18 ديسمبر، 2024 4:19 م

قراءة في كتاب “كركوك: جدل الأرقام والسرديات

قراءة في كتاب “كركوك: جدل الأرقام والسرديات

مأزق الانتخابات في سياق تحولات ديموغرافية حالة انتخابات مجلس المحافظة”*
د. هاشم نعمة
كُتب لملف كركوك أن يكون من الملفات الساخنة، والذي يدور الصراع بشأنه على خلفيات طبقية-اجتماعية وقومية وسياسية وحزبية وفئوية وشخصية، بدلا من أن تكون كركوك نموذجا للتنوع الثر القومي والديني وللتعايش والسلم الاجتماعي.
ونظرا إلى أهمية هذا الملف على صُعد متعددة، ولما يختزنه من صراعات قد تتفجر في أوقات ما، ولتسليط الضوء على هذه المسألة الشائكة، اخترنا تقديم قراءة عن الكتاب المذكور لمؤلفه الدكتور خليل فضل عثمان، وهو أكاديمي وباحث، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2018، لعل ذلك يُسهم في حدث الفاعلين السياسيين على إيجاد تفاهمات حقيقية تصب في مصلحة سكان كركوك خصوصا، ومصلحة العراق عموما، وتخرج هذه المسألة من المأزق الحالي. يقع الكتاب في 196 صفحة. أتبع المؤلف في كتابه هذا منهجا أكاديميا، وتميز بالحياد على الرغم من حساسية هذا الملف.
يضم الكتاب توطئة ومقدمة وستة فصول وخاتمة وتوصيات بعنوان بحثا عن مخرج من النفق المظلم. وجاءت عناوين الفصول على النحو الآتي: كركوك وتحولات الدولة والهوية في العراق، وكركوك في متاهات التغيير الديمغرافي، وصعود لجنة المادة (140) وهبوطها، واتجاهات النمو السكاني في كركوك، وكركوك في سرديات المظلومية والظالِمِية العراقية، وجدليات الانتخابات وحق الاقتراع.
يذكر المؤلف في التوطئة إن القضايا التي أرخت بظلالها على العلاقة بين إقليم كردستان والحكومة المركزية في بغداد بعد عام 2003 كثيرة ومتنوعة. ولكن أيا من هذه القضايا لم تُثِر قدرا من الاهتمام، بل والمخاوف على مصير العراق برمته، كما أثارته مسألة كركوك. فالصراع على محافظة كركوك، الذي طالما أججته مزاعم متنافسة في شأن هويتها، يضرب بجذوره عميقا في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. وقد وجد هذا الصراع تربة خصبة في أجواء الانقسام السياسي الحاد الذي ساد البلاد، منذ الإطاحة بنظام صدام حسين؛ بحيث باتت مسألة كركوك محل تجاذب ومزايدات بين غرماء العملية السياسية في العراق. إن مساعي الأطراف السياسية الكردية منذ عام 2003 الرامية إلى ضم كركوك إلى إقليم كردستان، قد اصطدمت بأنواع متعددة من الرفض من العرب والتركمان والحكومة المركزية. ومع تصلب مواقف الأطراف المتنازعة، تنامت المخاوف من أن تتحول كركوك إلى برميل بارود مهيأ للانفجار في أي وقت.
يشير عثمان إلى أن الحديث عن انتخابات مجلس محافظة كركوك يتسم بمسحة من الخيبة؛ إذ إنه يفصح عن فشل متكرر في إجراء هذه الانتخابات جراء انعدام التوافق بين مكوناتها، فقد أطلت كركوك على كل موسم انتخابي ما بعد 2003 عقبة كأداء يستعصي حلها، فكان التأجيل غالبا ملاذا لاذت به الحكومات المتعاقبة بسبب عجزها عن التوصل إلى صيغة ترضي جميع الأطراف، وتتيح إجراء انتخابات لمجلس المحافظة.
إن استمرار رواسب الانتماءات ما قبل الوطنية خلال العهد الملكي، لم يتطور إلى نكوص تام نحو الهويات الفرعية. كان الزمان زمان طغيان الأيديولوجيات الراديكالية، بطبعتيها القومية والماركسية، على وقع انتصار الثورات الاشتراكية في العديد من البلدان، واتساع رقعة حركات التحرر الوطني. ولئن دل صعود الأيديولوجيات الراديكالية في العراق على شيء، على مستوى ديناميات حراك الهويات وتصادمها وتفاعلها في تلك الحقبة، فإنما يدل على تقدم الانتماءات الفكرية على الهويات الفرعية ما قبل الوطنية.
وعن الأحداث الدموية التي عرفتها كركوك يوم إحياء الذكرى السنوية الأولى لثورة 14 تموز، يذكر المؤلف “يمكننا الجزم بأن كما هائلا من الأحقاد الطبقية كان يعتمل ويفور في ذاك اليوم المأساوي من تموز| يوليو 1959 في صدور مرتكبي العنف بحق التركمان. فلقد شكل التركمان تاريخيا عماد طبقة كبار ملاك الأراضي والتجار وشريحة المتعلمين في كركوك، وكان بينهم عدد لافت من الموظفين في مكاتب شركة نفط العراق في كركوك، في حين أن أكثرية الكرد فيها كانوا من الفلاحين المعدمين أو العمال الكادحين من أصول ريفية” (ص 38).
دخلت كركوك دائرة الجدل حول الفدرالية الذي أججه إقرار النظام الفدرالي في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية عام 2004، ومن ثم في الدستور العراقي الدائم عام 2005 شكلا تنظيميا إداريا للبلاد. وفي حين استمر الكرد في المطالبة بضم كركوك إلى إقليم كردستان، تصاعدت في الوسط التركماني المطالبات بتحويل كركوك إلى إقليم خاص، أو أن تكون ضمن إقليم تركماني على شكل قوس يمتد من تلعفر في محافظة نينوى على الحدود العراقية-السورية حتى مندلي في محافظة ديالى على الحدود العراقية-الإيرانية، مرورا بكركوك وطوزخورماتو في محافظة صلاح الدين، ويُعرف باسم “تركمن إيلي” أي “وطن التركمان”. في المقابل، مال العرب في كركوك إلى رفض الفدرالية بشدة، خشية ضم كركوك إلى إقليم كردستان. وهكذا بدت كركوك في خضم هذا الجدل شكلا حادا من أشكال تحكم الهويات الفرعية في مجريات الحياة السياسية والاجتماع السياسي في عراق ما بعد 2003، وسعيها المحموم لتأكيد وجودها وإلغاء كل ما عداها.
التغيير الديمغرافي
التغيير الديمغرافي في كركوك فعل سياسي؛ أي هو نتاج سياسة مرسومة بقصد إعادة تشكيل الخريطة السكانية للمحافظة. فعلى الرغم من وجود اتفاق باعتماد سياسة ممنهجة كانت ترمي إلى “تعريب” كركوك، لكن الرؤى تتباين حول نقطة البداية التي شرعت فيها مشاريع التغيير الديمغرافي في كركوك. فلقد تبنى بعض الأكاديميين والسياسيين الكرد والغربيين موقفا يعزو الزيادة في نسبة العرب في كركوك إلى السياسات الحكومية المقصودة، والتي سعت لضمان سيطرة الحكومة المركزية على نفط كركوك عبر توطين العرب وتشجيعهم على الاستقرار فيها.
وفقا لهذا المنظور الموغل في هواجس مُستلة من عصر القوميات، بكل ما يضج فيه من سرديات مظلومية الأنا الجمعية بحسب المؤلف، يجري شطب كل العوامل الأخرى التي قد تكون مثّلت حوافز لانتقال أشخاص وعائلات من شتى مناطق العراق إلى كركوك من قبيل فرص العمل المجزية التي خلقها اكتشاف النفط في كركوك عام 1927، أو النقل الوظيفي، أو للاستفادة من كفاءات إدارية في إدارة ثروة وطنية.
لا شك اعتمد نظام البعث سياسات مختلفة لتغيير الواقع الديمغرافي في كركوك لصالح العرب، بما في ذلك تقديم حوافز ترمي إلى تشجيع أعداد كبيرة من العرب، ومعظمهم من السكان الشيعة في جنوب العراق ووسطه، على الانتقال إلى كركوك والإقامة فيها. وفي أواسط السبعينيات، وتحديدا عقب انهيار الحركة الكردية المسلحة، اعتمدت الحكومة العراقية إجراءات توخت تغيير الحدود الإدارية لكركوك، ومن ثم تركيبتها السكانية. وأضفت سلسلة من المراسيم الجمهورية على هذه التعديلات الإدارية غلالة من الشرعية القانونية.
إلى جانب ذلك، وزعت السلطات على أعتاب التعداد السكاني العام عام 1997 استمارات “تصحيح القومية” على السكان الكرد والتركمان والكلدو-آشوريين في مسعى يرمي إلى إجبارهم على تغيير قوميتهم إلى العربية. وكان الطرد من البيوت جزاء الرافضين ملء تلك الاستمارات. وقدمت الحكومة حوافز لتشجيع سكان كركوك على “تصحيح قوميتهم” إلى العربية.
في أعقاب سقوط نظام صدام حسين، باتت كركوك أسيرة هذا الماضي الأليم. وساد التباهي بالقوة العددية للمكونات السكانية. وجاء ذلك موصولا بتنامي الرغبة في أوساط الكرد والتركمان خصوصا، في تصحيح ما جرى من تغييرات ديمغرافية إبان حقبة حكم حزب البعث.
ما أن سقطت مدينة كركوك بلا قتال في أيدي قوات البيشمركة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني في 10 نيسان| أبريل 2003، حتى بدأ الكرد بالتدفق إلى المحافظة. ولم تسلم كركوك من حالات السلب والنهب التي شهدتها مناطق واسعة من العراق في أعقاب سقوط النظام. وتواردت تقارير في تلك الفترة عن عمليات طرد وتهجير قسريين للعرب من بعض مناطق المحافظة. وشهدت كركوك تدفقا آخر للكرد في الفترة التي سبقت انتخابات كانون الثاني| يناير 2005، والتي شملت ثلاثة اقتراعات متزامنة لاختيار أعضاء كل من الجمعية الوطنية الموقتة، ومجالس المحافظات، والمجلس الوطني الكردستاني الذي هو بمنزلة السلطة التشريعية في إقليم كردستان. وقدم الحزبان الكرديان الرئيسان جملة من الحوافز لإقناع المهجرين من أكراد كركوك بالعودة إلى المحافظة.
لجنة المادة (140)
في ضوء المرارات الذي خلفته محاولات “تعريب” كركوك وما صاحبها من انتهاكات وتهجير، وحتى القتل، لم يكن مستغربا أن تحتل مسألة كركوك، وغيرها من المناطق التي باتت تُعرف لاحقا بـ ” المناطق المتنازع عليها”، موقعا متقدما في المداولات التي شهدها العراق لصياغة دستور دائم بعد عام 2003. وأفلحت ضغوط الأكراد، وتجاوب أطراف شيعية فاعلة في العملية السياسية، في إدخال مادة في قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية الذي أُقر في آذار| مارس 2004، دستورا موقتا للبلاد إلى حين صياغة الدستور الدائم الذي جرى الاستفتاء عليه في 15 تشرين الأول| أكتوبر 2005 تعالج التغيير الديمغرافي في كركوك. لذلك سعت المادة (58) من قانون إدارة الدولة لإزالة ما لحق كركوك وغيرها من المناطق من إجحاف، تمثل بالتغيير الديمغرافي إبان النظام السابق، وأدرجت سلسلة إجراءات لمعالجة هذا الإجحاف.
لم يكن أمام السلطات العراقية متسع من الوقت لتطبيق كل بنود المادة (58) قبل سن دستور دائم. كما أن مؤسسات الدولة كانت منهكة ومتهالكة وتفتقر إلى الموارد والكفاءات اللازمة لتطبيقها، فضلا عن طبيعة الماد الخلافية، وما تثيره من حساسيات. وكذلك تداعي الوضع الأمني. وهكذا جرى ترحيل المادة (58) إلى الدستور العراقي الدائم. فقد ألزمت المادة (140) السلطة التنفيذية في العراق بتنفيذ كل بنود المادة (58) وحددت لذلك سقفا زمنيا هو 31 كانون الأول| ديسمبر 2007.
وبغية تنفيذ المادة (140) شُكلت “لجنة المادة 140” في 9 آب| أغسطس 2006 بموجب الأمر الديواني رقم (46) الذي أصدره رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. وشكلت اللجنة من 9 أعضاء، وهم 3 كرد و3 شيعة بينهم تركمانيان و2 سنة عرب وواحد كلدو-آشوري. وفي بداية تأسيس اللجنة كان يترأسها الأستاذ حميد مجيد موسى (سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي حتى المؤتمر الوطني العاشر) ثم رأسها لاحقا الأستاذ رائد فهمي وزير العلوم والتكنولوجيا الأسبق. وقد طرأت عدة تغيرات على هذه التركيبة على مر السنين.
وأدت الخلافات بين مختلف الأطراف حول صلاحية العمل بالمادة عقب التاريخ المنصوص عليه لإنهاء عملها إلى توقف اللجنة فعليا عن إصدار قرارات، باستثناء القرار رقم (7) الصادر بتاريخ 12 تموز|يوليو 2009 القاضي بـ “إعادة الراغبين من العوائل المُرَحلة والمُهَجرة والمُهاجرة الذين رُحلوا وهُجروا من المناطق المشمولة بأحكام المادة (140) من الدستور في وسط وجنوب العراق نتيجة سياسات النظام السابق” (ص 87).
إن المدة الزمنية التي حُددت لتنفيذ المادة لم تكن كافية على الإطلاق لحل القضايا والملفات التي توخت حلها في إطار مسار قانوني ودستوري معقد من أبرز سماته – شأنه في ذلك شأن أي مسار قضائي أو شبه قضائي- البطء في التنفيذ. كما أن ربط كركوك بمناطق متنازع عليها غير مُحددة بدقة جعل حل موضوع كركوك أشد تعقيدا. فالمادتان (58) و(140) لا تشيران إلى حدود المناطق المتنازع عليها، بحيث لا شيء يمنع منطقيا إدراج مناطق أخرى في العراق، ليست موضع مطالبات كردية، ضمن المناطق المتنازع عليها. وقد تحولت اللجنة بمرور الزمن إلى هيكل فارغ يشله انعدام المخصصات المالية. فاللجنة التي يرأسها حاليا هادي العامري لم تعقد اجتماعا لها منذ أكثر من سنتين (وقت صدور الكتاب).
جدلية الانتخابات وحق الاقتراع
يزداد سؤال أوزان المكونات ثقلا في المواسم الانتخابية، فالجدل بشأن التركيبة الديمغرافية في كركوك انسحب جدلا وخصاما ونزاعا حول تحقيق تمثيل مُنصِف للمكونات في مجلس المحافظة، وتحديث سجلات الناخبين في المحافظة، وتحديد من يحق له أن يدلي بصوته في انتخابات أو استفتاء يُجرى فيها. فالنزاع حول حق الاقتراع في كركوك، بكل ما يتسم به من تعقيد، يغدو شائكا أكثر لأن من المنطقي جدا افتراض أن قوائم الناخبين نفسها المُستَخدمة في الانتخابات ستُعتَمَد أيضا في الاستفتاء المثير للجدل على الوضع النهائي لكركوك. وأدى الجدل المحتدم المتواصل حول حق الاقتراع دورا في استثناء المحافظة من انتخابات مجالس المحافظات في عامي 2009 و2013، بحيث إنها لم تشهد إجراء انتخابات لمجلس المحافظة منذ عام 2005. لم يكن ذلك مفاجئا في عراق ما بعد 2003، حيث الهويات والانتماءات الضيقة لا تصغي سوى لهواجسها ومخاوفها، وحيث يسود مفهوم ضيق للتمثيل في المجالس المُنتَخبة يُنظَر وفقا له إلى الممثلين المنتخبين على أنهم يعملون لصالح مجموعاتهم العرقية والطائفية بدلا من الصالح العام وعموم الناخبين في دوائرهم الانتخابية.
وعند إمعان النظر في عدد المسجلين في قوائم المستفيدين من الحصص التموينية في محافظة كركوك يُلاحظ أنه شهد ارتفاعا قدره 438001 شخص بين كانون الأول| ديسمبر 2003 ونيسان| أبريل 2009. والمُلاحظ أن وتيرة التسجيل في بعض مراكز التموين سجلت ارتفاعا كبيرا خلال هذه السنوات الست، علما أن هذه القوائم هي من يتم اعتمدها في سجل الناخبين نظرا إلى عدم وجود تعداد سكاني عام جديد في العراق منذ عام 1997.
وتبدت مؤشرات على مظاهر شابت هذا النمو في سجل الناخبين في كركوك. فوفقا لبيانات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، شهد سجل الناخبين في كركوك خلال عملية التحديث التي أجريت قبل الاستفتاء على الدستور في تشرين الأول| أكتوبر 2005 زيادة بمعدل 45% مقارنة بالمعدل العام للزيادة في البلاد البالغ 8,2%. وتواصلت المخالفات في تحديث السجل في الفترة الفاصلة بين الاستفتاء على الدستور وانتخابات مجلس النواب في كانون الأول| ديسمبر 2005، ففي 7 تشرين الثاني| نوفمبر 2005، أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات أن تدقيقا لسجلات الناخبين في كركوك كشف عن وجود قرابة 86 ألف اسم أضيف “بأساليب لا تتواكب مع الإجراءات المعتمدة، وقد وجدت المفوضية أن هذه العملية هي محاولة متعمدة لتزوير العملية الانتخابية” (ص 162). وأعلنت المفوضية أنها سوف تزيل تلك الأسماء من سجل الناخبين في كركوك.
إن إلقاء نظرة فاحصة على جدول سجل الناخبين، يتبين أن عددا من المراكز شهد قفزات هائلة في التسجيل، وخصوصا بين عامي 2004 و2005. أما الصورة الكلية للتغيرات التي طرأت على أعداد الناخبين المسجلين في كركوك، فلا تبعث على الاطمئنان؛ إذ شهد عدد الناخبين المسجلين ارتفاعا بمعدل 27,99% بين كانون الثاني| يناير 2005 وأيلول| سبتمبر 2005. وهذه القفزة لا يمكن بأي حال أن تكون ناجمة عن زيادة طبيعية في عدد السكان؛ بحيث تُضاف أسماء الأفراد الذين يبلغون السن القانونية للاقتراع إلى سجل الناخبين، وإنما هي إلى حد بعيد، نتاج للزيادة المفاجئة في عدد السكان الناجمة عن عودة المُهجرين الذين رُحلوا إبان حكم صدام حسين.
يحيلنا ذلك كله، معطوفا على الكم الهائل من حالات الخلل التي اعترت عملية تحديث سجل الناخبين إلى فرضية حدوث محاولات مُمنهجة لزيادة عدد الناخبين المسجلين، لا بل حشو سجل الناخبين. وما قامت به مفوضية الانتخابات قبيل انتخابات 15 كانون الأول| ديسمبر 2005 من شطب أسماء وجدت خللا فنيا في تسجيلها كان قاصرا عن تبديد هذا الانطباع بعدم عدالة عمليات التسجيل ونزاهتها؛ لأنه إجراء لا يعالج كثيرا من أساليب الغش وحالاته التي لجأ إليها بعضهم في تسجيل الناخبين. هذا فضلا عن أن المفوضية لم تعتمد آلية لتحديد الأشخاص الحقيقيين – والمفترض أنهم كُثُر- الذين يحق لهم الاقتراع في كركوك، والذين ارتكبوا أخطاء غير متعمدة في ملء استمارات التسجيل أدت إلى شطبهم من السجل.
أُنشئت لجنة برلمانية بعنوان “لجنة المادة 23 من قانون انتخاب مجالس المحافظات”، وضمت نائبين كرديين، ونائبين عربيين، ونائبين تركمانيين، ونائبا مسيحيا واحدا، للعمل على تنفيذ بنود المادة، تتضمن مراجعة البيانات الديمغرافية الخاصة بكركوك، بما فيها السجل الانتخابي. إلا أن اللجنة التي اتفِق على أن تتخذ قراراتها بالتوافق أخفقت في تقديم تقرير موحد إلى مجلس النواب، لعدم تمكن أعضائها من تجاوز الاختلافات والتباينات في مواقفهم حول طرق حل الملفات العالقة، ومن ثم عمد ممثلو كل مكون على حدة تقديم تقرير منفصل، يتضمن رؤى المكون (بالأحرى رؤى النخب السياسية التي تدعي تمثيلها للمكونات) حول هذه الملفات ومقترحات لسبل معالجتها.
في أتون متقد بلهيب الاتهامات المتبادلة بالغش والتزوير للتأثير في عمليات الاقتراع، ما جعل من المتعذر شمول كركوك في أي انتخابات تالية لمجالس المحافظات. وكان الدفع في اتجاه استثناء كركوك من الانتخابات اللاحقة صادرا عن كيانات وشخصيات تمثل المكونين العربي والتركماني، في حين أن الموقف الكردي ظل مصرا على شمول كركوك في انتخابات مجالس المحافظات أسوة بسواها من المحافظات.
يختتم المؤلف الكتاب بالقول “أمام هذا الواقع الذي تتحول فيه الدورات الانتخابية لمجالس المحافظات في العراق إلى مناسبات لإعادة إنتاج المأزق الكركوكي على نحو أشد تعقيدا، نجد أنفسنا أمام سؤال ملح أشد من أي وقت مضى: هل من سبيل لإخراج كركوك من أعتى مآزقها؟” (ص 175).
* نشرت القراءة في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 413-414، تموز| يوليو 2020