تكتسب مذكرات الصحفيين أهميتها من أهمية أصحابها وقربهم من مراكز القرار في الدولة ومؤسساتها الأعلامية. وقد نشر العديد من أهل الصحافة عربا وأجانبا مذكراتهم أو حواراتهم التي أجروها مع شخصيات سياسية أو فكرية معروفة. وتساوى في ذلك ما نشره ناصر الدين النشاشيبي ورياض الريس مثلا مع ما نشره مؤخرا مدير المكتب الأعلامي لرئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، وهو الصحفي ألستر كامبل في كتاب جاء بمئات الصفحات وتحت عنوان “وزر السلطة، العد العكسي نحو العراق”. ولكن كاتبنا الصحفي العراقي محسن حسين لم يشأ أن يطيل على قارئه ويتعبه بتفاصيل زائدة فجاء كتابه المنشور قبل أسابيع قليلة ضمن منشورات مجلة دبي الثقافية على 226 صفحة من الحجم الصغير، وقد ملأت صفحاته الصور الفوتغرافية (بالأسود والأبيض) المعبرة عن طبيعة الحدث وأشخاصه مع الحرص على حضوره الشخصي في الصورة المرفقة في متن الكتاب.
ومؤلف “من أوراق صحفي عراقي” محسن حسين، صحفي عراقي مخضرم، شغل منصب سكرتير تحرير المجلة الأولى في العراق، مجلة ألف باء الأسبوعية لمدة 15 عاما. وقد أشار الى تجربته تلك في فصل خاص ضمن كتابه-الأوراق والذي أهداه الى أحفاده الأربعة مؤملا أن يتعرّف الأحفاد على مسيرة صحفية لجدّهم زادت عمرا عن الخمسين عاما.
وكما ذكر المؤلف في مقدمته للكتاب فقد أصدر في عام 2005 كتابا بعنوان “ذكريات صحفية” لم يشر الى عدد صفحاته ولم يتبق منه الا نسخا قليلة، فقد ذهب أنفجار ظالم بالكتاب عند مكتبة ناشر في بغداد حينذاك. فلا بأس أذن من أن يعيد الكرة كتابة في مذكرات صحفية مجددا في كتاب ينشر مع مجلة ثقافية عربية معروفة.
ورغم أن هذه الأوراق الصحفية جاءت على شكل فصول منفصلة عن بعضها، قصيرة، تشبه القصص القصار لا يتصل أحدها بالزمن أو الخبر بالآخر، الاّ أنها ضمنت الأمتاع والفائدة للقارئ الذي يهمه أن يعرف من صحفي عراقي عاصر المؤسسة العراقية الحاكمة لخمسين عاما، تفاصيل العمل وطبيعة المصاعب والمشاكل حينذاك.
صفات رؤساء العراق في أوراق الصحفي
ومما يجذب الأنتباه فعلا هو ما أورده المؤلف محسن حسين من مواقف مهمة كانت له مع عدد من رؤساء العراق ضمن تاريخه السياسي المعاصر. وهو عندما كتب عن موقف أو حدث معين لم يعط رأيا فاصلا بل ترك القارئ يشاركه الفكرة والأستنتاج، وهو أسلوب درج عليه حسين في كتاباته الصحفية أيضا. فمثلا يروي أن صدام حسين قد فاجأه في شهر آب (دون أن يذكر السنة) بمشاركته في مسابقة صيد السمك التي أقامتها مجلة ألف باء. وقد ذكر عن ذلك ” قال لي انه يهوي صيد السمك وأنه قرأ في مجلة ألف باء عن المسابقة وجاء الى هنا كمواطن يمارس هوايته المحببة. وشاهدت الى جانبه سمكة كبيرة اصطادها بالفعل وبينما كنت أراقبه اصطاد سمكة أخرى”. كما ذكر أن عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية للفترة بين 1963-1966 كان قد عنّفه وتوعّد بغلق وكالة الأنباء العراقية (حيث كان محسن حسين أحد مؤسسيها) لأنها أذاعت نبأ قصف مطار عسكري من قبل الثوار الفيتناميين حيث قد يدل ذلك الأكراد العراقيين على أهداف حيوية.
كما ذكر مؤلف أوراق صحفي عراقي، الزعيم عبد الكريم قاسم وكيف انه قضى ساعات الصباح الأولى معه ليضع عنوانا لخبر قصير لم يتجاوز بضعة أسطر. يقول الصحفي محسن حسين ” كان الوقت الساعة الثانية عشرة ليلا وكان من المعتاد أن يقوم الزعيم بمعظم نشاطه ليلا. وعندما دخلت الى مكتبه كان هناك مدير الأستخبارات العسكرية محسن الرفيعي ومدير الأمن العام عبد المجيد جليل، وفي الحال قال لي أنه يريد أن يعطيني تصريحا عن قضية خليج الخنازير.
ومن الساعة الثانية عشرة ليلا حتى الساعة الخامسة والنصف صباحا كان يملي علي أقوالا ويعدلها عشرات المرات وكانت النتيجة تصريحا لا يتجاوز خمسة اسطر. وكمثل على ذلك أن اللقب الذي يسبق اسمه جرى تغييره مرات عديدة وأستغرق ذلك أكثر من ساعة. وكان حائرا اي الألقاب يناسب هذا التصريح: (أبن الشعب البار)، أو ( الزعيم الأمين)، أو (الزعيم الأوحد) وغير ذلك من الصفات والألقاب أو الأكتفاء بالرتبة العسكرية فقط”.
كما يذكر المؤلف جمال عبد الناصر وكيف انه الصحفي الذي أثار موضوعة عيد ميلاده في أول مؤتمر قمة عربي، وذكر هدية ملك المغرب له، وأشار الى لقائه بأحمد بن بيلا الثائر والرئيس الجزائري المعروف والذي كان أول رئيس للجمهورية الجزائرية في ايلول 1963، وكيف أنه سرّه بانه مغربي الجنسية وليس جزائريا، حيث ذكر بن بيلا أنه ولد في الجزائر وترعرع فيها ولكن والديه مغربيان.
بدايات على طريق الصحافة
ويشير صاحب أوراق صحفي عراقي فيما يشير أليه الى واقعة مهمة في التاريخ السياسي العراقي حيث حضر تفاصيلها بنفسه، تلك هي واقعة ما بدى أنقلابا على عبد السلام عارف أثناء حضوره مؤتمر القمة العربي الثالث عام 1965 في المغرب. ومما يعد غريبا حقا أن يوفد طبيب عراقي معروف كان وزيرا للصحة حينذاك وهو الدكتور عبد اللطيف البدري ليطمئن عبد السلام عارف أن الأنقلاب قد فشل وعاد الوضع الى طبيعته.
وفي أوراق محسن حسين العديد من قصص البدايات الصحفية له وكيفية تأسيس أول وكالة أنباء عراقية في عام 1959، حيث كان أحد ثلاثة من مؤسسي الوكالة والآخران هما المرحومان حميد رشيد وأحمد قطان.
ثم أنه في أوراق صحفي عراقي يبذل جهدا نظريا ليفصّل في أهمية الخبر الصحفي لنجاح عمل الصحافة ورسالتها. على أنه يشير الى ايمانه منذ بداية السبعينيات بنظرية الألماني هانس فايبر عن “التحزب في الأخبار” ولعل الصحفي محسن حسين اليوم يسمع عن اخبار أمبراطور الصحافة روبرت مردوخ وكيف عوقبت مؤسساته الصحفية في بريطانيا بعد أن كشف النقاب عن تجسس تلفوني مقصود بغية الحصول على الخبر والتدخل في الشأن السياسي والأجتماعي للبلاد مما أعتبر مخلاّ بأخلاقية العمل الصحفي وميثاق الصحافة التي لا يبرر التوصل الى غاياتها بأستعمال أية وسيلة متاحة.
مشاكل الصحافة العراقية
وقد فصّل الكتاب أيضا في بعض من مشاكل الصحافة وخاصة منها الأخطاء المطبعية حينذاك. كما ذكر الرقابة ودورها المحبط أضافة الى خبرته الشخصية مراسلا صحفيا ومراسلا حربيا ( حرب اكتوبر 1973). ولابد من أن أشير الى أن بعض الأخبار قد تكررت عبر صفحات الكتاب كما أن المؤلف قد ذكر بعض القصص مما ليس له علاقة بذكرياته الشخصية، ومن ذلك قصة ذاكرة الدكتور الطبيب عبد السلام العجيلي حيث جاءت خارج سياق الكتاب.
أن المؤلف الصحفي القدير محسن حسين كان من الممكن له أن يفصّل أكثر في الفصل الخاص بذكرياته في مجلة ألف باء وهو الذي عمل فيها لمدة تربو على 15 عاما في فترة من أحرج فترات التاريخ السياسي العراقي ولكنه آثر التلخيص والتكثيف، ولعله يخرج علينا يوما بكتاب خاص حول الموضوع حيث تظل الحاجة ماسة لذلك خاصة وأن المجلة –ألف باء قد سُدّت أبوابها منذ أحتلال العراق عام 2003 بعد ان كانت قد صدرت في بغداد في شهر مايس أيار 1968.