عندما يعرض علي أن أقدّم قراءة نقدية لكتاب ما، أحاول بالبداية أن أستشف شخصية الكاتب من خلال نصوص متفرقة أنتقيها بداية، وأذهب مباشرة إلى النص الذي يحمل عنوان الكتاب نفسه، طبعاً إن وجدته بالفهرس، أما إذا كان عنوان المجموعة منتقى انتقاءً كعنوان مستقل، عندها أبحث عن الرابط أو المؤشر الذي دفع الكاتب لاختيار هذا العنوان ، ومن خلال ذلكً أتمكّن من تحديد أبرز سمات شخصية الكاتب التي لا تقل أهمية -عند نقد نصوصه- عن نصوصه ذاتها .
لكن ما حدث لي مع الكاتب مجمد ربيع أنني تذكّرت أنه عُرِض علي يوماً أن أطّلع على خاطرة للكاتب منشورة في إحدى المجموعات الأدبية على الفيسبوك، يومها قدَّمت قراءة نقدية سريعة للخاطرة ، ولفت نظري أننا سنكون أمام كاتب شاب يحترم الحرف، ويملك أدوات الكتابة ، ويحاول أن يحدّد منهجه بدقّةٍ قبل أن ينطلق…
عندما تمّ الاتفاق مع دار نشر النوارس ، على النشر لمجموعة تانيس ، لم أكن أعلم أن الأستاذ محمد ربيع ضمن المجموعة ، إلى أن تواصل معي على خاص الفيس بوك وأخبرني بفرح عفوي أن كتابه ضمن المجموعة ، وطلب مني بمنتهى التهذيب والأدب أن أطلع على ملف كتابه وأبدي رأيي فيه كناقدة …
أخبرته وقتها أن من ضمن مهامي بالدار أن أطّلع على الملف وأن أجري عليه التصحيحات اللازمة ليخرج من الدار بالحلّة التي ترضينا وترضي الكاتب …
عندما قرأت الملف ، وجدت فيه خلطاً بين القصص المكثفة والخواطر .. وكلا الجنسين مكتوب بتميّز بشكل عام .
طبعاً هنا سأعرض بلمحة بسيطة للفرق بين القصة المكثفة وبين الخاطرة ، عن طريق إيراد تعريف بسيط لكل منهما، ومرور سريع على خصائص كل منهما …
الخاطرة كجنس أدبي :
نثر أدبي صيغت فيه الكلمات ببلاغة، ويمتاز بكثرة المحسنات البديعية من صور واستعارات وتشبيه.أو ” هي كلمة موجزة قصيرة يلقيها المتكلم خطيباً أو واعظاً من أجل التنبيه على قضية أو مسألة محددة خطرت بباله، أو أعدها مسبقاً في زمن قصير دون استطراد أو إطالة أومداخلة” . وهي كفن أدبي كغيرها من الفنون الأدبية متشابهة إلى حد كبير مع أساليب القصة والرسالة الأدبية والقصيدة النثرية إلا أنها تتميز بأنها غير محددة “برتم” أو وزن موسيقي معين أو قافية، وتخلو من التفصيلات، فهي تعبير عما يجول بخاطر الكاتب، أي تعبر عن حالة شعورية خاصة بالكاتب، في قالب أدبي بليغ، ويكثر فيها استخدام المحسنات البديعية والتصوير والكلمات القوية، أي أنها انفعال وجداني وتدفق عاطفي، ومن اسمها (خاطرة) هي خطر على البال مرّ أو ذكر بعد النسيان، ويكون وليد اللحظة أو الحين، ومدته قصيرة، فهي تكتب لحظة حدوث الشيء أو بعده، ولا تحتاج لإعداد مسبق، ولا تحتاج لأدلة أو براهين، وقد تتعدد أشكالها ما بين قصر وطول كما يلي :
▪ خاطرة قـصــيرة: تحتوي في الغالب على كلمات سهلة وبسيطة ومفهومة .
▪ خاطرة متوسطة : وهي الأكثر جمالاً لوجود التماسك الفكري القوي وانحصار المعنى .
▪ خاطرة طــويلــة : تكون المعاني فيها كثيرة وتكون مبالغة .
خصائص الخاطرة
يتكون جسم الخاطرة من : المقدمة – العرض أو العقدة – الخاتمة
( ويكون للخاطرة المكتوبة عنوان ) .
– هنا يجب أن تكون المقدمة صغيرة الحجم وأن لا تطغى على العرض أو العقدة وهي تكون نزعاً من التقديم الأدبي للموضوع ولكن بصورة جمالية وليس سرداً.
– في العقدة أو العرض يجب أن يحدد الكاتب ماذا يريد أن يكتب هل حزناً أم فرحاً أم عشقاً … إلخ , وعندما يحدد الموضوع لابد أن يرسم في ذهنه أن الكلمات المنتقاة أو التصاوير وغيرها من المحسنات البديعية ستكون ضمن هذا الإطار، فقبل الكتابة يجب تحديد الهدف بوضوح للتسلسل في عملية الكتابة . – – يجب على الكاتب أثناء إحياء الموقف في خاطرته اختيار عبارات ذات جمالية , وليس عبارات عادية ,
– الخاتمة تكون إيجازاً خاتماً للموقف في ذهن الكاتب، وتكون عادةً قصيرة ومختصرة للموقف .
القصة القصيرة جداً( القصة المكثفة ):
القصة القصيرة جداً هو نوع حديث من الأدب انتشر في الفترة المعاصرة بشكل واسع، وأصبح نوعاً سردياً قائماً بحد ذاته، تعتبر بالحجم أصغر من القصة القصيرة وقد لا تتجاوز بضعة أسطر،وأحياناً قد لا تكون أكثر من سطر واحد.
تتجلى أركان القصة القصيرة جداً الأساسية في: القصصية، والجرأة، والوحدة، والتكثيف، والمفارقة، وفعلية الجملة، والسخرية، والإدهاش، واللجوء إلى الأنسنة، واستخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام، والاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، وطرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها
خصائص القصة القصيرة جداً:
أولاً – الاقتصاد باللغة : بحيث لا يتعدى النص خمسة أسطر كحد أعلى .
ثانياً- بعدها الكوني أي تخليها عن الزمكانية:
فهي تتخلى عن عنصري الزمان والمكان ، فهي تشبه اللقطة الفوتوغرافية تعبّر عن زمان ومكان متوافقين، إلا أنها في نفس اللحظة قد تمثّل تجربة زمنية كاملة .
ثالثاً-(في أفق توقع القارئ) :
الخاتمة المباغتة لها أهميتها الكبيرة ، حيث أن أفق ألقارئ يكون في هذا الجنس الأدبي مهيأ لهذا النوع من المخالفة والمخاتلة ،
رابعاً- عدم وضوح الشخصيات : الموضوع هو الكاشف عن الشخصية لا العكس ، ولهذا تشيع ظاهرة ( البطل – الضمير)
خامساً -الصيغة السوريالية :
حيث الأشياء تفقد واقعيتها ، وتتحول إلى رموز فكرية مأزومة ، وقد تتحول إلى واقعية سحرية
سادساً- خاصية الوصف المقتضب:
الرواية تعتمد الوصف السردي البطيء، حيث يقوم الروائي بحشو متن روايته بالسرد التفصيلي البطيء القائم على الوصف والاستقصاء واستخدام الصور المماثلة والمجاورة
القصة القصيرة : تتفادى الوصف التفصيلي أو الوصف الانتقائي
أما القصة القصيرة جداً:تكتفي بالنزر القليل من الوصف عن طريق بعض الصفات والنعوت والأحوال ، وبعض الصور البلاغية ، لذلك الكاتب يستخدم الأفعال بكثرة ويقلل من الأوصاف التي تتخذ صفة الاقتضاب والاختزال والتكثيف والإشارات العابرة ، فالكلام ما قل ودل .
النقد في القصة القصيرة جداً:
يعزف الكثير من النقاد عن نقد القصة القصيرة جداً، لاعتبارات موجودة في أصل خصائص القصة المكثفة ، عندما يتناول الناقد نصاً بالنقد كخطوة أساسية يدرس النص من حيث البناء الهيكلي :
أي الفكرة ، الزمكانية ، الحبكة ، العقدة ، الانفراج ، النهاية .
ثم البناء الجمالي :
أي الأسلوب ، السرد ، الحوار ، الصور البيانية ، الشخصيات .
من خلال ماذكرناه عن خصائص القصة القصيرة جداً نجد أن البناء الهيكلي فيها يفتقد إلى الزمكانية ،كما أن القصة القصيرة جداً تفتقد معظم عناصر البناء الجمالي .
فماذا بقي للأديب من عناصر لينقده ؟!
لذلك أرى أن معظم ما يُكتب من نقد بحق القصة القصيرة جداً ،هي رؤى شخصية تركز على ثلاث عناصر على الأكثر، وهي العنوان من حيث أنه كاشف للنص أم لا، التكثيف و مقدار الانزياح الرمزي ، الخاتمة هل هي مباغتة أم لا ، ويمكن أن نضيف المباشرة أو التقريرية .
وعلى ضوء ذلك نجد أن هذه الرؤى تختلف ، وقد تخضع في كثير من الأحيان لأمزجة متباينة من قبل المتلقي ، الذي يمكن أن يقول أن العنوان كاشف ، أو أن القفلة لم تباغته ، أو أن النص غامض ، ملغّز…ولا توجد عناصر أخرى بالنص بإمكانها أن توازن أو تعدّل في ميزان هذه الرؤى ، لذلك أنا مع من يقول بأن لا نقد لنصوص القصة القصيرة جداً ،بل رأي ..
إلى أن يتم اعتماد منهجية نقدية متفق عليها، يقرّرها نقّاد ذوي شأن وخبرة ودراية …
بالانتقال إلى مجموعة ابن العذراء للكاتب محمد ربيع :
نجد أن القصص تنوعت بمواضيعها ، لكن طغى عليها الهم الإنساني ، ولاسيما هم الشباب في مثل سنه كما في حدث(١،٢) شك مطلق ، سراب ،عودة على بدء ،كيان ….
مواضيع تحكي هم الوطن : تحرر، مصير ، مفارقة ،سياسة ،منفي ، موقف عربي ، نضال ،. مستقبل وطن
كما أن المجتمع ألقى بهمومه على نصوصه أيضاً فكان :أزلية الاختيار ، لعنة ، حضارة ، مكرمة، كاريزما …
ولم يغب الحب والعشق عنها ، بل تلألأ في : شرفة حب ، ارهاصات…
كما تنوّعت المواضيع في خواطره ، وأترك لكم لذة الاستمتاع بها وتمييزها عن القصص ، على ضوء الخصائص التي ذكرناها سابقاً …
السمة المميزة لنصوص محمد ربيع هي اعتماده التناص في الكثير من النصوص ، وتوظيفها في مكانها المناسب، بالإضافة إلى الصور البيانية الجميلة …
أراه دون أن يدري يستغرق في السرد … لذلك أتمنى أن نرى له في القريب العاجل مجموعة قصص قصيرة، وأيضاً روي طويل، أسلوبه الجميل ، وسرده المتمكن ، و غناه بالصور الجمالية سيجعله أكثر تميزاً بالسرد الطويل عن القص القصير جداً …
تحياتي للرائع محمد ربيع مع كل التمنيات بالتوفيق والتميز .