البنية العنوانية مستقرا في خدمة غياهب النص
في عوالم شعرية منظور تجربة الشاعر طالب عبد العزيز تلعب الفاتحة العنوانية دالا استراتيجيا حاسما لكونها تشكل منطقة انفتاح دليل العنونة الدلالية نحو تشعبات ذلك الموجه الغيابي المدلولي في تحققات تقلبات غيبانية التنصيص الشعري لدى تجربة الشاعر . و تبعا لهذا نفهم من هذا الشروع بأن الفاتحة العنوانية كالخاتمة المضمونية إلا إن احدهما تأتي قبل الكلام و الأخرى بعده .. غير أننا و نحن نطالع دوال قصيدة ( أسفل الفنار ) نستدرك بأن خاصية البنية العنوانية ما هي إلا مطلعيات تقنينية مميزة حيث تنطوي من خلالها مقدمات توصيفية يجرى من عبرها المقصود الدلالي نحو أصداء حالات مفترضات الخطاب الشعري وفقا لمستوى علاقات مضمرة الوظيفة التناسبية و التعاضدية . و نستنتج من هذه المقدمة و التي تمركزت حول ثيمة ( البنية العنوانية ) و التي فيها تندرج الفاتحة النصية ضمن عملية تغييب أفق التوقع القرائي و بوظائف أخذت تستجمعها مشروطية حركية الدوال في معلوم مسبقات التصدير التشكيلي الكامن في شعرية ذلك الانزياح اللغوي و التوظيفي العسير من زمن أحوال النص .
( التقطيع الزمني للوقائع الوظيفية النصية )
تعتبر مسألة ( تقطيع النص ) على درجة كبيرة من التعقيد البنائي في مجريات تراتيبية احتواء الواقعة الوظيفية الكامنة في مسار نمو النص زمنيا .. فالخطاب الشعري مثلا في قصيدة ( أسفل الفنار ) تختلف موجهاته الموضوعية عن باقي نصوص الشاعر نظرا لطبيعتها الكيفية في التكثيف و الإيحاء و المزاح توصيفا :
في الأرض التي ينخرها
البحر منذ الآف السنين
في البلاد الفقيرة النائية ..
حيث الريح شرقية دائما .
أن هذه الفاتحة النصية لربما تضللنا بما يحمله الموجه القصدي من انزياح و عدول ، فاستخدام جملة : (في الأرض التي ينخرها ) تقدم لنا اشارات اسلوبية و احوالية يبنى عليها كونا مؤولا ، فضلا عن ذلك فإن هذه الفاتحة النصية باعتبارها نقطة الانطلاق نحو منطقة دليل الانفتاح ، إذ تعلن و منذ البداية عن فضاء شراكة عاملية الزمن / المكان / المكابدة وصولا الى مرمى جملة ( منذ الآف السنين )
فتصبح الظرفية الزمانية هنا حالا يتقصد مقام مكبوتات المرجعية المكانية لتأخذ بدورها فعلا توصيفيا الى مفعولية واقعة فضائية من شأنها ضبط معطياتها الإجرائية داخل نواة رحمية تمتص مختلف دوافعها و محفزاتها الأنوية ضمن منظومة وحداتها المختزلية و الاستدعائية : ( في البلاد الفقيرة النائية ــ حيث الريح شرقية دائما ) من هنا تنعكس فاتحة النص العنوانية على شبكة فواتح النص المقطعية الأولى من خلال عضوية الاشارات الأحوالية الكامنة في محصلات ترسيمة هذه الجمل ( أسفل الفنار : في الأرض التي ينخرها البحر ــ منذ الآف السنين ــ في البلاد الفقيرة النائية ــ الريح شرقية دائما ) و يمكن أن تعتبر اشارية دلالة العنونة ( أسفل الفنار ) انعكاسا لرغبة الشاعر الأزلية في حلول مواجد ذكرى مكبوتات داخلية و طاقات ترميزية أخذت تكمن فيها سلطة اختزال المعطيات النصية .
و المعابر من خشب ..
وجذوع مائلة
حيث يمحو المد الأول
أسماء السفن و الصيادين
حيث يكون المطر غضا
وجديدا على الإسفلت .
تستعين هنا الذات الشاعرة بما تيسر من معطيات المكانية / الزمانية لإنجاز فعل التوصيف الشعري و ترتيب حالات الأشياء و وضعها ضمن صيانة حساسيته وطقسه أي الشاعر بدلالات تعويضية و انتقالية من شأنها ضم ادوات الرؤية و مساحاتها الإضافية نحو مصير طابع دلالة الصورة الإجرائية ( و المعابر من خشب ــ وجذوع مائلة ) فالأشياء هنا تتجه الى المناطق و المساحات المنفية و التي تطالب فيها الذات الشاعرة بالكشف وصولا الى تعامدات و تفاعلات و غيابات ( حيث يمحو المد الأول ــ أسماء السفن و الصيادين) بما يؤلف رؤية قاطعة تحدد وجهات و معطيات إجرائية فضاء الخارج الشعري الذي راح يتبنى بحلوليته المكانية و الطقسية محو رسومية التشكيلات الأولى قبل زمن حلولية (المد الأول ) و على هذا النحو يتجه الشاعر في سياق ما راح يضفي منه القدر المطلوب من روحية المغايرة المعنوية و المادية المتركزة بين مجلى البرقية الأولى ( حيث يكون المطر غضا ) و المجلى الآخر من برقية القراءة الثانية (وجديدا على الإسفلت ) . أن مساحة البرقية الأولى تشكل في ابعادها الأيقونية حالة إقصاء و كشف فراح يسعى منها الشاعر لدخول علامة التصريح بالحدود و الآفاق التي راح يعمل دال المطر ضمن اطارها الاحتمالي الواجد .
( البؤرة التي تتحصن فيها خصوصية المشار إليه )
يطل الراوي الشعري في مقاطع قصيدة الشاعر إطلالة تشكيلية جديدة عبر مجموعة برقيات صورية تحتشد من خلالها خفايا الصفات البالغة لتتصل اتصالا تواصليا مكملا لشبكة تعارضات دواله المطرية الفعلية اللاحقة :
في الأزقة العتيقة الرطبة
حيث يتأخر بائعو الزيت
في مكان شبه آمن
حيث لا يفكر أحد بالرجوع
مثلما لا يفكر أحد
بتوقف المطر
يعكس دال ( المطر ) أعلانا بتعطيل الحركة وعلى نحو اشد إيغالا من دلالة الجملة ( الأزقة العتيقة الرطبة ) مما يوحي لنا باختزال وحدات الزمان و المكان و الذوات بالرغبة في إرجاء الوصول ( حيث يتأخر بائعو الزيت ــ في مكان شبه آمن ) أن الصورتين الفعليتين في منظومة التوصيف أخذت تشتغلان على وحدة النسق الانتظاري / التوقيعي لتكشفان عن فعالية كوة مخالفة جدل الانتظار و الترقب ( لا يفكر أحد بالرجوع ) فيما تظهر الأخرى بموازاة هذه الصورة ( ومثلما لا يفكر أحد ــ بتوقف المطر ) و تبعا لهذا الأمر نجد مركزية
البؤرة المطرية و هي تديم جدل صراعية فعل التعطيل في مساق صورة محنة ( بائعو الزيت / الأزقة العتيقة الرطبة ) و يبدو أن بفعل هطول المطر في تلك الأمكنة الرطبة بات أفق التيه يشكل حضورا نهائيا في فكرة الدليل القصدي المرهون بمخطط الأولية التصديرية من فاتحة النص ( في الأرض التي ينخرها البحر ــ منذ الآف السنين ) .
( أسفل الفنار / المنظومة الغيابية المركزة )
تعود دلالة مرجعية البنية العنوانية ( أسفل الفنار ) الى حدود غيبانية من فكرة ذبول حركية الصور و الدوال و العلامات الشعرية الواصفة وصولا الى فضاء أعماق الذاكرة الشخصانية و مضاعفاتها بتكرار دال ( الانتظار / الإغتراب)و لاشك في إن تصدير هذه البؤرة المركزة أضحى يشكل مساحة مضافة من أفق الإقصاء و المحو و التغييب .
هناك دائما
أسفل الفنار
حيث تخلد الأشرعة الممزقة
أكون قد انتظرتك كثيرا
ستكون المرافىء آمنة
نهاية الأسبوع
وفي القصب المحترق الندي
ذكرى أخ ميت .
أن هذه الطريقة في بناء دلالة المنظومة الغيابية تشكل بحد ذاتها خطاطة مجردة للتركيبة النفسية بصياغة هذه الجملة (هناك دائما ) فكل ما في هذه الإرسالية الزمنية / الاحوالية يحيل نحو مرجعية ذاكراتية مدركة من خلال نموذج هذه الدوال الغيابية : ( تخلد / الأشرعة / الممزقة / القصب المحترق / نهاية الأسبوع / ذكرى / أخ ميت ) أن حركية هذه العلامات الغيبانية يشتمل فيها على ما يؤسس تمظهرات حياة الفقدان و الغياب و الرحيل فيما تتشكل من خلالها جملة الأفعال و ردود الأفعال . فهذه النماذج في غناها و تنوعها تشكل الغطاء المرئي للبناء الدلالي المتكامل في منطوق الوصلات القصدية الكامنة في مصاغ الملموس من لغة المستهدف المدلولي .
جداول تائهة
وصفصاف غريب
حيث لا تبعد عبادان كثيرا
أكون وحدي قد أفلت
مع الشطان و الغرباء و القناديل .
مرة أخرى تتحول العلامات الاغترابية بالشاعر الى أوطان مفترضة من فاعلية وحشة الدوال الواصفة : ( جداول تائهة ــ وصفصاف غريب ) وحيث تسير هذه الاستجابية الموحشة في إحالات الأشياء نحو التشكيل المكاني تحديدا ( حيث لا تبعد عبادان كثيرا ) وصولا الى اعتماد الشاعر عبر كل طاقاته الذهنية و النفسية الى تقديم صورة انفلاته مع احساسه و تأمله لموضوعة جامدية وغربة واقعة الأشياء ( مع الشطان و الغرباء و القناديل ) أن الصورة الشعرية استنادا الى هذه المقومات و الاعتبارات أخذت في مهمتها الأولى على جعل البنية العنوانية مستقرا في خدمة غيبانية النص .. أي ذلك الاحساس القرائي منا و الذي غدا ينشأ تماهيا مع ما تمليه تجربة و رؤية النص الشعورية و النفسية و الفنية بالغيابات و الفقدان و العزلة و الانتشالية القسرية في زوايا فلسفة تماثل الحلم الذي يعيد المرء فيه توازنه الحضوري بين الممكن و اللاممكن و المرئي و اللامرئي و المنتهي و اللامنتهي فضلا عن هذه الخواطر فإننا نعاين خطيا مساحة زمنية النص و مكانيته ذات التمفصلات في الثابت من الواقع و ذلك اللاثبات في مواطن الآخر المسكون بعبق الأمكنة و روائح رطوبة القناطر و الشبابيك الموصدة حلما و أعواد قصب البردي الذي بات يتمظهر في نواة الأشياء المعزولة غيابا و حلما .
ومثلما يفزع الأوز
اصطخاب السلاسل على المرسى
يفزعني الحنين إليك
فتعال .
صبية بسنوات سبع
يفتحون لك الباب
و لبلاب ينهمر ظله
على وجهك .
أن الشاعر هنا أخذ و عبر مقاطع قصيدته يشحذ جل طاقاته الوظيفية المصورة و المتشكلة بموجب التناسقية التوصيفية القاهرة و المؤثرة و الدقيقة و الساحرة . فإن هذه الدوال المتقاربة في شعرية هذه المقاطع لا تقوم بنقل عضوية الصوري في الخطاب بل أنها راحت تقدمها داخل ايقونة حسية ذات تأثيرات جمالية مركزة الدال و الدليل و الاداة و المخيلة .
( تعليق القراءة )
لقد بدت الرؤية الى صورة الأشياء و قراءة الأشياء و أحوالها و مواقفها من خلال قصيدة الشاعر تحليلا مسهبا تبادلت فيه التعريفات كمفاهيم متراصة لبراهين وجود صورة الأشياء في هيئة زمكانية ذواتية / استجابية مؤولة . و هذا الأمر ما جعل الشاعر مدفوعا نحو ترجمة آفاقه الحسية و الأحوالية و الرؤيوية الى جملة تداعيات غيبانية بمحاوراتها النواتية مع ذلك الآخر الذي بات يشكل في خطية النص ذلك السؤال و الاسلوب و الاداة .
الحرف الأول من الفجر
خلف الثكنة التي تغرق
مر مطلع كل شهر
مقبرة جنود الحرب العظمى
بشواهداها الزنخة
حيث تفسخ الزمن
حجارون سيخ ،
و عتالون
من أقصى الشرق .
ومن خلال تخاذلات المقصودية وصفا حاسما لغرائبية غير مقصودة دليلا . إذ لم تكن وضعية هذه الصور إلا موضوعا استثنائيا لفعل مرور التأويل و الأفتراض سرا متعاليا . أن طالب عبد العزيز في قصيدة ( أسفل الفنار ) راح يقدم حالات تبدو بمثابة الانتزاع الناتج عن المواقف انتظارا و على حين غرى يبدو الشاعر و كأنه يقدم مجموعة إرساليات ملازمة لحالة حلمية أو ذاكراتية شاقة .
يطوي العمانيون أشرعتهم
كأنهم أعالي البحار
تبضعوا تمرا وبصلا
وخمرا قبل قليل
نصراني عجوز أسمه إيليا
يبيعهم على المرسى
سترى الخليج يضيق
كلما كنت ضجرا و حزينا .
أن برقيات و علامات لغة الآخر هي دائما تشكل بذاتها امكانيات ما لدخول الذات الساردة في فصولها المحاورة لموقعية أفق الأشياء و الظواهر التي لا يمكن أن تكون بديلا
فراغيا للذات الواصفة بل انها تتوضع نسقيا الى كياناتها و ضماناتها الدلالية القصوى المحتملة . و على هذا الأساس راح طالب عبد العزيز يعرج بإحالاته الدلالية نحو مواطن الذات المتعقبة في رؤياها العلاماتية المحققة لديه الكفاية العلائقية الدالة و الرامزة نحو نموذجها المقارب في القول و الرؤية أي من حيث القربى لحيثيات مشهده القصدي .
و قبل أن يوصيك المطر بشيء
ستسمع صرير نوافذ فندق العابرين
بغرفاته الألف ..
هنا تبدو القابلية الرمزية متضمنة لأستجابة أحوالية معينة . إذ أن القارىء لها لربما يواجه تفوقات إيحائية بعيدة يتقصدها الشاعر فيما تتجلى لدينا الحاجة كقراء الى المزيد من معاينة ربطية إيهامية من شأنها توظيف الموقف الإفعالي الواصف في صورة المقاطع الرامزة و على نحو يحدث فينا جمالية الاستجابة لفروقات و معطى هذا النموذج الذي يقول فيه الشاعر : ( و قبل أن يوصيك المطر بشيء / ستسمع صرير نوافذ فندق العابرين / بغرفاته الألف ) و بخلاف ما يمكن فهمه هنا من دلالات هذه الفقرات الشعرية الماقبل الأخيرة من زمن النص يمكننا التعامل و إياها بالملاحظة المتحققة و المتعقبة لمدار الموجود رمزا و وصفا و المتضمن معنى ما
قد يبدو أكثر غورا دالا من أفق احتمالية و توقعات أدوات مقروئنا المقالي هذا .
سأكون مدهونة بالشمس و النيلوفر
مثل هياكل من أبنوس
و ستسمع ارتطام الرغبات
بالجسد
مثل ارتطام الظل بالظل
ياه ..
أضيق من بحر ، هذا الألم .
بهكذا مقاطع يختتم الشاعر قصيدته ( أسفل الفنار ) حيث تتمظهر روح التشاكلية الوصفية الحاذقة في فضاء شعرية راح يرسم لها طالب عبد العزيز أجواءها عبر نسقين متضامنين : النسق الأول الفضاء الوصفي الذي راح يضع الذات الواصفة كمحور مركز في مناخ تقلبات النص . أما النسق الثاني فهو الفضاء الغيابي الذي راح يصل بالذات الشاعرة الى أقصى محطات التمرغ بتحققات غيبانية الحضور الإجرائي بعناصره السردية و المشهدية و الخطابية و التي ارتفعت باللغة الشعرية المزاحة الى أقصى درجات
اختزالها و ثرائها الدلالي و الإحالي و الرمزي و القناعي و الذاكراتي .