18 ديسمبر، 2024 7:10 م

قراءة في قصيدة ( السائر في جنازة أمسه ) لطالب عبد العزيز

قراءة في قصيدة ( السائر في جنازة أمسه ) لطالب عبد العزيز

( الصورة الشعرية بين مدلولها الباطن و الظاهر )تشترك جميع الكلمات الشعرية في كونها تدخل فيما يسمى
بكلمات ( المحاكاة القصدية ) أي الكلمات و الصور الشعرية
النصية التي تعبر عن ذواتية أصوات هي نفسها تقليد لأصوات
ضمنية إيحائية و قصدية ، بل أن الشاعر أحيانا يصوغ جل
أستبدالات تلك الأيقونات الإيحائية الصوتية استنادا الى ما يمكن
تسميته بــ ( تشبيه الناظر ) أو تشبيه شيئين بشيئين وهو نموذج
من أدوات اسلوبية التشبيه حيث يكاد أن يجعل من صورة الذات
الشعرية الواصفة الى رقعة إيقاعية خاصة من أفكار و شكل و
صور من التقابلية الخاصة المنجدلة بين هوية الذات المتكلمة و
بين وسائطية خصيصة الآخر المتماهي . حين نقرأ قصيدة
( السائر في جنازة أمسه ) للشاعر المبدع طالب عبد العزيز
بأعتبارها تشكل كيانا عضويا من خلال عملية مسار طويل
في منظومة مركزية ( الذات / الباطن / الظاهر / الدليل )
و مثل هكذا خواص شعرية في أعمال شعرية طالب عبد العزيز
راحت تقترب من مظاهر الخصب و صور الأرض و عناصر
الطبيعة التي ترتبط بدورة تقلبات أوجه الحياة الشخصية و الأخرى
للشاعر نفسه : النهر ــ الطريق ــ الصباحات ــ السائرين .. أن
القارىء لقصيدة الشاعر موضع بحثنا لعله يعاين مدى الأنبعاثية
في دلالة توكيد أفق حسية الأشياء في كينونة ثنائية دوال ( الذبول/
الموت / الترقب ) وصولا الى رؤية واحدة مركزة و مكثفة أخذت
تطل منها الذات الواصفة على واقع متحول أشد التحول . . ينهض
ويسقط بأستمرار في انتظار منه لبلوغ الدليل الأكبر في دلالة
( ما تركت لهم مبررا واحدا لقتلي ) . أن المتفحص لمقاطع قصيدة
الشاعر يلاحظ بأن قصيدته تتضمن طرفين : الأول هو مدلولها
الباطن وهو الهدف الثانوي من استعمالها و قد لا يكون هدفا على
الإطلاق . أما الطرف الثاني هو مدلولها الظاهر الرمزي المنزاح
و الذي يحملها الشاعر إياه وهذا هو الهدف الرئيس منها . فالقصيدة
لدى طالب عبد العزيز تشبه الجمع بين حالات إيحائية منزاحة /
متجاوبة تعكس وجهة نظر ذواتية ما في حقيقة واقعة قصدية ما
فيما لا تكون علاقاتها مصحوبة و واضحة بل تبدو أحيانا خاضعة
لمنطق السياق الشعري تماما كالرموز الأنزياحية التي تندرج في
الأسطورة الشعرية .
لا تحملوا جثتي الى وادي السلام .
الطريق الى النجف جد طويل
دعوها رطبة ، غضة على الأنهار في أبي
الخصيب .
أن حالة توضيح علامات الرؤية الشعرية من خلال مواطن مقاطع
دوال القصيدة و في مرحلتها الأولى ، تبدو لنا كأنها عرضا لأحياء
ما نسميه بــ (الدوال الهائمة) . فالشاعر من خلال مقاطعه الشعرية
راح يوكل صلته الخطابية باللاوعي الآني / الظرفي ليجوب
بأوجاعه استباقات زمانية وقصدية لا تتقبل سقفا واهيا .. و الى
جانب ما تيقن به الشاعر ( لا تحملوا جثتي ) بدت دلالة الذات
الواصفة أكثر حيوية في وجودها الكيفي / المكاني / العلاماتي
و تنظيراتها المثقلة بعقدة النتائج الإستباقية المتمثلة بجملة البدء
المكانية ( الى وادي السلام ) لذا فرؤية الذات التحقيقية لدى الشاعر
هي بمثابة المؤشر على نفوذها في حجم الإيهام تمهيدا بواقعة
المكانية / أستقصائية الشاعر و ربما يكون ذلك الصراع الذواتي
المنزاح جزءا من الكوميديا السوداء التي يقترحها باطن الشاعر
في لعبته الحدادية في حالة أنزياحية بقعة التطهير / الإنحراف :
( الطريق الى النجف جد طويل / دعوها رطبة / غضة على
الأنهار في أبي الخصيب ) هكذا بدت التجربة في مقاطع القصيدة
على أعتبارها مرحلة لتقسيم الأفتراضات الأكثر اتساعا في خيال
الشاعر . و ما بدا التأكيد عليه ( لا تحملوا جثتي الى وادي السلام )
هو حالة من التفريق بين ( الحلم / اليقظة / التمني / الظاهر من
الحال القولي ) أيضا و لكي تتسامى الذات الواصفة على أسطح
الموجودات الكيفية ــ فالذي بات يتحقق في توقعات مقاطع النص
هو إيهاما حلميا لأطلاق أسقاطات الشاعر حول أوهامه اللصيقة
بتوجيه رغبته التي راحت تتعالى داخل طي جثمانه الأفتراضي
المعذب : ( دعوها رطبة / غضة على الأنهار ) أن فاعلية
الأهتمام المتواصل بالتماثلات الإضافية التي يقدمها الموصوف
الخطابي هو الغاية التي يستأثرها الشاعر عبر تعارضاته القائمة
في مسار التجربة القولية ، و ربما نجد أن كثيرا من التماثلات
التي تندرج في منظومة خطابية المعنى لا تتعدى كونها إعتراضات
تبرر أهتمامنا بقضايا باطنية خاصة تمتلك خصائصية و مكتسبات
رمزية تحولاتها في صورية وجه الموضوعة الشعرية .
فدعوني هنا ..
لا أحبني مربوطا بالحبال على المركبات .
و أن لم يكن لكم من بد علي
و سدوني الرمل ، لصق سيدي البصري
حيث يرقد إشياخي : السياب و البريكان
وعبد الوهاب .
و تبعا لذلك نعاين بأن لخصوصية الأسماء في صلب مقولات الذات
الشعرية ما يجعلها تتبنى مجالا اعترافيا لا يمكن تجاهله أو
الأنزواء عنه . و على وفق طبيعة فضاء مدلول هذا الخطاب
التخصيصي في النص يتبدىلنا صوت أشباح الشعراء الراحلين عن
عوالم الشاعر حيث تبدو لنا فاعلية معرفتهم بمثابة التسلل نحو
مقولة تصورات دلالات ذهنية الشاعر العزائية : ( فدعوني هنا /
لا أحبني مربوطا بالحبال على المركبات ) فالذات المتكلمة هنا ما
هي إلا صفاتية خازنة لمستلزمات البقاء و الديمومة الرافضة
للعيش في غرق العلاقات القائمة في مرجعيات حياته الشخصانية
لذلك بات يحبذ أن يدفن في رحم تربة أجساد أولئك الشعراء الذين
رحلوا عن أيامه الجميلة ( لصق سيدي البصري / حيث يرقد
أشياخي ) و تبعا لهذا يبدو أمر الأنتقالات النفسية الخاصة لدى
الشاعر جاءتنا رثائية مهللة للتعبير عن مضامين تستحق الجزم
على أنها في الوقت نفسه تشكل ثمة معادلة أبلاغية قد توجت
لمؤشرات الإيهام الشعري برصيد إيجابي و قد أعطت لبنية التماثل
بوظيفة الحس أبعادا تحولية خاصة مصدرها أفقية تشكلات مدلولية
مذهلة . فالشاعر لا يعتقد بصيغة الأفتراض كتصور لنصه ، بل أنه
راح يجسد حالة تحقيق ما أوجده من محاكاة تصورية في دلالة
جملة ( أعلم أن السائرين تحت مقعدي سيقولون أشياء كثيرة )
كذلك الحالة نلمسها في جملة ( على حملة المصاحف في النهار )
و في دلالة جملة ( باعت الخمر المغشوش في الليل على سائقي
المركبات المسرعة ) . أن المكونات الموضوعية في واقعة
القصيدة نجدها عبارة عن مكونات من الحسي أو المتخيل أو
الممكن حيث تمثل لنا بالتالي باعثا متخلقا في ذات الشاعر
وهو ما يشكل بدوره بنية موضعية ذات رؤية أدراكية
تجسد الرؤية للعالم أنطلاقا من تضافر بعدين : الأول
أجتماعي / نفسي منطلق من الواقع المعيش الشخصي : و الثاني
فردي منطلق من خيال الشاعر نفسه : ( لكم أرعبتني نظاراتهم
السود / نعم جدفت جدفت كثيرا عليهم / و سأجدف غدا و بعد
غد ) .
( تعليق القراءة )
قد تمثل صورة الحدث السياسي و الأجتماعي و النفسي و الفردي
لدى الشاعر ما جعله يقع في فضفضة مقولات بواطنه الشخصية
و الأعتبارية الباطنة و الظاهرة . و هذا الأمر ما أخذت تصدر
عنه مقولات و وظائف القصيدة حيث تشكل عنصرا موضوعيا
مسبقا يتبناه الشاعر لنفسه موظفا له كيفيات دقيقة من الإداء
الشعري المنزاح على نحو أفتراضي مؤثر ، خصوصا عند
وضوح نزعة ( المناجاة / المنولوجية ) و الحوارات و المجادلات
الباطنة وما تضمره أو تكشف عنه من أفكار سياسية و صراعات
أجتماعية شخصية غير محددة راح يتبناها الشاعر ليعمل على
أشاعتها أو رفضها فيعنى بتنفيذهها بالجدة الباطنية و القصدية
الظاهرية الغير معلنة .
و إن أخطأتني الصوائت و الكواتم
سأجدف ثانية و ثالثة ..
ذلك لأني أكرههم جميعا .
من سلبيات المكون الموضوعي في القصيدة هو هيمنة أرهاصات
الشاعر النفسية على مساحة معطيات فكرة القصيدة الشعرية . حيث
نجد توظيفه المؤدلج يستلهم الأفكار الواقعة المعاشة لا الرؤية
الشعرية الإدائية الكامنة في أفق دلالات الأنزياح الموضوعي
الشعري : ( أولئك الذين ما تركت لهم مبررا واحدا لقتلي )
هكذا تنتهي قصيدة ( السائر في جنازة أمسه ) تاركة خلفها
المزيد من الفواعل و الأفعال و الأرهاصات الماضوية التي
أخذت تنعكس على مرآيا مخيلة الشاعر الشخصانية و دون
مبررا واحدا في صنيع قتله الأفتراضي الحاصل في مسار
كينونته النفسانية التي راحت تعانيها ذاتيته الشعرية في كل
يوم و في كل غد و في كل لغة و في كل شكل دوال مرتبة
منطقيا أو انزياحيا حيث ينتج عنها أخيرا في كل زمن تلك
الذات الشاعرة و هي بين مدلولها الباطن و مدلولها الظاهر
و في كافة أطوارها الأرتقائية و الأبداعية الممكنة .