دليل اللامنظور يكشف عن دلالة محتمل المنظور
أن عملية تشكل و تشآكل الشيفرات الإيحائية والإنزياحية في عوالم شعرية ( طالب عبد العزيز ) من شأنها أولا و أخيرا خلق حالة من حالات أمكانية المتغير الأسلوبي و الدلالي في التعامل مع إطارية النص انطباعيا و قرائيا . لذا فأن جوهر شكل قراءة نصوصه الشعرية يسمح بصورة خاصة من أن نميز لدال جوهرا و شكلا كما تسمح الحالة القرائية لدى الشاعر من أن نميز للمدلول جوهرا و شكلا و بحسب هذه الكيفية المعيارية يمكننا أن نحدد بأن لمفهوم و فكرة قصيدة الشاعر ثمة معادلات تنوعية خاصة تتآلف مع نسيج المعنى الداخلي و الخارجي الذي يحث بدوره على إيصال الوظيفة القصدية في أتون الدوال الى أقصى جهات مجموعة الوحدات المركبة في دائرة موضوعة النص . أن المعنى الغيري في قصيدة ( أمطار خضراء ) ذات شيفرات تقنية من مهامها إيصال تجربة المخلوق الآخر المراوي لإشارات صورة و صوت وكنية الذات الشعرية و بطريقة تبدو من خلالها الأنا الساردة و كأنها رفيف أجنحة فراشة تحلق فوق هامة فاصلة المشاهد الشعرية في القصيدة إجمالا . وقد لا نجد أحيانا فيما نقرؤه في القصيدة ثمة تابعية ما لوجهة نظر
تعقبية ما سوى وجود عوالم شكلانية مبعثها إستباقية الأستحضار التوصيفي المتشظي على سطوح مرايا التبعثر تارة و التماسك تارة في حروف تكتبها غصون تكسرها العاصفة و هي تلاحق كائنية ذلك الطائر الغريب :
غصون كثيرة تكسرها العاصفة
و مطر أخضر
يبدأ حين ينتهي النهار .
تبدأ القصيدة من أفق إجرائية وحشية دلالة العاصفة و هي تشكل لنا بمثابة حلقة المصارعة المندمجة في صورة انكسارية غصون الأشياء الذاتية و الطبيعية فيما يحل ذلك المطر الأخضر بمثابة البانورامية الحياتية التي تذكرنا بموشحات الرومانسية الأغريقية حيث ليبدأ منه ذلك النهار . من المؤكد أننا نستطيع أن نتفحص صورية ذلك الانعكاس المناخي وهو يندمج نفسيا بمرحلية ( التحويل / الإجراء / المرآة ) بمتابعة ظهورات ذلك الدليل اللامنظوري في فسحة صوت الآخر . لكننا سنشير و بشكل سريع نحو ظاهرة لا تقل تكرارا في شعر طالب عبد العزيز و هي حالة التصعيد التوصيفي في رسم ذاتية الأشياء وصولا الى فاتحة تمهيدية الغرض منها الأنتقال الى مرحلة الوسيط الأنتقالي في مبنى متغيرات المستوى الدلالي . فإذا كانت ( غصون كثيرة تكسرها العاصفة بمثابة المستوى النفسي لكشوفات الشاعر لماهية محورية الكشف عن دلائلية اللامنظور القصدي . فأننا
بالمقابل منها نعاين صورية و ( مطر أخضر ) و هذه الحيثية اللاحقة من الدوال تبين لنا صورة الأنتقال من فضاء دال ( العاصفة ) الى وسيط تسجيلية الحالة النفسية للذات الواصفة فرحا أو حزنا .
( الاستدلال المتعالي انعكاسا ذاتيا معقدا )
أن القارىء لمستوى تعريفات القصيدة ( أمطار خضراء) وخصوصا في مرتبة متوالياتها اللاحقة ، حيث بات فعلها الجديد يكشف لنا انعكاسا ذاتيا معقدا كقول الشاعر :
على ظهر أي من أبنائك
ستحمل أمتعتك
أيها الغريب ؟
منقاره مائع
جناحاه أزرقان
أين يمضي ليلته
عصفور القصب النحيل ؟
و من خلال ما يتحدد به المعنى و يتسع له .. تكاتفت المعادلة اللامنظورية التي راح يتبنى مشروعيتها الرمز لتتحول الى محطة مرجعية للمعنى ذاته ..و تتوقف هذه المرجعية لإيقاظ التصور المقابل بالفكرة و بين ما يمكن أن يجده الوعي في
تحقيق بنية الرمز كنمط أساسي نفهم منه القصد المعطى من سعي الذات الشاعرة . ربما تكون هذه العتبة المتنية مركزا فاعلا نحو صلب العملية الشعرية عند الشاعر على حد قوله : ( على ظهر أي من أبنائك / ستحمل أمتعتك / أيها الغريب؟) إذ هنا يتمظهر حجاب الغربة وعلامات القهر و الخسارة و الأثقال ضمن صيغة أستعارة غير منظورية الدليل وهي تمض في غربتها نحو مصير عصفور القصب النحيل و تكاد الدلالة الأنتقالية أن تغرق دلالة الجملة التوصيفية اللاحقة ( الأرانب التي تتدثر بفرائها ).
( فعالية الحجب ترتفع نحو شعرية الآخر )
مضى عام على وفاته
اليوم أحتفل بالذكرى
الألف لمروره على نافذتي
مطر كانون الثاني
كلانا يحتمي بالمطر
أنا بقميصي المبلل بالريح
و اليمامة بندائها المبحوح .
من هنا يجب قراءة يجب قراءة هذه العتبة المقطعية على نحو من المحذور الخاص وخاصة فيما يتعلق وقول
الشاعر(مضى عام على وفاته ) لعلنا هنا نعاين بأن الفضاء التصديري في مركز القصيدة قد جاءنا محتشدا بصيرورة دوال أخذت تحمل الخطاب الشعري جملة إيحاءات ضاغطة راحت تسعى بالقراءة الى برهنة قرائية و إجابة ما على أسئلتها التضادية الحاصلة في أيقونة الدوال وما تعكسها من تصورات إذ تحتشد في طرف منها ب( عصفور القصب النحيل ؟ ) في مقابل ( مضى عام على وفاته ) في مقابل (كلانا يحتمي بالمطر ) في مقابل ( أنا بقميصي المبلل بالريح) فالشاعر في مواطن هذه الدوال من النص كأنه كان يمارس الدخول في مساحات معادلة رسم و تشكيل الدوال بطرائق بعيدة عن المخطط المنظوري لصورة و مقاربة الأشياء من الطرف التعرفي في المركز الشعري . و من جهة أخرى نجده وفيا لحجم التشكيل الموضوعي المحتمل في أفق تمظهرات الوازع المنظوري الخاص في وظيفة محتمل قصدية الدلالة في النص .
ثلاثة قرنفلات فقط
تركتها العاصفة
للعاصفة القادمة .
و يتكرر نداء بنية دال ( العاصفة ) في جل مواطن القصيدة كأنما كان يريد بها الشاعر القول الترميزي بأن دلالة العاصفة ما هي ألا مواطن اغتصاب الموت لأرواح ذاتية الأشياء الطبيعية و النفسانية .
أستبدل المطر بصوتك
أستبدل شعرك
بأغنية عن المطر
أريده لقلبي المطر الذي
تفتت حباته خلف النافذة .
فإذا أخذنا دال المطر بالنسبة للشاعر كرمز للحياة ، نجد أن هذا الأمر يناقض ذلك المقطع الشعري من النص نفسه الذي يذكر فيه الشاعر ( و مطر أخضر يبدأ حين ينتهي النهار ) أن علامة زوال دلالة النهار حيث الضوء و أشعة الشمس ما يدعم فرضية الموت في وجه آخر فيما يأخذ خاصية الانغلاق في الوقت نفسه تحت جنح من الظلام و الغياب .
( تعليق القراءة )
يندرج أستعمالي لمفهوم عنونة مقالنا ب ( دليل اللامنظور يكشف عن دلالة محتمل المنظور ) ضمن محاولة أن يستفهم القارىء من خلالها مفهوم النص الغائب وصولا الى الأهتداء بمفهوم اللامنظور في قصيدة الشاعر وهو مالم يتم من طرف الشاعر نفسه من حيز ممارسة إجرائية واضحة المحاور و الدلالة في مواطن مسرح محددات دوال نصه وسلوكه . فالنص لدى الشاعر كان في طور الهجرة و الانتقال من قصدية معنى ما الى معنى آخر . لذا وجدنا اللامنظور
الموضوعي في القصيدة راح يكشف في الوقت نفسه عن دلالة محتمل المنظور نفسه وذلك من خلال صور و وقائع النص الخفية و الغرائبية المنصهرة عبر وحدة متلاحمة على نحو أمتداد القصيدة بكاملها . و تتوالى النقاط و التقاطعات بالتشكيل عبر الفضاء النصي وصولا الى الصورة الفنائية التي أخذت تؤكدها هذه المقطعية التي يحتل مدلولها رقعة خاصية الخاص من سننية التحولات في أفق محور المحتمل المنظوري المجلى في أختيارية النص .
القديسون الذين ترقد أرواحنا
تحت منائرهم الذهبية
لا تبعد شواهد أهلينا
عنهم كثيرا .
إذ أختار الشاعر هنا بأن يكتب القصيدة بحسية المواضعة العاكسة لموقع رؤيته كما أنه بات يشكل لوجوه نصه ثمة مراوية متناوبة في قصدية الخطاب . و عندما يكون مصدر دليل البعث هو مدلول الجملة ( ترقد أرواحنا تحت منائرهم ) ينكشف الحال ومنذ أول أسطر القصيدة ب( العاصفة / الموت / القبور ) إلا أن الشاعر و حتى نهاية القصيدة يبقى يتجلى بشفافية الإحالة الواضحة نحو الفعالية الحياتية الممولة لدال الموت :
أيها المطر
يامن تغسل الشوارع
و الأشجار و الحصى
هلا مررت على شاهدة أخي
أخي الذي عصفت الغربة
بقبره كثيرا .
لا توحي هنا تباشير مخاطبة المطر / الحياة بطول المسافة العمرية في القصيدة بالرغم من انفراد دلالات الحال بغسل الشوارع و الأشجار و الحصى غير أن خطاب الشاعر جاءنا مخاطبا المطر و كأنه زهدا واضحا في نشاطه من خلال وسائطية توسل الشاعر في النص بقوله ( هلا مررت على شاهدة أخي ) و تبعا لهذا تبقى الصفة الخارجية المتمثلة في هذا التشكيل ( أخي الذي عصفت الغربة ـــ بقبره كثيرا ) و كأنها حالة من حالات التوقف و التعطيل لفرضية دلالة ( هلا مررت ) و على هذا الأمر غدا المطر الأخضر بموجب فكرة ( شاهدة أخي ) يسعى نحو حركية الهجرة اللامجدية وصولا الى فكرة المحو القصدي المرهون برثائية صوت الشاعر :
أعده بأسئلته الألف
أعده لمنزلنا على النهر
إذا كنت صادقا
أيها المطر الحزين
أعد أخي
الذي ترزح شاهدته البيضاء
تحت يديك المنهمرتين .
هكذا بات صوت ( طالب عبد العزيز ) في اللقطات الختامية من زمن المشهد الرثائي في النص مقتربا من طراوة التشكيل الوصفي الحاذق كاشفا في الوقت نفسه عن تمظهرات جدل دلالات القهر و الحزن و المحو و التغييب التي أخذت تعلو ناصية حقيقة واقعة دليل اللامنظور وهو يكشف عن دلالة محتمل منظوره المدلولي الأخير .