17 نوفمبر، 2024 1:33 م
Search
Close this search box.

قراءة في كتاب “الجهاد في الغرب: صعود السلفية المقاتلة”*

قراءة في كتاب “الجهاد في الغرب: صعود السلفية المقاتلة”*

بات تكرر وقوع الأعمال الإرهابية في البلدان الغربية خصوصا في أوروبا من قبل الجماعات الإسلامية المتشددة، يستقطب الكثير من الاهتمام من قبل الكتاب والصحفيين والسياسيين والرأي العام، لكن ثمة القليل من الأبحاث الأكاديمية الرصينة التي تعمقت في تحليل الأسباب الجذرية لصعود الجماعات السلفية المقاتلة في الغرب. وإسهاما في هذا النقاش الهام اخترنا تقديم قراءة عن الكتاب المذكور لمؤلفه الباحث الدكتور فرايزر إيغرتون، ترجمه عن الإنكليزية فادي ملحم والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2017. اتبع المؤلف منهجا أكاديميا في التحليل والاستنتاج، واستند إلى الكثير من المصادر ذات الصلة، إذ غطت 60 صفحة من صفحات الكتاب البالغة 288.
يضم الكتاب مقدمة وستة فصول وخاتمة. وجاءت عناوين الفصول على النحو الآتي: مُلّا مجنون أم مقاتل من أجل الحرية؟، ما هي مشكلة هؤلاء الناس، يأخذنا إلى كل مكان: دور المخيال السياسي، وسائط المعلومات الشاملة وتكوين المجتمع المقاتل، حركة الانتقال من الفعلي إلى الأيديولوجي، لماذا أنا؟ دور السرديات الأوسع والوسطاء.
يذكر المؤلف في المقدمة أن هذا الكتاب يهتم أساسا بالسلفية المقاتلة في الغرب. ويلامس أيضا قضايا أخرى ذات علاقة بالإرهاب. فالإرهاب خصوصا نموذجه هذا، يشكل موضوع الساعة. وهو يدخل ضمن إطار منهجي محدد، تقوم فيه ظواهر قليلة بأسر الخيال الشعبي لمدة طويلة. فالسلفية المقاتلة أصبحت واحدة من أبرز الظواهر المثيرة للجدل في الحياة السياسية المعاصرة، بعدما حفّزتها بشكل خاص هجمات 2001 في الولايات المتحدة، وزادها قوة المزيد من القتل في مدريد ولندن وأمستردام وباريس. ودعمتها قصص عن كثير من التهديدات الأخرى التي يُنوى تنفيذها، أو التي حيل بينها وبين التنفيذ. لكن على الرغم من ذلك، وربما بسبب خطورة هذا الموضوع، لا تزال الخلافات حوله مستعرة في مسائل مختلفة مثل دور الدين، وتأثير المظالم السياسية، ومستوى الاندماج الاجتماعي، وطبيعة تهديد هذا النوع من الإرهاب ومداه. هذا ما نلمسه في الواقع، حين نجد أن معظم المحللين في هذا المجال لا يتفق في شأن أبرز العناصر المكونة للسلفية المقاتلة، والتهديد الذي تشكله.
تفسير الدّين
يدّعي السلفيون المقاتلون أن ما يحركهم أو يحفزهم هو تعاليم الإسلام، ويشددون على أنهم يعيشون ويموتون من أجل الواجب الديني. يبدو أن أفعالهم تعطي مصداقية أكبر لمزاعم كهذه، مع وجود كثير من الأمثلة عن نساء ورجال مصممين على الذهاب إلى الموت، بسبب اعتمادهم تفسيرا معيّنا للإسلام.
المشكلة هنا تكمن أن الاقتباس من الإسلام أو من أي دين آخر، يعني أن هذا الدين هو كيان من السهل تحديده وفهمه، في حين توجد مجموعة من النصوص التي تشكل معا تعاليم العقيدة الإسلامية، من الضروري تفسيرها وتحليلها أيضا. إذ إن من الممكن تفسير الآيات العنيفة التي يدّعي السلفيون المقاتلون أنها غير قابلة لأي تفسير بديل، بشكل مختلف، كما هو الحال في كل المفاهيم الدينية التي تعتمد على النص والدروس التاريخية، وذلك أمر يمكن أن يتسبب في اختلافات كبيرة. فعلى سبيل المثال، يشدد الشيخ المصري محمد سيد طنطاوي على السياق الذي وردت فيه هذه الآيات؛ فبالنسبة إليه وإلى آخرين، لا يمكن حمل هذه الآيات على محمل مستقل، عمومي وشامل، بل يُنظر إليها في سياقها التاريخي. فهي لا تدعو إلى شن حرب متواصلة على غير المسلمين، لكنها تسمح للنبي محمد بالدفاع عن نفسه في المدينة.
منذ مئات السنين كان المسلمون يعيشون في وئام اجتماعي وسياسي واقتصادي مع جيرانهم اليهود والمسيحيين، حيث تُظهر معاملة المسلمين لليهود بأن التسامح الديني(1) كان هو القاعدة وليس الاستثناء. وتُعتبر الأندلس المثال الواضح على هذا الأمر، وهناك غيره من الأمثلة: العباسيون في بغداد، والفاطميون في القاهرة، والعثمانيون (الذين استقبلوا اليهود السفرديم المطرودين من إسبانيا عام 1492).
ويرى المؤلف أن البحث في النصوص والتعاليم الدينية، للحصول على تفسيرات مباشرة عن الإرهاب يُعد أسلوبا غير مفيد؛ فبالإمكان إيجاد كثير من الدعوات التي ترفض العنف، إلى جانب تلك التي تدعو إلى العكس. وتتوافر لكل منها حجج متباينة كليا. بالنسبة إلى السلفية المقاتلة، يقع دور الدين في السردية الخاصة التي يُبلّغ عنها الشرع، من دون أن يوجبها، لكنها تصاغ لديهم وفقا لأشكال الفهم السياسي الذي يريده المقاتلون. ويجب فهم الجوانب الدينية والسياسية للقتال على أنها موجودة في سردية خاصة جدا، ترى في الغرب عدوا للأمة التي يشكل المقاتلون جزءا منها، الأمر الذي يستدعي بحسب تأويلهم ردا عنيفا جدا.
الاغتراب البنيوي
منذ حوالي نصف قرن، أعطى روبرت نيسبت دورا مركزيا لـنظرية الاغتراب في علم الاجتماع المعاصر، واعتبر أنها “وصلت إلى درجة كبيرة من الأهمية.” ويُعتبر هذا الادعاء صحيحا في كثير من الكتابات عن السلفية المقاتلة في الغرب اليوم. ويصف كثير من الكتّاب مبدأ الاغتراب بأنه حاسم وخطِر لفهم هذه الظاهرة. لكن لسوء الحظ لم يجر توضيح معنى الاغتراب دائما، ولا الأثر المحتمل الذي يسببه. وهناك في الحقيقة شقان رئيسان في عملية التنظير للاغتراب في السلفية المقاتلة، الفردي والبنيوي.
ويؤكد المؤلف أن الفكرة القائلة إن الاغتراب البنيوي يفسّر الانتقال إلى الراديكالية، ثم التشدد والقتال لاحقا، تحظى بدعم ملحوظ يتجاوز دعم الاغتراب الفردي. ويعتمد هذا التفسير عدد من المحللين الأكثر دراية في مجال السلفية المقاتلة. وهو تفسير يعتمد بقدر كبير على فكرة الاغتراب الجيلي التي تشدد على جذب السلفية المقاتلة فئة الذكور من الشباب على نطاق واسع. ويشير التحليل المستند على الجيل إلى أن جاذبية السلفية المقاتلة تكمن في الأوضاع غير المسبوقة التي يعيشها شباب هذه الفئة. وبحسب أوليفيه روا هناك ثلاث فئات: الجيل الثاني من الشبّان الذكور، والشبّان الذين جاءوا إلى الغرب من شمال أفريقيا أو منطقة الشرق الأوسط للعمل أو الدراسة، والمتحولون دينيا من (الأقليات العرقية غير المسلمة، مجرمون سابقون من ذوي البشرة السمراء أو من منطقة الكاريبي والذين أسلموا في السجن، مدمنون على المخدرات وجدوا في الإسلام خلاصا من الإدمان، أو أشخاص انظموا إلى رفاقهم المسلمين بعد تبنّيهم الكفاح والقتال). وهم عادة يعتنقون نمط الحياة الغربي، ويبتعدون عن التيار الرئيس للمسلمين.
يجد المقاتلون أنفسهم بعيدين في الوقت نفسه عن جيل أهلهم، وعن المجتمع الأوسع الذي يعيشون فيه. وفي هذا يقول روا: نحن لا نتعامل مع ردة فعل جماعة مسلمة تقليدية، بل مع إعادة صياغة دينية ملائمة لثورة عامة يقوم بها جيل هائم، يتأرجح بين جذوره الثقافية والحياة الغربية. ويصف معلق آخر “الراديكاليين اليوم بالسلالة الجديدة. وهم لا يثورون ضد مجتمعهم فحسب، بل ضد جماعتهم الخاصة نفسها، وزعمائها التقليديين”(ص57- 58).
لا يتفق المحللون الذين يعتمدون نهج الاغتراب البنيوي بشأن السبب الذي يدفع هؤلاء الشبّان إلى الشعور بالاغتراب. فيرى معظمهم أن المسلمين الغربيين(2) يعانون الرفض العرقي، وأن السلفية المقاتلة تقدم إليهم ملجأً من هذه المعاناة.
تشكل فكرة الإقصاء العرقي في المجتمعات التي يعيشون فيها، والتي شهدت ولادة كثيرين منهم، الجانب الأكثر شعبية في منهج “الاغتراب البنيوي”. من المرجح أن يكون المهاجرون السابقون قد تعرضوا لمثل هذه المعاناة، لكن شعورهم بها لم يكن على قدر شعور أبنائهم الذين يمتلكون توقعات بمستقبل أفضل، تفوق كثيرا توقعات آبائهم. فالأبناء الذين ولدوا في المجتمع الغربي لم يتوقعوا أن يتعرضوا للإجحاف الذي تعرّض له آباؤهم، ولم يقبلوه. وقام بعض الكتّاب والمحللين بشرح تفصيلي لهذا الإقصاء، فقدم كيبيل مثالا جيدا عن هذه الفكرة بقوله “لا دماء مسلمي شمال أفريقيا التي سُفكت فيما هم يقاتلون مع الجيش الفرنسي في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا العَرق الذي بذله العمال المهاجرون منهم، خلال عيشهم في أحول سيئة جدا لإعادة أعمار فرنسا (وأوروبا) في مقابل أجور زهيدة بعد عام 1945، لا تلك الدماء ولا هذا العَرق ساعدا أولادهم على الشعور بأنهم مواطنون في فرنسا أو في أوروبا”(ص 60).
وفقا لهذه المقاربة تُثبت السلفية المقاتلة فاعليتها؛ فهي تقدم هوية إلى أشخاص يتساءلون عن الهوية الخاصة بهم، بعدما شك فيها الآخرون وازدروها. أما في الحلقات السلفية، فيتم تذكيرهم دائما بأن عرقهم يتفوق على جنسيتهم، وبأن مسقط رأسهم أو عرقهم أو دينهم، أهم من البلد الذي يعيشون فيه. ويردّ هؤلاء الشبان على لغز اللاأدري، فيكتشفون لأنفسهم هوية جديدة، مؤكدة للذات وعابرة الأوطان، وهي أنهم مسلمون.
بحسب هذه المقاربة المهمة، يعتمد الكثير من الكتّاب المعروفين في هذا المجال الفكرة القائلة إن النقص في الهوية يدفع نسبة من الشبان المسلمين إلى البحث عن هوية بديلة، أو يحملها على تقبل بديل يُقدَم إليهم. ويرى خوسروخافار أن الاغتراب يقود إلى التطابق مع أقلية مسلمة راديكالية، ومن ثمة إلى شعور بالصداقة والتعاطف القويين مع مسلمين آخرين يعانون الظلم والاستبداد في مكان آخر من العالم. ومعاناة المسلم وتهميشه في المجتمع، يتراءيان له كانعكاس لمعاناة المسلمين في العالم كله. وتقوم أسباب المعاناة هذه، وهي الالتزام بالإسلام الحق، وعدوانية الغرب تجاه الإسلام والمسلمين، بترسيخ تصور ما عن علاقة نقية بين أبناء الدين الواحد. ويرى المؤلف أن شعبية هذه المقاربة الرائجة، والمعرفة الكبيرة التي يتمتع بها دعاتها، يجب ألا تحجبا المشكلات الكبيرة التي تلتبس بها. وهي مشكلات، في حال اجتماعها، تقوّض جديا مفهوم الاغتراب كتفسير وحيد لنهج الكفاح المتسم بالقتال.
عالج ماركس ودوركهايم (الذي يستخدم مصطلح التفكك الاجتماعي)، وسارتر وغيرهم مسألة الاغتراب وقاموا بدراسات تطبيقية على نحو مفيد حول مفهومه. لكن ما قام به أولئك الكتاب اللامعون، يختلف اختلافا كبيرا عن استعمال كثيرين اليوم لمفهوم الاغتراب في سياق الحديث عن السلفية المقاتلة. فنادرا ما يوضح مستعملو هذا المفهوم اليوم ما الذي يريدون قوله حين يطبقونه على هذه الظاهرة. وليس المقصود هنا أن الاغتراب لا يشكل أحد العوامل التي يمكن أن تساهم في التشدد، بل الإشارة إلى أن استعمالاته السابقة، لا تُظهر ماهيته بوضوح، أو كيف يعمل ويؤثر.
يشدد المؤلف على أنه قُدم القليل من الأدلة التجريبية لدعم الادعاءات التي تقول إن الشعور بالاغتراب يؤدي دورا أساسيا في السلفية المقاتلة. ولم يُنجز أي تحقيق منهجي حول طريقة وأشكال اغتراب السلفيين، وكيف أصبحوا كذلك، أي حول الادعاء التفسيري الرئيس الذي يقدمه كثير من المحللين.
يوضح بيب في تقرير منهجي عن الانتحاريين، إن قليل من هؤلاء كانوا “مهمشين اجتماعيا، ومجرمين مجانين، أو حتى فاشلين… ذلك أن معظمهم يمتلك شخصية تتناسب مع شخصية معاكسة تماما: فهم طبيعيون من الناحية النفسية، ويتمتعون بأوضاع اقتصادية تفوق المتوسط في مجتمعاتهم، ويندرجون جيدا في الشبكات الاجتماعية”( ص 67).
يقود هذا الأمر إلى نقطة فلسفية أوسع. فالاغتراب هو حالة معقدة ومتباينة ومتغيرة إلى حد كبير. وهو موجود بدرجات؛ إذ يختلف في البنية والعمق لدى الأفراد المختلفين، ولدى الفرد الواحد أيضا، في الوقت نفسه. فالقول إن أحدهم يشعر بالاغتراب هو اختصار لشيء أكثر تعقيدا. وإذا كان من الضروري التعاطي مع هذا التعقيد في التحليل أو غيره، فيجب إدراكه إدراكا كاملا والتبصر فيه. وهذه مهمة صعبة جدا، في نظر المؤلف، ولم تحصل في الكتابات الخاصة بالسلفية المقاتلة.
دور المخيال السياسي
لم يكن أبادوراي أول من أشار إلى دور المخيال وأهميته السياسية؛ ففي كتابه (الجماعات المتخيلة)، يصف بندكت أندرسون كيف سهّل التقارب بين الرأسمالية وتكنولوجيا الطباعة على الناس -أولئك الذين لم يلتقوا من قبل، ومن غير المرجح أن يلتقوا في المستقبل- عملية تخيّل أنفسهم جزءا من الجماعة نفسها، على الرغم من إقامتهم في أماكن متباعدة، ومن اعتمادهم أساليب حياة مختلفة. ووفقا للمنطق الذي يعتمده أندرسون، يمكن أن تقود هذه التغيرات في الأوضاع الكامنة إلى صعود أوهام سياسية بديلة، وهذا مهم جدا لفهم السلفية المقاتلة اليوم.
يذكر المؤلف أنه يجدر التشديد هنا أن المخيال السياسي ليس رحلة في الخيال، لكنه غير محدد ماديا. هناك أوضاع مختلفة تحدد كيف ينظر الأفراد إلى العالم، وكيف يعتبرون أنفسهم جزءا من هذا العالم. فمن خلال النقل الشامل للأخبار والحوادث بـ “اللغة المحلية أو القومية”، أصبح بإمكان الناس اعتبار أنفسهم فرنسيين أو ألمانا مثلا، وإضفاء هوية مشتركة على الآخرين في أماكن بعيدة، وفيما يتعلق بالأمة المقاتلة وليس بالدولة-الأمة، أصبح السؤال: ما هي العوامل التي تُسهل على الأفراد بناء المخيال السلفي المقاتل؟ إن المخيال السياسي السلفي يشتد حين يتخيل المجاهد نفسه مدافعا عن المسلمين في العالم. ويتكون هذا المخيال ويصير فاعلا عندما تجتمع حوادث عالمية منوعة، وتتداخل مع حوادث محلية. وأصبح هذا ممكنا في المرحلة الراهنة من الحداثة المعولمة.
كتب الكثير من الكتّاب عن التحول الدراماتيكي بين الزمان والحيّز (الفضاء المكاني)، وتأثير هذا التحول ما بين الحيّز والمكان. واعتمد هؤلاء الكتّاب عل ما سبق من الكتابات. وكان كارل ماركس قد توقع منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، “قضاء الزمان على الحيّز” لأن “رأس المال يخترق بحكم طبيعته أي حاجز في الحيّز المكاني … للسيطرة على الكرة الأرضية وأسواقها”. وفي منتصف القرن الماضي وصف مارتن هايدغر مرحلة بروز “اللامسافة” و”إلغاء كل إمكان لبعد المسافة”(ص 84). وقبل نصف قرن، كان من الممكن اعتبار هذه التأكيدات سابقة لأوانها. لكن الكثير منها تحقق، نتيجة تغير العلاقة بين الفضاء والمكان.
يُعتبر الحنين إلى الماضي، أمرا شائعا في جميع المجتمعات. ومن الممكن ألا ينجم هذا الحنين مباشرة عن ذكريات موضوعية بالكامل، لكنه يتشكل من ذاكرة حوادث معيشة ومختارة، وينمو بتأثيرها. يرتبط الأمر كثيرا بالإعلام وحركة الانتقال اللذين ينشآن سياسية حنين تعتمد على شيء آخر غير التجربة. في الواقع ينطبق هذا الوضع على السلفية المقاتلة، إذ تقود ظاهرة اضمحلال الحدود الجغرافية (نزع الصفة الإقليمية) إلى تصور مجتمع سياسي بلا حدود إقليمية. ومع تراجع أهمية الموقع الجغرافي، أصبح بالإمكان خلق موقع جغرافي خيالي، حيث لا تعود هوية المرء مرتبطة بالمكان الذي، ما عاد بدوره، مرتبطا بمعرفة المرء وخبراته. لا يعتبر السلفي المقاتل -وهو نتاج المخيال السياسي- أن الأمة من وحي الخيال. علما تأتي فكرة الأمة، وهي مركزية في مشروع السلفية المقاتلة، من وهم يقود إلى الحنين، لكنه حنين بلا ذاكرة. وتسمح حركات الانتقال الكبرى للناس بتغيير مستمر في هوياتهم، وتعرضهم لمجموعة أكبر من الاحتمالات التي يمكن أن تؤثر في مخيالهم السياسي. وليس هناك أفضل من السلفية المقاتلة لإظهار هذه الصورة.
إن التصورات السياسية للسلفيين المقاتلين في الغرب اليوم ليست حنينا إلى عالم تركوه وراءهم، بل هي إعادة تخييل لعالم لم يشاهدوه من قبل، وليس موجودا إلا في مخيلتهم الجمعية. وتُعتبر وسائل المعلومات الشاملة العامل الأساس في هذه العملية، وهي التي تسهل إنشاء مشروع سياسي منفصل عن تجربة حية أو معيشة. فلم يكن أعضاء مجموعة هوفستاد (نسبة إلى مدينة لاهاي) يهتمون كثيرا بالحوادث الجارية في المغرب، مسقط رأس معظم آبائهم، إلا إذا تلاءمت مع نظرة السلفية المقاتلة، وشكلت جزءا من معركة وجودية بين الإسلام والغرب، إذ كانت اهتماماتهم عالمية أكثر منها محلية.
تكوين المجتمع المقاتل
يقول أحد المحللين، الذي أنجز بحوثا كثيرة عن المواقع السلفية على الإنترنت: إن “التواصل مع متعاطفين آخرين ينشىء نوعا من المجتمع الافتراضي، وشعورا بالوحدة والانتماء إلى جماعة وقضية. ويعكس ظهور المواقع المقاتلة على الإنترنت، خصوصا غرف التواصل بلغات أخرى غير العربية، كالإنكليزية والفرنسية والهولندية والسويدية: أولا، حاجة (المجاهدين في الشتات) إلى أن يكونوا جزءا من المجتمع الجهادي. ثانيا، أهمية الإنترنت في إنشاء مثل هذه المجتمعات” (ص 128). ويؤدي الدخول إلى المنتديات المقاتلة ومجموعات التواصل، إلى المشاركة في مجتمع محدد، وتأكيد هوية هذا المجتمع، وهوية الفرد كونها جزءا منه. هذه ظاهرة وصفها القليل من المحللين، ومنهم سيجمان الذي قال: “ما عاد المجتمع الافتراضي مرتبطا بأي دولة أو شعب، ويتوافق هذا الوضع مع الأمة السلفية الأسطورية”(ص 129).
لا تعود سطحية المعرفية الدينية إلى فقر فكري لدى السلفيين المقاتلين، ولا إلى العقيدة التي يعتمدونها، لكنها تُظهر أن ارتباط أكثر الغربيين الذين ينضمون إلى هذه العقيدة، إنما هو ارتباط عاطفي وليس فكريا. والصور هي التي تشجع عملية الارتباط وتمكّن لها.
تعتبر حالات الانتقال الكثيرة في حياة السلفيين المقاتلين جزءا مهما من الإجابة عن لغز انتمائهم. فانخلاعهم المكاني يعزز من إمكان اعتمادهم رؤية للعالم غير منتمية إلى مكان أو إقليم. وساهم ذلك في تمكينهم من تخيّل أنفسهم جزءا من جماعة عالمية تتجاوز سواها من الجماعات وتتخطاها. الرؤية غير المنتمية إلى أي أرض أو إقليم، التي يعتمدها السلفيون المقاتلون، هي رؤية في شأن مجتمع افتراضي منفصل بشدة عن تصورات الأرض| الإقليم، ومثل هذا المجتمع هو أمة متخيَّلة. ولا يهتم السلفيون المقاتلون الغربيون بتقسيم العالم بلدانا أو انتماءات إقليمية؛ فعالمهم ينقسم إلى “مسلمين وكفار”.
لا يبدو غريبا القول إن اهتماماتهم ليست إقليمية؛ إذ لا تنحصر أهمية هذه البلدان في أراضيها الإقليمية. فالدفاع عن أفغانستان والعراق والبوسنة، في نظرهم ليس دفاعا عنها كبلدان في ذاتها، بل هو دفاع عن الكيان الذي تشكل جزءا منه. وما يهم هنا هو الأمة وضرورة الدفاع عنها.
لم تظهر السلفية المقاتلة من العدم؛ فهي فرع أيديولوجي منبثق من ثقافات مسلمة أوسع، ولا يُمكن فهمها دون فهم تلك الثقافات، أو من دون فهم السياق الذي يضع المقاتلون أنفسهم فيه. ينطبق هذا مثلا على المتمردين في العراق كما يسميهم المؤلف، أولئك الذين يبنون على السرديات الثقافية الشائعة بين سكان المناطق التي يسعون إلى الحصول على الدعم منها. ويستعينون بموضوعات سياسية وعاطفية لها حضورها في ثقافات العرب والمسلمين وتقاليدهم في العراق(3) والعالم. وتعتمد روايات المتمردين على ثلاث مسائل: الإذلال والعجز بسبب التواطؤ والخلاص بالإيمان والتضحية.
الهوامش
1- للمزيد حول التسامح واللاتسامح في التراث الإسلامي، راجع: محمد أركُون، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟ ترجمة وتعليق هاشم صالح، ط 4، بيروت، دار الطليعة، 2009، ص 229-271.
2- حول وضع المسلم الغربي| وضع المسلم العربي راجع: تهامي العبدولي، أزمة المعرفة الدينية، ط 2، دمشق، الأكاديمية الثقافية العربية الآسيوية ودار البلد، 2005، ص 60-64.
3- للمزيد راجع العمل الهام: فالح عبد الجبار، دولة الخلافة التقدم إلى الماضي (“داعش” والمجتمع المحلي في العراق)، ط 1، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017، خصوصا الفصل التاسع: شيوخ وعشائر، دولة الخلافة والمجتمع التقليدي، ص 259-325.

* نشرت في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 418، كانون الثاني| يناير 2021.

أحدث المقالات