18 ديسمبر، 2024 9:57 م

قراءة في قصيدة (زكاة البدن) للشاعر والناقد مقداد مسعود

قراءة في قصيدة (زكاة البدن) للشاعر والناقد مقداد مسعود

أنت تحتاج سلّمين، مثل تلكما السلّمين، المرئي والآخر غير المرئي، النابتين في بدن القصيدة، لكي تستطيع أن ترتقي لذراها السامية. عنوان القصيدة يُفضي، خِلسةً، إلى بدِنها الذي ستُزَكيه رحلة الشاعر المتطوحة في عالمٍ مرئي وملموسٍ حيناً لكنه تصوريٌ وجدانيٌ حيناً آخر.
في أول الرحلة يكشف لنا الشاعرُ هذين العالمين اللذين تداخلا في حناياه وباتا عالماً واحداً متماسكا بتجانسٍ يُشبه تجانس قصيدته، فالمتحدث يعترف أنه ماضٍ في طريقٍ ما، لايكشفه في البدء، ويترك لنا اكتشافه مع استمرار الرحلة. و المتحدث الذي سيكشف لنا كل ماجرى في تلك الرحلة، يعترف بأنه يمتثل لظله الذي يقوده نحو منعطف، ونبدأ نحن بمتابعة المتحدث وظله اللذين يَتّحدان في بدنٍ واحد يبحث عن زكاة لوجودهما الذي يعرفان أنّه “يتمردُ على النسق”. ومثل أيّ رحلة لاستكشاف المجهول، تمتثلُ رحلة المتحدث (الشاعر) إلى شروط صعبة، خيالية وأسطورية، وفي أحيانٍ أخرى واقعية. فالطيور “تغادر رسماتها على الأسيجة”، والسياج “يتلوى ولايريد أن ينقض”. هكذا ترتسم لنا صورة حزينة لحال الشاعر المرتبك في عالم يكاد أن ينهار، ويكاد الإحساس والمخيال فيه أن ينعَدما. يواصل الشاعر رحلته رغم الشجن فيتوهم، أو تتوهم عيناه، وكأنه يُذكّرنا هنا بظله المرافق له، بأن “شيخا يتطوح وقد ارتطم الأمر عليه” فنشعرُ أن هذا الشيخ يمثل حكمة المتحدث وخبرته التي جعلته مهموما أبداً، وهو يسعى أن يزيح ذلك الهم عنه، فقدْ “خَمِرَ عنه الفؤاد” ولكن دون جدوى، ولذلك يحث الشاعر الخطى نحو عوالم جديدة لعله يُزكي ذاك البدن المُفعَمِ بالأسئلة والحيرة و الطموح. ولأن رحلة الشاعر تروم المعالي فهو يرتقي سلّما “من فحل التوت” تعبيراً عن أثر الطبيعة الريفية البريئة في وجدانه ومخياله، ليجد نفسه في ذرى المجد “على السلمة الأخيرة” التي لم تُغنهِ ولم تُسعف ذاته الباحثة عن المجهول و السامي، ولذا يشعر أنّها ربما كانت السلّمة الأولى. ولأنها لم تُغنه شيئا، فهو ينعطف لسلّم آخر مختلف هذه المرة. سلّمه الجديد أكثر سمواً من ذاك السلّم الوجداني البريء، فهذا سلّمٌ “تشعره قدماي/ ولا أراه”. ربما هو سلّم الشعر والخيال، ومجد الشعر وسموه، ففقرات السلّم “يتدفق عشب فيها/ وأنا أستنشق غيمة من البستج”، وهو هنا لايزال مسكونا بالطبيعة، ومغرماً برحلته الشاقة والممتعة في ذات الوقت.
هذه القصيدة متراصة تراص البدن، والبدن يلاقي مايلاقيه، والقصيدة في جزئها الأخير، إذا جاز لنا تقسيمها شكليا إلى أجزاء، تلاقي تشظيا مقصودا من الشاعر حيث يظهر له “حفيفٌ يتمرد على النسق”، ويهجس بفطرته الثائرة المتسامية للذرى أن هناك “أصواتًا تتكسر/ وأخرى تتصادم: أزيارٌ.. برطمانات.. دنانٌ.. وحناجير”. إنها، من غير ريب، جعجعات فارغة، وأشكالٌ دون محتوى، و خربشات تُسمي نفسها قصائد،تلك التي تملأ العالم من حول الشاعر، فتصدمه ويتسمرُ فاغرا عينيه على مايجري، “تراجعت قدماي/ تصنمتُ/ثمَ/ تكدستُ/ كلّي/في عينيّ”. هذا التشظي لجملة واحدة في خاتمة القصيدة يعكس لنا تشظي الكتابة اليوم ، وذلك جلّ ما يخشاه الشاعر، على ما يبدو

زكاة البدن
مقداد مسعود

ثَمِل َ إلى نزهة ٍ حُلمي
أمتثلتْ قدماي
صحبني ظلي
في مُنعطف ٍ
رأيت ُ طيوراً
تغادرُ رسماتَها على الأسيجة ِ
سمعتُ سياجا يتلوى ولا يريد أن ينقض
واصلتُ طريقي
توهمت ُ أو توهمتْ عيناي
: شيخاً يتطوح وقد أرتطم الأمرُ عليه
إذن : هذا شيخ ٌ خَمِر عنه ُ الفؤاد
ثم واجهني سُلّم ٌ
سُلّم ٌ مِن فحل ِ التوت
فارتقيته ُ
ألفيتني على السلمة الأخيرة
وربما هي الأولى
لا أدري لماذا / كيف : انعطفت قدماي
فصعدّتني همتي وهمومي
على سُلّم ٍ تشعره ُ قدماي
ولا أراه.
فقراتُ السلمِ يتدفقُ عشبٌ فيها
وأنا أستنشق غيمة ً من البستج
تحسست ُ ثم رأيت ُ
.أصواتا تتكسر وأنوالاً
وأخرى تتصادم
: أزيارٌ.. برطمانات.. دِنانٌ .. وحناجير
ظَهَر َ لي
حفيفٌ يتمرد على النسق
تراجعتْ قدماي..
تصنمتُ
ثم
تكدست ُ
كلي
في
عينيّ