بقدر اطلاعي أو بقدر ما سمح لي الوقت بالاطلاع عليه من اعمال روائية تناولت التاريخ روائيا او بروايات السير الذاتية، التى تناولت جانب او عدة جوانب من التاريخ لبلد ما أو مرحلة تاريخية ذات بعد كوني، شكلت مفصل مهم في التغيير التاريخي في تشكيل تاريخ جديد يختلف تماماعن ما سبقه من تاريخ او مرحلة تاريخية؛ فجمعيها تصدت له بطريقة مجتزئة، لم تسلط الاضواء الكاشفة عن الذي يجري في الخفاء، من معاناة الناس وقسوة وشراسة ما تعرضوا له خلال هذا التحول وايضا قبله من ارهاصات قادت اليه، مثلما تصدت الكاتبة الصحفية البيلاروسية، سفيتلانا بالمعالجة والتى هي اقرب الى الرواية، المتعددة الاصوات. لقد عالجت او اوضحت ما كان الناس يعانون منه، في المرحلة السوفيتية والتى استمرت لأكثر من ثلاثة ارباع القرن وما تخلل ذلك الزمن من حروب وتحولات كان اخرها؛ تفكك الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن العشرين، الذي كتبت عنه كتاب ” الزمن المستعمل” وهو العنوان الرئيسي للكتاب بالاضافة الى العنوان الفرعي” نهاية الانسان الاحمر”. فقد كانت الكاتبة قد اصدرت قبله ثلاث كتب على التوالي:” أخر الشهود” والذي عالجت فيه ما تعرض له،الناس في الاتحاد السوفيتي السابق،من قتل وتشريد اثناء الحرب العالمية الثانية، والكتاب الثاني” ليس للحرب وجه انثوي” كشفت فيه ما تعرضن له النساء خلال تلك الحرب ومن ثم الكتاب الثالث ” فتيان الزنك” وهو الكتاب الذي سلطت فيه الاضواء على المسكوت عنه من ممارسات الكذب والخديعة وما صاحب ذلك من مأسي خلال الحرب في افغانستان. قبل الدخول في قراءة كتاب، الكاتبة البيلاروسية، سفيتلانا؛ الزمن المستعمل او نهاية الانسان الاحمر؛ وكمدخل متواضع ومختصر، للولوج الى التجربة السوفيتية..لقد فشلت تلك التجربة فشلاً ذريعا، فهي لم تتمكن من بناء الانسان السوفيتي على الطريقة التى تريد له ان يكون عليها اي الانسان العالمي والذي لايحمل سواء هوية واحدة هى هوية الانسان الكوني الذي تذوب في ذهنه ونفسيته جميع الهويات الفرعية الاخرى، لتظل راسخة فيه، هوية الانسان الكوني العابر للحدود والجنسيات..هل كان السبب هو النقل الحرفي لطروحات ماركس وانجلز في الاقتصاد والسياسية والتأريخ، مع بعض الاضافات التى لم تمس جوهر الطرح الماركسي، سواء الطريقة التى بها تم تحويل الماركسية من الطرح الفذ على الورق الى الواقع والعمل بأنتاج نظرية العمل الماركسي، والتى اضافها لينين، لذا درج على تسميتها بالماركسية اللينينة، أم ان الخطأ في اصل الفكرة. أن الماركسية هي في الاساس اداة للتحليل والاستنتاج للاقتصاد وأدوات وقوى الانتاج والتأريخ والسياسة؛ ومن منصات متعالية، يتم أستخدام هذه المفاتيح لفتح باب أو أبواب الدخول الى نظام أقتصادي واجتماعي وسياسي جديد، يخدم الأنسان والبشر، وليس النقل الميكانكي والحرفي لها، الى الواقع العملي، وهي في الاول والاخير، جهد انساني ذكي، كشف قسوة واستغلال رأس المال لجهود وعمل الناس، من المؤكد ان الخطأ ليس في الفكرة او الافكار وانما في تطبيق تلك الافكار على صعد الواقع. وهنا يحضر امامنا نجاح التجربة الصينية، فهي اي هذه التجربة نجحت في احداث تنمية واسعة وعميقة في بنية المجتمع الصيني وحولتها الى ثاني اقوى اقتصاد في العالم ووفرت الرفاهية لأكثر من مليار وستمئة مليون انسان. لأن الصينين قد تعاملوا مع الماركسية كأداة للتحليل والاستنتاج ومن ثم البناء المرن على هديها، ولم يتعاملوا معها ككتاب مقدس او (كتاب سماوي). نعود الى كتاب الصحفية البيلاروسية، سفيتلانا، “الزمن المستعمل” والذي أرخت فيه نهاية الانسان الكوني، عندما تفكك الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينيات القرن العشرين وما رافق هذا من اعمال القتل والاغتصاب وحتى الذبح وتقطيع اوصال اجساد الضحايا. الكاتبة سفيتلانا، كتبت في هذا الكتاب، معاناة الناس بطريقة استقصائية وباصوات واعترافات الضحايا او من فقدوا احبة لهم في اتون تلك الجرائم، التى لم يتحدث عنها احد حتى الاعلام الغربي، الذي بارك في حينها هذا التحول او انهيار الاتحاد السوفيتي، لذا غض الطرف عنها ولم يسلط اضواء اعلامه عليها. فضح انهيار الاتحاد السوفيتي، ركاكة وهشاشة البنية المجتمعية في جمهوريات السوفيتية، فما ان استقلت تلك الجمهوريات حتى بدأت عمليات الثأر من الروس الذين حدث وتواجدوا في هذه الجمهوريات او ان تواجدهم هناك كان للعمل في مؤسسات الدولة السوفيتية في تلك الجمهوريات. تورد الكاتبة وعلى لسان الضحايا او احبة الضحايا من الذين، نجوا من عمليات الانتقام. في اذربيجان وجورجيا وغيرهما، وحتى في روسيا لرعايا تلك الدول التى كانت وفي وقت قريب وقريب جدا، جزءا من الاتحاد السوفيتي اي انهم مواطنون سوفيتيون او روس. حتى وصل الامر بالروس وهنا تقصد الكاتبة، الناس وليس المسؤولون؛ مطالبة رعايا دول الاتحاد السوفيتي السابق بالمغادرة والا فان القتل في انتظارهم. وبالفعل تورد الكاتبة وعلى لسان من نجا؛ من عمليات قتل وتقطيع في غابات روسيا، يتركونهم هناك طعما للضواري. وذات الامر كان قد حدث للروس في بقية الدول التى صارت بين ليلة وضحاها، مستقلة.”..فهناك ذبحوا فتى أرمنيا، وهناك ذبحوا فتاة طاجيكية.. وفي مكان أخر طعنوا أذرية بالسكين… سابقا كنا كلنا سوفيتيين..”. ” فجأة تحت النوافذ، تبادل أطلاق النار. في العاصمة.. في دوشانبيه. في المعمل كنا نساء عاملات، غالبيتنا روسيات. أنا أسأل” أيتها الفتيات، ماذا سيحصل؟” بدؤوا بذبح الروس..”. الحرية ولا شيء اخر غير الحرية هي من تبني الانسان وتجعل منسوب البشرية يرتفع فيه. وهنا نقصد بالاضافة الى الحرية الفردية، حرية الشعوب في تقرير مصيرها وليس الضم القسري بقوة السلاح وخارج إرادة تلك الشعوب، تحت شعار او ايدولوجية عالمية بسرديتها الكبرى في انتاج الانسان العالمي بهوية سوفيتية. وهذا ما جعل شعوب الاتحاد السوفيتي، ما أن ضعف أو تراخت قبضته، خلال عملية التحديث التى قام بها كورباتشوف في عقد الثمانينيات؛ تنتفض وتهاجم الروس العاملون في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وظهرت ايضا خلافات الحدود بين هذه الجمهوريات، والتى، البعض منها الى الان، مستمرة. لقد شهد الاتحاد السوفيتي اثناء حكم ستالين وفي درجة اقل كثيرا في العهود اللاحقة؛ عمليات أختفاء قسري وتصفيات جسدية للمعارضين من الروس ومن بقية شعوب ما كان يسمى في ذلك الحين بجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، بالاضافة الى السجون والمعتقلات التى تفتقر الى ابسط ما يحتاج إليه،الانسان، كي يستمر في العيش. الكاتبة البيلاروسية، سفيتلانا أليكسيفيتش؛ تقوم بإشهار تلك المعاناة وعلى لسان من عانى منها، في كتابها نهاية الانسان الاحمر او الزمن المستعمل. لقد أدت تلك السياسات الى تفكيك النسيج المجتمعي وبات الجميع يشك في الجميع. حتى وصل الامر في العائلة وهي في بيتها لاتتحدث في السياسة، مع بعضها البعض الا في مكان واحد داخل البيت،هو المطبخ، حتى درج الروس على تسمية هذه الاحاديث بأحاديث المطابخ. أي لعنة وأي قسوة وأي ظلم؛ ترسم الكاتبة سفيتلانا، صورته بالكلمات التى تستلها من أفواه الضحايا” .. كان يعرف من وشى به. : كان يشتم الرفيق ستالين.. أظهر له المحقق في أثناء التحقيق هذه الرسالة.. صبي من المعتقلين ركض هاربا.. عن قصد ركض كي يطلقوا عليه النار.. أطلقوا عليه النار في رأسه.. في يوم الانتخابات.. يقف المعتقلون السياسيون، والخونة، والسارقون، والعاهرات – ينشدون أغنية عن ستالين” ستالين رايتنا، ستالين سعادتنا..” تنقل لنا الكاتبة سفيتلانا وفي فصول أخرى من هذا الكتاب رؤية الروس وبقية شعوب الاتحاد السوفيتي عن ماحدث لبلادهم التى كانت في يوم ما واحدة من عظميين وازنا العلاقات الدولية، لتصير الى ما صرت اليه قبل مجيء بوتين، من خراب ودمار وبيع بالجملة لمؤسسات الدولة السوفيتية، ليتحول من كانوا يوما ما، هناك، في أعلى الهرم السوفيتي الى اصحاب شركات وتجار كبار في فترة وجيزة، لتذهب الافكار التى عاشوها او تعايشوا معها او الادق والاصح؛ الافكار التى حملوها في عقولهم ونفوسهم الى خانات الاهمال والنسيان الا القليل والقليل جدا منهم من ظل على ذات النهج. ماذا يعني هذا، يعني وفي أدق واهم مايعني؛ أنهم لم يكونوا مؤمنون أيمانا كليا وحاسما في الذي كانوا يحملونه من افكار..لجهة التطبيق القسري ومن دون ان يأخذوا في الاعتبار عند التطبيق الجامد والآلي، عطش الانسان الى الحرية.. وهو عطش فطري بالاضافة الى اهمال الحيوية الحركية للناس والمجتمع والرغبة الفطرية ايضا في شغف البشر الى الامتلاك ولو في الحدود المحددة والتى لا تسمح بأستغلال البشر..عليه وكما توضح الكاتبة ومن افواه الضحايا وبصورة غير مباشرة ولكنها واضحة وضوحا تاما؛أن هذه الاسباب هي من قادت الى ما اقادت اليه، من تفكك الاتحاد السوفيتي. ومن الطبيعي، أن الكاتبة لم تهمل المخطط الغربي الصبور والطويل النفس في الوصول الى ما وصلوا اليه، في التخلص كليا من اقوى واعظم قوة دولية منافسة، لهم، على مناطق النفوذ في العالم.”..-: روسيا من حيث احتياطيات النفط المركز السابع في العالم، ومن حيث الغاز المركز الاول في اوربا، المراكز الاولى باحتياطات خامات الحديد، والايورانيوم الخام، والألماس، والذهب، والفضة، والبلاتين…نتملك جميع مكونات جدول مندلييف. صرح لي احد الفرنسيين:- ولماذا كل هذا عائد إليكم؟ فالارض واحدة، لنا جميعا…-: أما الأوليغارشيون الروس فهم ليسوا رأسماليين،بل مجرد لصوص. واي رأسماليين يمكن ان ينتج عن الشيوعيين والكومسوموليين السابقين؟… نحن نعيش في بلاد خسرت الحرب الباردة..-: في ظل الاشتراكية كانوا يعدوننا بأن الشمس تكفي للجميع كي يعيشوا تحتها. أما الآن فيقولون شيئا اخر: يجب علينا ان نعيش حسب قوانين داروين؛ وعندها ستحقق عندنا الوفرة. الوفرة للأقوياء وأنا من الضعفاء…-: على بوابات معتقل سولوفيتسك كان الشعار البلشفي التالي معلقا” باليد الحديدية سندفع البشرية الى السعادة”. هذه احدى وصفات انقاذ البشرية.”… صحيح أن الامبريالية الكونية والمتوحشة ترسم في الغرف المظلمة؛ الخطط والمؤامرات وارء الابواب المغلقة بقوة وبأحكام للغرف المظلمة بماتنتج من نتائج ولكنها وفي الوقت عينه، مضاءة بأنوار الافكار الساطعة والواضحة كل الوضوح لطرق الوصول الى الاهداف التى يتبناها ويخطط لها على منضدة الرمل، ويضع مثاباتها وركائزها، العقل الاستراتيجي الامبريالي.. تلك المثابات والركائز هي من تتكفل أو تكفلت بتخليق الوضع المناسب لها في الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع والاعلام، على ارض الواقع الذي يسهل بلوغ الاهداف التى وضعتها على مسارات الواقع الذي يقود حتميا الى محاطاتها النهائية، وهذا ماحدث للاتحاد السوفيتي السابق. لكن هناك تسائل مهم وجوهري، وهو هل بالامكان يحدث ما حدث؟ ولو لم تكن المتبنيات الفكرية لناحية العمل، خاطئة وقسرية وتفتقر الى الحرية والحيوية وأعطاء الانسان حرية الرأي والتملك تحت سقوف معلومة بنظام وقوانين مؤسساتية أو عدم الوقوف امام انسانية، الكائن الانساني. من المؤكد لو أن الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، كانت غير ما كانت عليه في عهد الاتحاد السوفيتي السابق لما تفكك وانهار.. الكاتبة سفيتلانا تقدم لنا وبمهارة وادهاش مفيد وثري ومكتنز بأو جاع الناس و[صياغتها كما تنوه بهذا، ولكن بأفواه الناس في تلك المرحلة سواء اثناء حكم السوفيت او عند سقوطه وما تلا ذلك..” .. -: سرعان ما أعتقلوا أمي وأنا معها، كان عمري أربعة شهور. وتمكنت أمي من أن ترسل شقيقتي الى اخت والدي في القرية، ولكن وصل تبليغ من لجنة امن الدولة بإعادة الاطفال الى سمولسنك، البنتان ستكونان في ملجأ الاطفال. فقد تكبران وتصبحان شبيبتين شيوعيتين….-:…كنا نستمع الى (اذاعة الحرية). وفي العام الحادي والتسعين كنت اقف بالطبع في الحصار حول البيت الابيض، وكنت مستعداً بالتضحية بحياتي كي لاتعود الشيوعية…فالشيوعية عندنا كانت مرتبطة بالارهاب، بمعتقل غولاغ، بالقضبان…..:- كانت تخيفنا مرشدة الصف في المدرسة: اذا ما استمعتم الى اذاعة( الحرية) لن تصبحوا شبيبيين ابدا. وماذا لو عرف اعداؤنا بذلك؟ المضحك للغاية، أنها تعيش الان في (اسرائيل)..”.
كتاب الزمن المستعمل للكاتبة البيلاروسية، سفيتلانا أليكسييفيتش
ترجمة د- نزار عيون السود
من منشورات دار عدوان للنشر، اصدار عام 2018