القسـم الثـانـي :
وبعد أن اظهرنا ما بين دفتي كتاب المؤرخ العراقي الدكتور طارق العقيلي وما بيناه في القسم الاول وكيف أماط اللثام عن حقبة تاريخية مهمة في اكتشاف آليات التحرك السياسي و فلسفة التقلبات والتحالفات للنخبة السياسية الحاكمة في العراق . سنشير هنا في القسم الثاني الى ابرز الوقائع التاريخية الحساسة في تاريخ العراق المعاصر ( عهد الملك غازي حتى سقوط العهد الملكي ) التي أرخ لها المؤلف خلال الفصول المتبقية من الكتاب .
الواقع تركت وفاة الملك فيصل فراغاً قيادياً في سلطة الدولة العراقية الحديثة ، ليس على الصعيد السياسي الداخلي والعلاقات العراقية البريطانية فحسب ، إنما على صعيد الإنقسام الإجتماعي وإستشراء الطائفية السياسية بين النخبة السياسية الحاكمة معه . فقبل وفاته وتحديداً في عام 1933 اعترف الملك فيصل في مذكرة له مازالت محفوظة في الدار الوطنية للكتب والوثائق ببغداد ، بالصعوبات التي واجهته في تأسيس الدولة العراقية ، وفي عملية خلق أمة عراقية واحدة من المجموعات المختلفة التي يحتضنها العراق . إن الشكوى المرة التي بثها الملك فيصل في مذكرته كانت تنبع من تلمسه انقسام النسيج الإجتماعي الداخلي ، واستنادا إلى ما يورده المؤلف من نص المذكرة ، كتب الملك قائلا (” إن البلاد العراقية من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الإجتماعية ذلك هو الوحدة الفكرية {والملية } القومية والدينية ، فهي والحالة هذه مبعثرة القوى منقسمة على بعضها” ) . ويصب الملك حسرته في هذا المقطع من المذكرة قائلا
((العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية مؤسسة على انقاض الحكم العثماني ، تحكم قسما كرديا أكثريته جاهلة ، بينهم اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونهم للتخلي عنها بدعوى انها ليست من عنصرهم ، واكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصريا الى نفس الحكومة إلا ان الاضطهادات التي كانت تلحقهم كانت من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم وعدم التمرن عليه، والذي فتح خندقا عميقا بين الشعب العربي المنقسم الى هذين المذهبين)
والحق ليس من السهل على اي باحث في التاريخ العراقي أن يغض الطرف عن هذه المذكرة . ولذلك نجد الدكتور طارق العقيلي في مؤلفه قد عالج موضوعها بتأني ، فقد عدَ الملك فيصل ناجحا في أن يكون نقطة الإلتقاء ومركز الثقل لجميع المجتمع العراقي ولقواه السياسية والإجتماعية ، وأن يكون الموجه والموزان لحركتها ، فقد استخدم الملك ، حسب تعبير مؤلف الكتاب ، نفوذه من
اجل تقليل الإحتكاك والتصادم بين الأطراف المختلفة .بيد إننا نلاحظ أن الملك غازي ، حسب رأي المؤلف ،لم يكن بحكمة والده ولابموازاتها إذا ما اردنا المقارنة بينهما لاسيما عندما تفاقمت الأوضاع السياسية ونشوب الحركات العشائرية المسلحة في منطقة الفرات الأوسط بين عامي
1935ــ 1936 . ففي خضم هذه الحركات تداخل الدين والسياسة والمصالح الفئوية والذاتية ، فقد لجأت النخبة السياسية في بغداد الى تحريك رؤساء عشائر الفرات الأوسط ضد وزارة جميل المدفعي . كما لم تسلم من هذا التحرك وزراة علي جودت الأيوبي عندما اقصى بعض كبار رؤساء عشائر الفرات الأوسط من ترشيحات عضوية البرلمان مما اتاح لهم تأليب عشائرهم ضد وزارته . والملاحظ ان هؤلاء طرحوا مطالبهم امام المرجع الديني الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء على أنها مطالب شيعية . وفي نهاية المطاف كان المستفيد الوحيد من هذه المطالب كبار رؤساء العشائر والسياسيون القابعون في بغداد ، إذ لم تكن تلك المطالب من اجل مصالح الشيعة وإنما من اجل مصالح رؤساء العشائر الشيعية والمتحالفين معهم من السياسيين. والحق هذا يفرض علينا التذكير بما جرى ويجري في العراق الحالي وماشهدته بماسميت بها “ساحات الأعتصام” بقيادة رؤساء العشائر السنية في الأنبار والملتفين حولهم من المعممين والسياسيين وما آلت إليه امور المعنيين بالمطالب.
إن خلاصة مايمكن استناتجه من كتاب الدكتور طارق العقيلي ، بأن تاريخ العراق المعاصر حري بنا إعادة قراءته من جديد واستخلاص عبرته وكأن التاريخ العراقي يُعيد نفسه مرة اخرى بسلبياته كلها ابتداءً من انقسامه المجتمعي إلى طائفيته السياسية التي اعادها الإحتلال الأمريكي من جديد داخل اطار وهمي من الديمقراطية مروراً بعلاقاته الإقليمية والدولية . ولعل اكثر مايذكرنا بماضي العراق من ناحية الفكر السياسي التي تناولها المؤلف هم جماعة الأهالي الإصلاحية فعلى الرغم من تقدم فكرهم السياسي غير أنهم لم يكونوا قادرين على احداث نقلة في الهيكل السياسي للدولة العراقية . فعند مقارنتهم بأحزاب عراق اليوم نجد الخواء السياسي وتشرذم النسيج الإجتماعي ، فلا احزاب الإسلام السياسي الشيعي والسني نجحت في توحيد العراق ولا تكتل ومجاميع نخب الصدفة ومدعي السياسة قادرين على اخراج العراق من محنة تاريخه العقيم . واخيرا اقول أن المؤلف استطاع أن يجمع بكتابٍ واحدٍ روايةٍ تاريخيةٍ طويلةٍ لعهد قد مضى لكنَّ ما زالت آثاره السلبية قائمة لحد اليوم وتجلت بعدم اكتمال بناء مؤسسات الدولة في العهد الملكي ، واليوم نشهد كيف يهدّ السياسيون العراقيون وبمعية الإحتلال الأمركي ماهو أصلاً بعضَ أطلالٍ لدولةٍ أراد لها الشعب ان يعيش بكنفها عيشاً رغيدا .