20 مايو، 2024 6:23 ص
Search
Close this search box.

قراءة في مجموعة (البحث عن اللون ) – تعددية مستويات المعنى ضمن بنية النص السردي

Facebook
Twitter
LinkedIn

طالعنا القاص حسن البصام بمجموعة قصصية عنوانها (البحث عن اللون) ، يمثل العنوان عنصراً هاماً من عناصر تشكيل الدلالة في القصة وجزءاً من أجزاء تشكيل الدلالة لأي نص أدبي ، والعنوان يفضح نفسه في الغالب ، بعض العناوين لها وظيفة تناصية وأخرى لتشويش الأفكار وأخرى تثير القلق أو التساؤل أو السخرية أو الابتسام … لقد كانت عتبة عنوان المجموعة القصصية البحث عن اللون ذات دلالة سيميائية متوهجة ونافذة رؤيوية تمنح القارئ الواعي وعياً أولياً بما يحمله العنوان من طاقة إيحائية تشد القارئ للولوج غلى عوالم المجموعة القصصية وسبر أغوارها واكتشاف شفراتها الدلالية وهذا ما ينطبق من حيث الوظيفة التناصية على  عتبات عناوين القصص التي تشكل هذه المجموعة والتي  تهيئ القارئ لتشكيل مفهوم من خلال تحويل بنية العنوان إلى مستويات تفسيرية متعددة المستويات تجعله يشكل رؤيته وفق صدمته الأولى من ثم اندماج وعيه مع مجريات النص القصصي وما يحمله من رسائل ذات مغازٍ إنسانية فنجد أن العنوان قد كان يحمل وظيفة محفزة في هذه المجموعة مما يثيره في ذات المتلقي وما يحدث في بعض الأحيان من صدمة تشكل لذة جمالية تعتمد على اكتشاف النص بواسطة رمزية العنوان الذي يتشاكل مع ذاكرة القارئ كما في عنونة بعض القصص بعناوين ذات إشارات كنائية   مثل ( البحث عن اللون / خارطة الذئاب / المعلم / رجل ملثم / القمامة / قصة لم تكتمل … ) .
لقد تنوع البناء القصصي في هذه المجموعة بين القصة ذات الطابع الشعري التي تظهر فيها تجليات مشاعر وأحاسيس الشخصية المركزية وبواطنها الدفينة وصراعاتها الذاتية أزاء الواقع المحيط بها كما في قصة البحث عن اللون والتي ظهرت فيها بصورة جلية مستويات متعددة من بواطن وجدان الشخصية وآلامها وآمالها وكم المعاناة التي تمر به حتى كان هناك شرح مستفيض لكل ما تقوم به وما تطمح إليه بلغة مكثفة قريبة إلى اللغة الشعرية من خلال القاموس اللغوي الذي تتموضع مفرداته الشعرية في البناء القصصي  :
(لازلت منذ عشرات السنين، أبحث عن السعادة، فلم أجدها مستقرة على حال، فهي تتألق في الإنبهارالأَول، ثم تتوسد الإعتياد.. وربما أراها مستلقية على ظهرها فوق راحة كف عملاق فتتوثب رغبتي تواقة لخطفها.. وكلما كانت عصية على أصابعي، إزداد تعطشي وإستعرت جرأتي.. نحن نرقص على الطبل لأننا لم نخسر الحرب.. وهو تأكيداً على إستمرار حضورنا.. ورقصة الزفاف طعنة في صدر العزوبية.. ورقصة اليد على البطن الممتلئة، موجهة ضد الجوع.. أنت تفرح جداً لأن إحساسك قادك إلى القناعة بأن المال هو السعادة.. أو الأنتصار في الحرب.. أو الشبع أو اللذة في الشراب أو العلاقة مع النساء.. إذن أنت الذي يلقي بنفسه في المكابدة والبحث.. أنت الذي أذلته أقدامه، ولف نفسه في الشرنقة التي سوف يجبر على أكلها أو التكيف معها أو التخلص منها.. أنت الذي أذل نفسه هنا، والآخر هناك، وكل منا له قيده الذي يتباهى إنه من صنع إرادته.) ص 5

كما جاءت بعض قصص هذه المجموعة ذات بناء يعتمد على عنصر الحادثة وانعكاساتها على شخوص القصة فنجد الكاتب يركز على عنصر السرد في شرح تفاصيل الحادثة ويسرد المواقف المتوالدة من تفجر الحادثة ومدى تفاعلها مع الشخصية وتأثيرها في توجيه حركية النص القصصي وترابط ثيماته وكأنها بؤرة مركزية تجتمع فيها خيوط القص وتمنح نسيج القصة تماسكاً ووحدة موضوعية وهذا ما يتجسد في ( قصة يوم الميلاد / القمامة /عشبه سوداء /سقوط نخلة) لهذا نجد أن الحادثة المركزية هي نقطة انطلاق نمو الحدث القصصي في هارمونية موضوعية ويكون كل جزء في القصة يتواشج مع السابق من تسلسل هرمي يختلف امتداد مقدمته لبلوغ (الذروة ) عن خط شروع الوصول إلى نهاية القصة  ويكون للسرد القصصي وما يضيفه التكنيك الإبداعي للغة السردية من شد القارئ وإدهاشه وكسر توقعه كما يرى  الأديب الامريكي ( ادغار آلان بو) الذي وصف بأنه أبو القصة القصيرة (( إن البداية الناجحة هي التي تحدد نجاح القصة أو إخفاقها ، أما النهاية ففيها يكمن التنوير النهائي للقصة وهي اللمسة الأخيرة التي تمنح الكشف عن الشخصية أو السلوك أو المتعه ، وفيها مفاجأة قد تثير السخرية أو الابتسام أو الارتياح أو حتى القلق والتساؤل )) هذا ما نجده في قصة (سقوط نخلة ) حيث بداية الحادثة التي هي مرتكز القصة وبؤرتها المركزية :
(كان الجدل عقيماً، لم نتوصل إلى أتفاق في الرأي ونحن نقف إزاء النخلة التي هوت ساقطة على الباب الرئيس لبيت الحاج عبد الله ، وسط عاصفة مشبعة بالأتربة ، حين تحول الجو بفعل زحف الظلام وتطاير التراب الناعم إلى لون رمادي خافت متجانس مع حافات أسيجة البيوت المتهالكة وهوائيات البث التلفازي التي صممت من عجلات الدراجات الهوائية ..) ص 47
بعد المقدمة يتنامى الحدث القصصي ولتكون خاتمة القصة مرتبطة عضوياً بمقدمتها :
(لم يتمالك أسعد نفسه صرخ بصوت عال أخترق الصوت مسامع الجميع كان الحاج عبد الله لايزال ماسكاً بندقيته حين سمع أسعد يصرخ (أحبك) رفع البندقية صوب أسعد، وأطلق عدة عيارات، تحول أسعد إلى صقر فارش جناحيه في كبد السماء.. ظلت بندقيته مصوبة نحوه بمزيد من الطلقات، وكل طلقه جمرة ملتهبة تسقط على رؤوس الناس، من أعالي السماء.. وحين تصيب أحدهم يتهاوى ميتاً في الحال، لذلك فقد مات الكثيرون..  وحين جف قلب النخلة، خرجت الديدان التي كانت تنخرها قبيل سقوطها، لتتسلل إلى أجساد الموتى، الذين إزداد عددهم حولها.) ص 49
 إن العمل الأدبي مهما اتسم بالموضوعية لابدّ من وجود انعكاسات ذاتية لأنه يحمل بصمة المؤلف الفكرية وتوجهه الأيدلوجي ومواقفه إزاء قضاياه الوجودية فالكاتب هو مجموع ما انصهر في وعيه المعرفي من معارف وأفكار وحوادث سابقة شكلت في مجملها وعيه الثقافي الذي ينتج منه موقف الكاتب تجاه واقعه وبذلك يؤكد حرية الكاتب في تقديم العالم على حقيقته ليس من موقف العداء بل من منطلق الحرية الوجودية والإلتزام فهو ليس شاهد زور على ما يحدث بل ليجعل المتلقي يندمج بعمله الأدبي ويتخذ موقفاً في تغيير الواقع وتشكيل وعي معرفي للوجود الموازي الموجب والأمثل  للحالة السالبة التي ترصدها رؤية الكاتب وتجسدها بعض الشخصيات وتكون بعض هذه الشخصيات ومنها الكاتب يقع تحت تأثيرات هذه الوقائع وما تترك من آثار كارثية سواء كانت على صعيد الفرد أو المجتمع فالكاتب لا يستطيع الانعتاق من سطوة واقعه وما يولد من تأثيرات تتكون منها مواقف واتجاهات القاص سواء كانت هذه الحوادث الواقعية ماضية أم ذات وظيفة حاضرة فالكاتب لا يستطيع الانعتاق من سطوة الماضي الذي يكون له نتائج حاضرة فبعض الحوادث المركزية في ماضينا القريب لا تزال آثارها وهزاتها الارتدادية حاضرة ومؤثرة في واقعنا وكأنها حوادث كونية تكتسب الاستمرارية من توالد نتائجها وتجلي ظلالها فقد تجسدت التغيرات الاجتماعية وسلط القاص الضوء عليها في معظم قصص هذه المجموعة فالماضي كان له حضور في حاضر القاص وما للحاضر من تأسيس للمستقبل فكانت من ضمن القصص قصة (رجل ملثم ) أو قصة (خارطة الذئاب ) تعكس هذه الإشكالية :

(من الممكن أن يكون البيت بلا أبواب.. ذلك إن أكف الحروب أطبقت على أعناق المعوزين .. فباعوا حليهم التي توارثها الكثير منهم، حلي موشاة بملامح أمهاتهم ومازالت تقطر عرقاً وسحنتها صفراء كجباه الأمهات الراكضات خلف رغيف الخبز.. إقتلعت من قلب المعوز إلى يد الصائغ.. ووصل الحال إلى خلع الأبواب والشبابيك وبيعها لإجتياز مفازات الجوع.. ولكن كيف تكون المدينة بلا أبواب.. هذا لا يمكن تصديقه.. تداخلت الأسرار، وإختلطت الأصوات، وإمتزجت آهات النشوة بصيحات الإستنجاد.. مدينة تحتضنها الصحراء، وهذا مادفع الذئاب للتوغل كسراً للمجاعة، لا يأمن أحد لقضاء حاجته في العراء، يتلبسه الخوف، ويتعبه التلفت.. وقد إندفع مجموعة من الأشخاص أغلبهم من الشباب للتصدي للذئاب.) ص14
 أو من خلال سرد الواقع الظلامي الذي تولد من تراكمات الماضي وكوارثه الاجتماعية ليشكل ظواهر اجتماعية تترك ندباً في ذاكرة القاص وترسم جراحاً اجتماعية لا تندمل وهذا ما تجلى في قصة (رجل ملثم ) :

(وضعت قطعة الخبز التي كانت في يدي على الماعون، ونهضت، ما إن أخرجت رأسي من الباب بأتجاه الشارع حتى إمتدت يد من أعماق المجهول، من جسد ضخم، مختبئ، وعلى مقربة منه، يقف رجل لا أميز ملامح وجهه، أعتقد إن رأسه مغطى بكيس أسود فيه ثقبين أمام العينين، لمحته، كان يقف مقابل الباب عدة أمتار، بينما كانت اليد التي لطمت وجهي، تقف بمحاذاة الباب من جهة اليمين.. وقعت على الأرض مرمياً من عنفوان الضربة مدفوعاً إلى باحة البيت ودوي اللكمة، هز قلوب أهلي، فتساقط الفزع والذعر وكاد أن يتلبسهم الجنون.. أفقت على سماء إنطفأت نجومها، وجدران ترقص رقصة الهنود الحمر حول صيدهم، وأرض تطوي نفسها وتبسطها تحت أضلعي، وتدور بي.. إنمحت خطابات العالم كلها إلا خطابي الذي واجهت به الحاضرين حول أسباب تخلف الأداء الوظيفي، والتي واجهني بها الملثم.. إنمحت كل مخزونات الذاكرة لحظة تمددي على وجهي فوق الأرض، إلا الصرخة التي سمعتها قبيل اللكمة : أنت أيها السافل تدعو إلى إلغاء المساجد؟!!.. ثم إنطفأ العالم.) ص18

مهما تختلف توجهات كتاب القصة القصيرة لكن عناصر بناء القصة تبقى مشتركة فنجد معمارية الشكل تتألف من هذه العناصر التي تؤلف في مجملها بصمة وراثية تتكون من نفس المواد الأسلوبية لكنها تختلف من حيث الملامح فعناصر القصة قد تجلت في هذه المجموعة وإن اختلفت في مركزيتها من قصة إلى أخرى كما ذكرنا آنفاً فكانت التراكيب اللغوية التي تعتمد السردية في تموضعها ضمن الكيان القصصي تتوافق ومقتضيات الطابع القصصي فنلمس اللغة ذات الطابع الشعري المكثف من خلال المفردات الموحية تقترب من روحية المفردة الشعرية والتي تكون خطاباً ذات سمة شعرية يعتمد الكنايات وتراسل الحواس وتتموضع ضمن هكذا قصص ذات طابع رمزي  الرموز التي تحمل مستويات متعددة تتشاكل مع ذاكرة ووعي القارئ الواعي :

(إرتشفت عيناه نظرتها الشفيفة، الحالمة كجنح فراشة، مسددة ببصرها نحو جسده المتناسق الذي استعار من الحجر صلابته ومن الورد رقته ومن الصفاء وسامته.) قصة (عشبة سوداء)ص 37

أو في هذا الخطاب القصصي ذات اللغة الشعرية المكثفة والمفردة المعبرة في قصة (ثقب طري )
(على خد هذه المدينة المشرقة في سماء السنين المظلمة، والتي بدت تذوي بفعل هذه التراكمات القاتلة فأصبحت كبحار هرم مستلق على سطح السفينة، يجترسفرأيامه.. إمتلأت نفوسنا بالتسابيح الخفية والأدعية المتصلة عند قيامنا وقعودنا.. تدفق الأيمان من قلوبنا كينبوع كتم أنفاسه الصخر، فأنبثق مرة واحدة يجتاح صحراء الجوع بسيل الطاعة والاستسلام وتأويل الأشياء تاويلاً لم نكن قانعين به قبل تتالي العواصف.. إنقلبت معايير المدينة وتفتت صلابتها.. الأحياء يحاورون الموتى.. لا أحد منا يعرف من يبكي على من !! تجهمت أيامنا حين إمتدت أذرع العاصفة وخطفت أبي وأخي بعد أن رحلا عنا دون أن نعثر على أثر لهما.. ربما إستجابا إلى تلك اليد في أعماق النهر، أو طمرتهما الأنقاض الهائلة، أو ظلا محلقين في أعالي السماء.. وعلى الرغم من فخامة الجزع الذي أصاب والدتي، إلا أنها إعتادت حزنها، ولم تمت لموت والدي رغم  تعلق أحدهما بالآخركما) ص51

 ونلمس أيضاً  اللغة التي تقترب من اللغة الواقعية الواضحة البسيطة في تراكيب تنقل لنا حالة واقعية معاشة لا تخلو من واقعية انتقادية لبعض الظواهر الاجتماعية كلغة الواقعية التفصيلية الواضحة التراكيب والتي تطابق مقتضى حال الشخصية الموصوفة أو كلامها الذي تنطق به أثناء الحوار في القصة أو ما يسرده القاص على لسان الشخصية  مثلما تجلى ذلك في عدد من القصص منها  قصة (الضيف) :
(عندما يكون منهمكاً في عمله المضني، وهو يدفع أمامه عربة ذات ثلاث عجلات، محملة بنفايات السوق وما لفظته المحلات إلى الشارع، قبل أن تقفل ليلاً، ليستقبلها فجراً بعربته التي تحدث صريراً قوياً في هذا الوقت المبكر من الصباح، مستعيناً بصفيحتين معدنيتين صغيرتين، ماسكا ًكل واحدة بيد، ويحمل ماتجمع في المزبلة ليرميه بخفة داخل العربة القذرة المسودة المتآكلة.. تنهال سخرية المارة دون أن تلقي بثقلها في نفسه حيث يغص السوق بالناس وقت الضحى، فيزدحم بنداءات الباعة , هي الأخرى تزعجه , لذلك لم تزر شفتيه إبتسامة عذبة، أو تسلل إلى عينيه بريق سرور.) ص31

يعتبر علماء السيمولوجيا إن اللغة أساس المعنى لذلك يكون للمفردة المكثفة أو للتركيب وظيفة محفزة في استثارة ذهن القارئ وفي تكوين مستويات للمعنى يتوالد من المستوى الأول ليشكل القارئ وجوداً ملموساً من خلال تكوين صور ذهنية تؤسسها تراكيب القاص السردية ويملأ القارئ الفجوات الموجودة بين البنى اللغوية  ليكون وجود متخيل يجعله مشاركاً في فعل النص ويخرج النص الأدبي من إطار الذات إلى الموضوع ليمثل تجربة إنسانية تتشارك فيها ذوات المحيط الجمعي الذي ينتمي إلى نفس القدرة اللغوية لدى القاص وهذا ما تشكله  اللغة ذات المستوى التعبيري المتدفق والمفردات الإيحائية في القصة التي تعرض أفكاراً وجودية  ذات أبعاد عميقة وتنقل القيم والأفكار النابعة من خلاصة التجارب الإنسانية الحية لأن كل الأشكال الإبداعية لايكون لها وظيفة ثقافية  إلا بقدر ما لها من معنى   وهذه الأشكال الإبداعية لاتؤثر بالمتلقي إلا بقدر ما يكون فيها من بنى مشتركة تشترك مع وعي المتلقي ومعرفته الذهنية في تكوين المعنى ففي مجموعة البحث عن اللون نجد مستويات متعددة للغة على حسب البناء القصصي كما ذكرنا آنفاً فاللغة القصصية السردية في القصص التي تهتم بالفكرة سواءُ كانت رمزيةً أم أسطورية أم تراثية تتناسب لغتها ومستوى الفكرة وتكون خطاب يؤدي وظيفته الحية ضمن الحيز الزمكاني وهذا ما يتجسد في بعض القصص ذات الطابع الفكري الفلسفي مثل قصة
( إعتراف رجل خارج المستطيل ) :
(إن غبائي يمنعني من رسم صورة تقريبية لنهاية زمن الإنسان، فهو يمنحني فقط لا حدود للرؤيا، انه يرسم لي نهاية مطلة على أفق مفتوح.. في هذه النهاية يتوضح إسلوب مواجهة العوائق وهي أما بالتحدي او بالإستسلام، وهذا القبول التنازلي ينحته على البياض إبهام الوحدة المرتجف، لذا فأني أفسر الصفعة على إنها فعل يضمر نية حسنة لإزالة العرق العالق فوق الخد، دون أن أرفع لائحة شكوى، أو أثقب قلبي لأسمع دويها فوق الخد إلى من يسمعني، لأني لم أجد في هذا الزمن المستقر فوق ظاهر الكف من يسمعني سوى رجل وجدته منصتاً لي بلهفة، ومحدقاً في ملامح وجهي التائهة، برثاء كبير، وإهتمام ملحوظ، أغرمت بوضوحه، فحين أبتسم يبتسم، وحين يعبس وجهي يعبس هو الآخر، فتصير سحنته قاتمة كسحنة رجل مقهور. جلست محدقاً في تفاصيل وجهه الداكنة. كان يوشك أن يهمي بفيض رذاذ أسود.. ) ص21/22

أو من خلال تشريح الرمز المكثف (المطر) وتعدد مرجعياته الإيحائية وفق الحالة الوجودية للإنسان وبيئته المحيطة وكأن (المطر ) يتجلى معناه وفق الظرف الذي يكون فيه ولهذا تتعدد مستويات معناه وتتجاوز حدود النص ففي قصة ( قصة لم تكتمل ) يشرح القاص دلالة المطر :

(الأغنياء يحبون المطر في كل الأوقات، لأنه باعث للأستراحة لهم.. ربما إستراحة إجبارية للذين صاروا حراساً لأموالهم.. وهم يختلفون عن الشعراء.. الشعراء يحبون المطر لأنه حديقة حزن متفتحة أورادها، يستنشقون شذاها، متأملين بأحساس مرهف، آفاق الأمنيات والخلاص.. أما الفلاحون فانهم يحبون المطر في وقت الزراعة ويكرهونه وقت الحصاد، إنهم مصابون بلوثة المصلحة، كيف يحب الأنسان ويكره الشئ نفسه، وهذا دليل على أن الفقراء، لا يعول على رأيهم في كل الأوقات، أو الأصح، لا يعول على رأي جائع، وهذه حكمة قديمة، حين تسألهم ماهو رأيهم بالمطر سيجيبون إن المطر خير، ولكن في قرارتهم تسكن اللعنة، لأنه سيقطع رزقهم إثناء هطوله وربما بعده، لعدة أيام، وهذا مما يجعل كلمة الأغنياء تمتلك أربع وأربعين رجلاً تزحف إلى أذن السامع، وتدخل إلى أذنه مباشرة، وتستقر هناك، وقد تمكث طويلا، لتتحول إلى الذاكرة للحفظ.. بينما كلمة الفقراء لا تمتلك مقومات التوصيل، او إنهدام أحد أركانها، وهو الشبع، إن الجوع الذي يشبه الأسمنت، يسد فتحة الأذن، ويلغي مسامات الذاكرة.) ص60

لقد كانت المجموعة القصصية ( البحث عن اللون ) تجربة متعددة الموضوعات والاتجاهات رصدت قضايا إنسانية على صعيد الذات أو المجتمع وتميزت بثراء اللغة السردية التي حملت مستويات متعددة من المعنى على صعيد الدال والمدلول فاللغة من خلال المفردة الموحية والتركيب تشكل وجوداً متخيلاً لما تولده من إيحاءات ذهنية وفق رؤية المتلقي وخزينه المعرفي  فكان لعتبات عناوين القصص وظائف دلالية تكون اختزال كمي لمضمون القصة وثيمتها المركزية وكانت العناوين مراكز بؤرية للقصة يرتبط بها النسيج القصصي لتمنحه تماسكاً ووحدة عضوية وهذا ما يجعل القصة مترابطة وفق وحدة موضوعية يتنامى الحدث فيها ويتصاعد ليبلغ إلى نهايته المفتوحة أو المغلقة وهذا ما يكون انعكاسا لما يمنحه المعنى من مستويات عاموديه مترابطة من حيث الذخيرة النصية لبنية النص السردي والتي تكون المنطقة المألوفة التي يشترك بها القاص والمتلقي ليكون للنص القصصي مكانة في العالم الثقافي المشترك بين القاص والقارئ لوحدة التجربة وتفاعلها وانتقالها لمرحلة جمعية يشترك بها أفراد المحيط الاجتماعي .

صدر عن مؤسسة المثقف في سيدني – استراليا، ودار العارف بيروت – لبنان، كتاب: البحث عن اللون للاستاذ الأديب حسن البصّام.
يقع الكتاب في 69 صفحة من الحجم المتوسط، وقد زيّنت لوحة الفنان التشكيلي حميد ياسين الوجه الأمامي للغلا ف.
اشتملت المجموعة القصصية (البحث عن اللون) على (14) نصا قصصيا، هي: (البحث عن اللون، المعلم، خارطة الذئاب، رجل ملثم، إعتراف رجل خارج المستطيل ، يوم الميلاد ، القمامـة ، الضيف، الهاتـف، عشبة سوداء، عقرب الثواني ، سقوط نخلة ، ثـقب طري ، قصة لم تكتمل).

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب