23 ديسمبر، 2024 11:07 ص

قراءة في كتاب “قضايا في نقد العقل الديني”

قراءة في كتاب “قضايا في نقد العقل الديني”

يشكل النقد مكونا مهما من مكونات الإنتاج الفكري والابداعي، ودونه يصيب الركود والجمود المنظومات الفكرية والمعرفية ومنها الفكر الديني. وقد كرس مفكرون وباحثون جهودهم العلمية لنقد الفكر الديني ومنه الإسلامي لجعله متوافقا مع متطلبات وتطورات الحياة المعاصرة وما تشهده من تغيرات وتحولات سريعة في فترات قصيرة فما بالك عبر فترات طويلة الأمد. ومن هؤلاء المفكر محمد أركون الذي كرس حياته العلمية المديدة حتى وفاته عام 2010 لمشروع نقد العقل الإسلامي وتجديده مستخدما المناهج الحديثة في العلوم الاجتماعية والإنسانية. كذلك من الذين بحثوا بعمق بهذه الموضوعة صادق جلال العظم، ونصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، ومحمد شحرور وغيرهم. ورغم أن أبحاثهم القيمة تهدف إلى نفض الغبار عن التراث الإسلامي وغربلته لإبراز ما هو مشرق وصالح وترك ما عفى عليه الزمن وبات في عداد التراث الميت، رغم ذلك نجد القوى المحافظة والسلفية تشهر في وجوههم التكفير لتلجم كل تفكير حر متفتح.
ومن كتب أركون المهمة “قضايا في نقد العقل الديني.. كيف نفهم الإسلام اليوم؟” ترجمة وتعليق هاشم صالح، والذي ارتأينا تقديم هذه القراءة عنه. يضم الكتاب الموضوعات الآتية: إشارات تمهيدية، مقدمة المترجم، كيف ندرس الإسلام اليوم؟، خرق الحدود التقليدية، زحزحتها عن مواقعها، تجاوزها، الإسلام المعاصر أمام تراثه والعولمة، إضاءة الماضي لفهم الحاضر وفهم المستقبل، التسامح واللا تسامح في التراث الإسلامي، الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه في الفكر الإسلامي المعاصر، تشكّل الأصولية، التفاوت التاريخي، وتوليد فكر نقدي جديد عن التراث، المثقفون العرب والغرب: عصر التنوير، الحداثة، وما بعد الحداثة، الظاهرة الأصولية وإشكالاتها. الكتاب صادر عن دار الطليعة، ببيروت، الطبعة الرابعة، 2009، عدد الصفحات 335. أنه كتاب قيم جدير بالقراءة المتمعنة.
يلح أركون على دراسة الظاهرة الدينية كموضوع نظري والاهتمام بدراستها اهتماما شديدا في المجتمعات الإسلامية عربية كانت أم غير عربية. وهذه القضية العاجلة لا تنطبق على المجتمعات الغربية المعاصرة كما المجتمعات الإسلامية. لماذا؟ لأن هذه المجتمعات الأوروبية او الغربية تجاوزت الحالة الدينية للوجود وانتقلت إلى المرحلة العلمانية الحديثة. فقد حجم الفعل التاريخي للبرجوازية من التجاوزات السياسية أو النفسية-الاجتماعية للمؤسسات الدينية، أو قل لجمها وأوقفها عند حدها. ثم تلتها البروليتاريا وزادت في تحجيم التجاوزات الأيديولوجية للدين المسيحي.
إذا نظرنا إلى التاريخ نلاحظ أن الفلسفة قد تحدّت اللاهوت لفترة طويلة من الزمن ونافسته من أجل السيطرة العقلانية على الحقيقية. لقد مثلت الفلسفة الجهد الكبير الذي بذله العقل من أجل التوصل إلى استقلالية ذاتية كلية في أعماله النقدية. فالتراث الديني كان يفرض مقولاته بشكل قاطع ويشل العقل عن العمل تقريبا، حتى نهضت الفلسفة واستطاعات أن تحرر العقل من اسر القيود. وكان ذلك في العصر الكلاسيكي الأوروبي على يد ديكارت وسبينوزا وكانت… ثم ظهرت العلوم الإنسانية بعدئذ وساعدت الفلسفة على القيام بعملها، بل كادت أن تحل محلها مؤخرا. واضطر علم اللاهوت ذاته إلى استخدام
مقولات العقل النقدي ومنهجياته لكي لا يبدو متخلفا أو منقطعا عن العصر. وكل ذلك تحت ضغط العلوم الدقيقة والعلوم الإنسانية. هذا في حين أن اللاهوت الإسلامي لا يزال غاطسا في مناخ القرون الوسطى.
فقد أُتيح لأوروبا ما لم يُتح لغيرها. أُتيح لها الامتياز التاريخي في أن تكون أول مكان في العالم، بل والمكان الوحيد، الذي جرت فيه مواجهة طويلة وحاسمة بين نموذجين، الأول الدين بصفته ذروة روحية تخلع الشرعية على الدولة أو السلطة، أما النموذج الثاني فهو السياسة الدنيوية التي تبحث عن شرعيتها الكاملة في التصويت العام. وانتهى الصراع لصالح النموذج الثاني الذي يدعى بنظام الحداثة. فقد انتصر فلاسفة التنوير على رجال الدين في أوروبا.
إن المكتسب العلمي الذي حقتته الحداثة لا يزال يُشكل اللا مفكر فيه بالنسبة إلى لفكر الإسلامي المعاصر. المقصود بالنسبة للفكر كما يمارسه علماء الدين المسلمون في وقتنا الحاضر. كما ويشكل اللا مفكر فيه بالنسبة لكل أولئك (من مسلمين وغير مسلمين) الذين لا يزالون منغلقين داخل ما كان قد دعاه أركون بالسياج الدغمائي المغلق. ويقصد به السياج المشكل من العقائد الإيمانية الخاصة بكل دين والتي أُبقيت بمنأى عن كل تفحص نقدي أو علمي بسبب استخدام استراتيجية الرفض من قبل المؤمنين التقليديين. المقصود بذلك رفض العلم بحجة أنه اختزالي، والتأكيد على الطابع الذي لا يُختزل للروحانيات، ثم رفض الحق في الاختلاف الديني، أي في اعتناق دين آخر، ثم تغليب الوحي على كل معرفة بشرية.. إلخ.
ينبغي التخلى عن التحقيبات الزمنية الخادعة التي تفرضها علينا الكتب المدرسية، بل وحتى الكثير من الدراسات الأكاديمية والجامعية. فهي تسجننا داخل تحقيب ايديولوجي لتاريخ الفكر العربي-الإسلامي. ويعتقد الباحث أنه ينبغي تطبيق علم الاجتماع والأنثربولوجيا التاريخية على تاريخ الفكر الإسلامي لكي نتوصل إلى تحقيب آخر أكثر مصداقية وقربا من حقائق التاريخ والتركيبة الفعلية لهذه المجتمعات. هناك استمرارية ابستمولوجية بين أول تبلور لصيغة الإسلام في القرون الهجرية الأولى وبين الصيغة التي يتخذها الخطاب الإسلاموي الأصولي السائد حاليا. وهي استمرارية طويلة جدا وتلفت الانتباه حقا. المقصود هنا أن التدجين الاجتماعي للفرد الإسلامي لا يزال مستمرا حتى اليوم كما كان عليه الحال قبل ألف وأربعمائة سنة! وأن أنماط الإدراك والتصور، وأنماط المحاججة والتأويل ورؤية العالم لا تزال هي هي. بمعنى يمكننا التحدث عن “ابستميه” أصولية مدهشة في استمراريتها وطول أمدها وقدرتها على الانبعاث والتجييش حتى الآن. علما أن مصطلح “ابستميه” كان ميشيل فوكو قد بلوره لتحقيب الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة وحتى اليوم. وقد ترجمه هاشم صالح بنظام الفكر العميق أو الأركيولوجي.
الدراسات والمنهجيات التي ينتجها علم الاجتماع التاريخي قادرة على تعرية اللغة القديمة لكتب التراث الإسلامي وتفكيك بنيتها الداخلية، والكشف عن حجم الأسطرة أو الأدلجة التي تمارسها تحت عباءة المفردات والمصطلحات الدينية. وهي مفردات تبدو ظاهريا منزهة ولا غبار عليها، ولكنها في الواقع تخفي تحتها كل لعبة الهيمنة والسيطرة. والدليل على أن الخطاب التراثي أو الديني القديم كان ينطوي على شحنات أيديولوجية أو مضامين سلطوية مقنَّعة ومخفية جيدا تحت رداء المعجم الديني، هو أن خَلَفه الخطاب الأصولي الحالي يستخدم الطريقة نفسها.
إن التراث ليس إلا معنى واحدا من جملة معان أخرى، وأنه ليس أزليا ولا أبديا. وإنما قد يتعرض للتحول، والتجدد، والتغيّر بفعل العوامل التاريخية. وبالتالي فإن تطبيق منهجية النقد التاريخي على
التراث العربي-الإسلامي سوف يثير هزة كبيرة. وبالتالي فإن التحرير الكبير لجماهير المسلمين لن يحصل إلا بعد دفع هذا الثمن.
يرفض الكثير من المسلمين المتخصصين بالعلوم الدقيقة تطبيق المناهج النقدية الحديثة على التراث. إنهم يرفضون تطبيقها خارج نطاق اختصاصاتهم العلمية (كالفيزياء، والكيمياء…). والشيء المدهش واللافت للانتباه هو تكاثر عدد الأصوليين في أوساط المهندسين والأطباء والفيزيائيين…إلخ. فكان الاعتقاد السائد أن التخصص العلمي يبعد عن التعصب فإذا به يُقرّب منه، بحسب تعبير أركون. والمقصود بكلمة أصولي هنا ذلك الشخص الذي يرفض وضع أصول “الإيمان” على محك النقد والدراسة التمحيصية.
إذا لم يعد المؤرخ إلى الماضي البعيد فإنه لن يفهم الحاضر القريب. ينبغي القيام بهذا العمل الضروري والحاسم من أجل إعادة تأويل كل معجم المفاهيم والمصطلحات الموروث عن الماضي، أي كل التراث الديني في الواقع. ونعلم أن هذا المعجم مستعاد من قبل الحركات الشعبوية والإسلاموية الحالية دون أي تأويل أو تفكير أو تجديد، أنه مستعاد كما هو بشعاراته وألفاظه وأوامره ونواهيه! إذا لم نقم بهذا المسح التاريخي الشامل للماضي فإننا لن نستطيع تجديد النقاشات الجارية حاليا حول الفصل بين الدائرة الروحية| والدائرة الزمنية، بين المقدس| والدنيوي، بين المشروعية العليا| والسلطة السياسية.
تقوى المسلمين الأوائل وغيرتهم الشديدة على النبي وورعهم، كلها اشياء أدت إلى محو الصفة التاريخية عن هذه الشخصية وتحويلها إلى شخصية تقديسية مضخمة لا علاقة لها بالتاريخ تقريبا. وقد تولدت هذه الشخصية الجديدة في زحمة الصراع الحامي الذي دار بين مختلف الفئات الإسلامية في العصور الأولى. وبالتالي من الأفضل والأهم أن ندرس كيف تركبت تلك الصورة الأسطورية، بمعنى أن ندرس استراتيجيات الصراع على السلطة بين المسلمين الأوائل، وإبداع خيالهم الخلاق الذي ركب تلك الصورة التبجيلية المزيَّنة، وحاجات الأوساط الاجتماعية والمؤسسات الجديدة التي كانت قد أخذت تظهر في تلك الفترة والتي كانت بحاجة إلى تركيب هذه الصورة “الفوق تاريخية” للنبي. علما أن القرآن والأحاديث النبوية تشير بوضوح إلى الطابع البشري لشخصية النبي محمد.
لقد وصلت الأمور من التأزم إلى درجة لم نعدْ نستطيع أن نكتفي فيها بمجرد “إصلاح ديني” يتم داخل الأطر التقليدية لإصلاح القرن التاسع عشر. لا. نحن الآن بحاجة إلى ثورة فكرية حقيقية تذهب إلى أعماق الأشياء وتغيّر منظورنا جذريا للتراث. وهكذا بدلا من أن يستمر التراث كقوة معيقة تشدنا إلى الخلف في كل مرة، يُصبح قوة تحريرية تُساعدنا على الإقلاع والانطلاق الحضاري. ولكن هذا لن يتم قبل القيام بمسح تاريخي شامل للتراث. وهذا ما فعله أركون منذ أكثر من اربعين سنة من خلال مشروعه “نقد العقل الإسلامي” بالمعنى الألسني والتاريخي والأنثربولوجي والفلسفي لكلمة نقد.
إن تأجيل نقد التراث الإسلامي يفسح المجال لنشر رواسب العصور الوسطى على مستوى شعبي واسع وتعميمه في كل البلدان العربية والإسلامية. ويساهم في هذا النشر النظام التعليمي السائد الذي يتعارض مع المكتسبات الأكثر رسوخا لعقل التنوير وفلسفته. وهذا ما اطلق عليه بالاستخدام الأيديولوجي للتراث. فالتراث ليس مدروسا لذاته ومعروضا ضمن سياقه التاريخي وإمكانياته، وإنما يعودون إليه لتلبية حاجات الحاضر ولتقويله ما لا يستطيع قوله، وهنا تكمن المغالطة التاريخية أو الإسقاط بالمعنى الحرفي للكلمة.
لا يمكن أن تدحض كلام السلفيين المعاصرين بالنظريات الفلسفية الغربية. يُمكن أن تدحضه بكلام الشق الثاني من التراث الإسلامي ذاته، هذا الشق الذي بُتر وحُذف منذ أكثر من عشرة قرون بحد السف… وهذا البتر هو الذي أدى إلى انهيار العقلانية العربية-الإسلامية في العصر الكلاسيكي، بعد أن كانت قد شهدت صعودا رائعا ومدهشا.
كيف يمكن أن نفسر انبثاق الإسلام من جديد كنموذج أعلى للعمل التاريخي في عصرنا الحاضر، نموذج تتبعه الملايين وتعتقد بصلاحيته المطلقه حتى في هذا القرن الحادي والعشرين. بل إن الجماهير الشعبية تُطالب بهذا “الإسلام” بكل حماسه وعنف، إنها تطالب به اليوم أكثر من أي وقت مضى، وفي مختلف البيئات والأوساط الاجتماعية، وعلى قاعدة التصور الأسطوري لا التاريخي للقرآن والحديث النبوي. يقول الباحث لا يمكننا أن نجيب عن هذا السؤال إلا إذا أجرينا دراسة مقارنة مع ما يدعونه بالاستثناء المسيحي. فالمقارنة هي التي تضيء الحالتين. وبالمقارنة تتبين الأشياء. وهنا نكتشف نواقص التاريخ العام للأديان، هذا التاريخ الذي يكتفي بالسرد الوصفي المتسلسل لوقائع التجليات اليهودية، والبوذية، والمسيحية، والإسلامية… للعامل الديني.
أن نفكر ولو للحظة واحدة بالانعكاسات المدمرة الناتجة عن القراءة الحرفية الفظَّة للقرآن، هذه القراءة التي تفرضها اليوم الحركات الإسلاموية المتطرفة. وهي إذ تفرضها تمنع التطور أو تشل حركة المجتمعات الإسلامية، عربية كانت أم غير عربية، عن هذا التطور. إنها تجمد النص في لحظة معينة وتحول بالتالي دون انخراط هذه المجتمعات في العصر الحاضر أو إيجاد صيغة توفيقية مناسبة للتصالح مع الحداثة العالمية.
لماذا ننطلق من الظاهرة الإسلامية ومن تلك الفترة بالذات؟ ليس من أجل دحض قطب الجهاد عن طريق الدفاع عن إسلام أصلي، صحيح، يختلف عن الإسلام الأصولي الجهادي. وبحسب تعبير أركون، فنحن لسنا من دعاة التبجيل والتبرير. ولا نعتقد بوجود مثل هذا النموذج الإسلامي الأصلي الذي يمكن أن يشكل البديل الفعال والوحيد لنموذج الحداثة. هذا يعني أن التمييز بين الإسلام الحقيقي أو الأصلي والإسلام الجهادي العنيف لا يصمد أمام الامتحان على عكس ما يدعي التبجيليون المسلمون. فالصيغ الأصولية أو الجهادية للإسلام كانت متضمَّنة في النصوص التأسيسية.
كانت المحاولات الأكثر تعقيدا واصطناعا للتوفيق بين تعاليم الوحي الديني وتعاليم الفلسفة الإغريقية قد جرت على يد ابن رشد بالنسبة إلى المسلمين، وموسى بن ميمون بالنسبة إلى اليهود، وتوما الأكويني بالنسبة إلى المسيحيين الكاثوليك. (الأول توفي عام 1198 م، والثاني عام 1204 م، والثالث عام 1274 م).
لقد رفض التراث السني هذا الخط الفكري وفضّل التركيز على صورة الإسلام الإخائي الودي، والطقسي الشعائري، والشعبي. وأما التراث الشيعي فقد اتبع خط الفلسفة الإشراقية أو الصوفية-الباطنية. أما اليهود فقد وجدوا لهم ملجأ وملاذا في الدين الحاخامي والطقسي الشعائري المتأثر قليلا أو كثيرا بالصوفية الباطنية (أي تفسيرهم للتوراة صوفيا ورمزيا كما كان يفعل الأقدمون). وحدهم المسيحيون الأوروبيون واصلوا مسيرة التقدم عن طريق مقارعتهم أو مواجهتهم المستمرة للنجاح المتزايد للبحث الفلسفي والاكتشافات العلمية. وبالتالي فقد تجددت عقيدتهم بسبب هذه المقارعة أو بسببها. وهذا ما لم يتح لليهود أو للمسلمين أو للمسيحيين الشرقيين. ثم ظهر مارتن لوثر لكي يحدث انشقاقا داخل المسيحية عندما وضع حدا للأستاذية العقائدية الكاثوليكية وأعطى الفرد المسيحي حق
تأويل الكتابات المقدسة بنفسه أي بدون المرور بهرمية الكنيسة أو رجال الدين. ويعتبر المؤرخون أن المذهب البروتستانتي يُشكل المرحلة الأولى من مراحل الخروج على الدين الكهنوتي التقليدي.
الفترة الطويلة الممتدة من القرن الثالث عشر وحتى القرن التاسع عشر من حياة المجتمعات العربية والإسلامية كانت قد أُهملت دراستها زمنا طويلا. وعندما كان يتحدث المؤلفون عنها فإنهم كانوا يفعلون ذلك بشكل سطحي في الكتب المدرسية قائلين بأنها عصر انحطاط، أو سبات طويل، أو جمود أو عودة إلى الخرافات الشعبية. لا ريب في أنها احتوت كل ذلك، ولكنها تستحق دراسة معمقة وشاملة. لماذا تستحق كل هذا الاهتمام؟ لأن المجتمعات العربية والإسلامية الراهنة ناتجة عنها مباشرة. وبالتالي فلا يُمكن فهم المشاكل الحالية إن لم تُفهم تلك الفترة. وفي زمن الامبراطورية العثمانية الطويل لم يضاف شيئا جديدا إلى الثقافة أو الحضارة أو الفكر. ولم يساهم الأتراك في تشكيل الحداثة التي ابتدأت انطلاقتها في ذلك الوقت، وإنما ظلوا على هامش التاريخ مكتفين بقمع الشعوب الإسلامية الأخرى التي تشكل الامبراطورية، ومكتفين باستغلالها وجبي الضرائب الباهظة منها.
لو نجح التنوير الإسلامي، لما ظهرت الأصولية وملأت الشارع والبيت والمدرسة والجامعة وكل شيء… لو أن الحداثة الفكرية – حتى في صيغة القرن التاسع عشر- استطاعات أن تفكك أطر الفكر التقليدي لما شهدنا انتشار هذه الممارسات المتطرفة والخطابات العتيقة في الوقت الحاضر. والدليل على ذلك أن المسيحية الأوروبية عاجزة عن توليد حركات أصولية بمثل هذا الحجم والضخامة. لماذا؟ لأن عقل التنوير مر من هنا، ولأن منهجية النقد التاريخي أصابت المسيحية في العمق وعزَّلتها ونفضت عنها ركام القرون. وهذا ما لم يستطع النهضويون العرب أو المسلمون أن يفعلوه بالنسبة إلى التراث الإسلامي. رغم الاحترام لجهودهم وجهود شخصية كبرى مثل طه حسين. وبالتالي فالتنوير الإسلامي لا يزال أمامنا وليس خلفنا. ينبغي الإشارة أنه بعد ظهور حركة الإخوان المسلمين في الثلاثينات من القرن العشرين، فإن المثقفين الحداثيين خافوا وتراجعوا. وراحوا يقدمون التنازلات للتيار التبجيلي التقليدي الذي أخذ يكتسح الشارع. هذا ما تجلى في كتابات العقاد بل وحتى في كتابات طه حسين.
لقد حدث تغير فيما يخص الإسلام السياسي المعاصر أو الحركات الأصولية. فهذا الإسلام لم يعد يهتم بتطوير الفعالية الفكرية والتفسيرية للدين كما كان يفعل الإسلام الكلاسيكي. فالعمل السياسي هو الأهم بالنسبة إلى الإسلام المعاصر؛ إنه يتغلب على كل اعتبار آخر؛ إنه يتغلب على ضرورة إبداع مرافق فكري للممارسة الدينية أو الشعائرية، كما ويتغلب على أولوية البُعد الروحي المؤدي إلى التواصل مع مطلق الله. إن الحركات الأصولية الحالية لم تعد تفكر إلا بالقوة والسلطة، أو الوصول إلى السلطة بأي شكل. وهنا تحصل القطيعة بينها وبين الإسلام الكلاسيكي الذي شهد تعددية عقائدية مدهشة بين مختلف المذاهب الإسلامية من سنية وشيعية ومعتزلة وفلاسفة… إلخ. كما وتميز الإسلام الكلاسيكي بانفتاح فكري وعقلي عالي المستوى، وباهتمامه الكبير بالتجربة الروحية الصوفية. هذا كله انتهى بالنسبة إلى الإسلام المعاصر.
ينبغي أن يرى الباحثون الغربيون الذين اهتموا بدراسة الأصولية الإسلامية في السنوات الأخيرة، أن عنف الأصولية السياسية (سواء كانت مكسوة بالغلاف الديني أو لا) ليس فقط مرتبطا بعوامل داخلية غير مُسيطر عليها، وإنما أيضا يُمثل ردا على القوى التفكيكية للعولمة المفروضة من قبل استراتيجيات التوسع الاقتصادي والتكنولوجي للقوى الكبرى؟
لا ينبغي للمؤرخ بعد الآن أن يهتم فقط بالسلطة المركزية وكتابة تاريخها وتاريخ القطاعات المدجنة التابعة لها، وإنما عليه أن يكتب تاريخ من لا تاريخ لهم: كل الفئات المهمشة والتي كانت حتى أمد قريب خارجة عن نطاق السلطة المركزية.
إن إعادة دمج “الفئات المهمشة” داخل التاريخ العام للمجتمعات العربية والإسلامية يتيح لنا أن نفهم بشكل أفضل هذه الحركات الشعبوية الإسلاموية. كما ويتيح لنا أن نوسع التحليل ونفهم سبب استخدام الإسلام في فترات متقطعة وعلى مدار التاريخ كسلاح سياسي.
بما أن الإسلام يُعتبر من قِبل الباحثين الغربيين بمثابة المثال المضاد للمسيحية، أي الذي لا يقبلإطلاقا التفريق بين الدين والسياسية. وهي نظرة مفروضة من قِبل الأصوليين الإسلاميين والأدبيات الاستشراقية في آن معا، وبخاصة الأدبيات السياسية التي انتشرت مؤخرا كالفطر في فرنسا والولايات المتحدة وغيرها عن “الإسلام الراديكالي”. فهي تدعم تلك الفكرة القائلة بأن الإسلام دين ودنيا بشكل لا ينفصم. وهذا ما تُؤكده الحركات الأصولية ذاتها وإن يكن لأسباب أخرى. فالأدبيات السياسية الأوروبية تعتبر ذلك نقصا في الإسلام أو عرقلة للتطور. في حين أن الحركات الأصولية تعتبر ذلك علامة على اكتمال الإسلام وتفوقه على المسيحية. فالإسلام في رأي أركون يسمح بالعلمنة والحرية والتمييز بين الدين والسياسة عل عكس ما يتوهم الجميع.