، فاللعب الترميزي، والتشكيل البصري، والتشاكلات اللسانية، والتقابلات المزدوجة، وغيرها من الفعّاليات الشعرية دعتنا إلى قراءة بعض المجموعات الشعرية تأملا وتحليلا وتأويلا، ومن ضمن هذه المجموعات، مجموعة (لن تشفى مني) للشاعرة بشرى الهلالي، الصادرة عن دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع 2017.
اللعب الإشاري
يبدأ اللعب الإشاري في المجموعة من العنوان الذي يحيل إلى حالة أقل ما يمكن وصفها بالسقم الأبدي الذي تنبأت به الشاعرة وهي تخاطب (الآخر) بكل ثقة بالنفس، وهذه الـ(لن) أتت هنا بالشكل المطلق التي سبقتها الـ(لم) المحذوفة والمصاحبة لحرف العطف الـ(واو). وقد اختارت الشاعرة عنوان إحدى القصائد لتشكل تعالقا عنوانيا للمجموعة ككل. فلنبدأ من تلك القصيدة، ونتوغل في مستوى التدليل الأولي في اللعب الإشاري والترميزي المتمثل بـ(الحاضر) المتحقق بإتحاد عنصري العلاقة بين (الدال والمدلول)، ومستوى التدليل الثانوي المتمثل بـ(الغياب) عبر تأويل مستوى الأول بما ترشحه الموحيات السياقية في النص، إذ تتحول علاقة التدليل الأولية بكليتها (دال ومدلول) إلى دال ثانوي يستدعي مدلولا ثانويا في ذهن القارئ (1).
تفتتح الشاعرة قصيدتها بثلاثة أسطر شعرية تمثل صيغة طلبية، أتت كغيرها من المفتتحات أو القصائد بلغة تقترب من اليومي والمعيش، وتبتعد عن التعقيد الكلامي، والمعاظلة كما وصف الناقد د. عبد الرضا نسيج المجموعة في الموازي النصي الذي ثبته الناشر في الغلاف الأخير:
“إسمح لي أن أتلو/ بعضا من ـأحزاني/ على جبل ضياعك”
لم تأت تلك الصيغة بفعل طلبي يوحي بغضب وإلزام طرد، أو ماشابه ذلك، بل أتت بانزياح بلاغي إلى التوسل الذي يتساوى فيه كل من العاشقين، الصيغة، ولكن الذات الشاعرة تنتبه إلى هذا التوسل، فترفضه معلنة أنها:
“أطلقت صرخة / ما كانت .. نداء استغاثة/ بل بركانا ../ ينسف كل تضاريسك”
فالحب لدى تلك الذات لا يحتاج إلى مفروض، ومطلوب إثباته، وبرهان، بل هو ومضة وصهيل، ولكن بكبرياء يليق بها؛ لذا لن تتوسل، ولن تمد يدها، وإنما ستضع طلقتها الأخيرة في قلب الـ(آخر) دون أن تقتله عبر صمتها الأبدي؛ كي يبقى دون الموت، أو الحياة، ويتأرجح بينهما بكل السقم الذي ارتأته الشاعرة:
“فمثلك .. لم يعتد/ صهيل نداء الروح/ لكني في صمتي/ أعدك .. بأنك ../ لن تُشفى مني”
لا تتجلى هذه الفاعلية الشعرية في المتون النصية فحسب، وإنما في العناوين أيضا، إذ تتوق الشاعرة إلى توظيف اليومي والمعيش في اختيار عنوانات، يؤدي الإنزياح اللغوي إلى تلك الفاعلية المبهرة في بعث الدهشة، ففي عنوان (تبادل أسرى) سعت الشاعرة إلى تفويض مفردة (أسرى) باحتلال الفضاء الكتابي لمفردة (قُبل)، وأخذ الحلم يقايض الحديد، ويطرده من مقره الثابت والقار، لتغدو جمالية العنوان أكثر إثارة في عنوان (سكة حلم)، ولم يدع الحب للرصاص وجودا في هذا الموت المتباهي بوجوده المغاير في عنوان (الموت رميا بالحب)، والفرح الذي عبرت عنه الشاعرة على الرغم من الحزن الذي شكل المهيمن الأكثر حظا في ثيمات المجموعة ككل، أزاح الرصاص من حيزه المعتاد في عنوان (كاتم فرح) ، أما في عنوان (صفحات لا تنسى) فقد اغتال الصوت، وتحول العنوان بهذا الفعل الانزياحي إلى استفزاز إدهاشي للقارئ، وفي عنوان (صفحات لا تنسى) تأرجح التأويل بين (صفعات لا تنسى) أو (أيام لا تنسى) وفي كليهما تصعد الفاعلية الشعرية إلى ذروتها لتمنح القارئ منذ البداية التهيؤ لدخول نص مغاير.
وحين نعود إلى المجموعة ككل، يمكننا القول إنها تسحر القارئ بطاقة شعرية عالية، تتصيّد الشاعرة فيها التركيب اللغوي الشفاف، والواقعة أو الحدث الشعري في توهج أخاذ، وهذا ما دعا الناقد د. عبد الرضا إلى تشخيص تقانات فنية عديدة كـ(المناجاة) والـ(الراوي العليم) والـ(السرد الوصفي).
التشاكل اللساني:
لم يكن التشاكل اللساني حديث عهد من أجل إيصال الصورة التي يريد الشاعر أو الشاعرة إيصالها، فالبنية السردية تتمظهر – أصلا – في القول الشعري مع البنيتين: اللغوية والإيقاعية، وقد حرصت الشاعرة بشرى الهلالي على إبراز اشتراطات القص في النص الشعري، بانسجام روحي بين الفعلين (القصصي/ الشعري) ؛ مما يحقق متعة ذاتية، ويؤدي إلى هدف نفسي واجتماعي، إلا أن تمركز القص في المجموعة لم يستطع إلغاء الانتماء الخالص للشعر، إذ استوعبت المجموعة بعض خصائص القص التي تمظهرت في صوغ أية حكاية يومية، بدءا من الراوي، وانتهاء بالقفلة السردية (الخاتمة) مرورا بالشخصية والزمان والمكان والحوار والوصف. ومن التقانات التي فعّلت حضور القص في المجموعة، وجود الذات الشاعرة بوصفها راويا عليما، تكفّل بروي الأحداث، وجسّد وصفها حينما اقتضت الضرورة ذلك، وحدد ملامح الشخصية، ورصد ما تقوم به، ووظف الكاميرا في تصوير الأشياء والأحداث، أي أصبحت الذات الشاعرة هي الذات الراوية التي قامت بكل ممكنات القص التي ذكرناها. فكثير من القصائد نهضت على تقانة الحوار، ومنها قصيدة (أحاديث ليلية):
“حلمت بك الليلة../ سألتك:/ أين أنا من عالمك/ أجبتني: / عجبا../ ومن سمح لك بالدخول في أحلامي؟”
وكثير من القصائد نهضت على تقانة المناجاة، ومنها قصيدة (مناورة):
“ماذا أقول../ لحنين../ يسري إليك/ يتجدد شبابه/ يتغذّى../ على خلايا الروح؟ كيف أهذب حزنا/ يتخذ من كريات دمي/ ألعاب طفولته”.
أما تقانة الراوي العليم فقد تمظهرت في قصائد المجموعة كلها، ولم نعد نمييز واحدة من أخرى.
لقد احتشدت مجموعة (لن تشفى مني) بتقانات كثيرة لا تتسع هذه القراءة لتناولها بشكل تفصيلي، وسنتركها لدراسة أكثر توسعا، منها تقاطبات الحضور والغياب التي هيمنت في المتون النصية على الرغم من كثرة التقانات التي فعّلتها الشاعرة في قولها الشعري، وقد شكلت تلك التقاطبات البؤرة المركزية التي نهضت عليها ثيمات المجموعة:
“فأحار/ كيف أجمع الدقائق الكسولة/ في صف انتظار؟ يا الذي أخذت الفرح معك/ في حقيبة سفر../ (جثير اعياد مرت وانت ما مريت) هو العيد ينتظر هلاله/ يا أنت/ فألعن الغياب ../ فقد ملّت يد الحجيج/ من رمي الجمرات”
وقد فعلّلت الشاعرة في هذا المقطع تقانة التناص أيضا كما فعّلتها في قصيدة (لا ترحل) (جالوالدة مضيعة ولد.. آه الولد). وقد توزعت هذه التقانة على عدة مسارات، ففي قصيدة (وإن غلقت الأبواب) جاء التعالق مع القول أو المثل الشعبي (أن تأتي متأخرا هو خير من ألا تأتي):
“كل الأبواب مغلقة / أطرقها وأنتظر/ عساها تفتح لي/ فهو خير من .. ألا أحضر أبدا”.
فضلا عن تقانة التناص الأدبي كما في قصيدة (من أنت) وتعالقها مع قصيدة (قارئة الفنجان) للشاعر نزار قباني. كما أن النحت اللغوي قد أعطى فاعلية شعرية للكلمة، كما في نحت (أشتاقك) من (أشتاق إليك) التي تشير الشاعرة في الهامش إلى تطابقها مع الحس الرومانسي، ونحت (عطشتك) من (عطشى إليك) وقد اختصرتها الشاعرة عمدا؛ لأنها وجدت تأثير (عطشتك) أكثر قوة حسب تعبيرها في الهامش.
وفي ختام القراءة بودي الإشارة إلى أن خلق حالات الإدهاش أتت طيعة وسلسة، وانسابت في عذوبة الصور المكتنزة بتوهجاتها، كيف لا والشاعرة على الرغم من كل ما قالته ذاتها من أنها ستفعل كذا وكذا، تعلن هزيمة الـ(س) التي لوحت بها كثيرا من أجل النسيان (سأنساك، سأطلي، سأضع، سأصرخ، سأهمس، سأعلن) فتكسر أفق توقع القارئ، وتنحاز إلى هدوئها الساكن داخلها، لخلق حالة إدهاش من نوع مغاير:
“أستودعك سرا: / في أي قرار / يسبقه حرف الـ(س) /لا .. تصدقني/ فأنا أكذب أحيانا”.