سابقا، في هذه الدراسة تم مناقشة الاسباب التي كانت وراء لجوء السيد الشهيد محمد الصدر (رض) الى الكتابة القصصية بدلا من الخطاب الديني المباشر في الستينات من هذا القرن، وانقدح في ذهني اطروحة (التقية الحقيقية).. كيف؟
……. مفهوم التقية الحقيقية: ان اطروحة (التقية الحقيقية) هي وراء لجوء الصدر الى كتابة القصة ورمزيتها، وتلك التقية تحكم التبليغ والتثقيف الديني، لاجل المحافظة على سلامة الدين وحفظه من التشكيك والانحراف، وكان المدرك الاساس والمستند الاهم في الوصول الى ذلك المفهوم هو حديث الصدر عن السفير الثالث، والذي ورد في ج3 من الموسوعة ونصه:
وقد اضطلع أبو القاسم منذ ذلك الحين بمهام السفارة. وقام بها خير قيام، وكان من مسلكه الإلتزام بالتقية المضاعفة، بنحو ملفت للنظر، بإظهار الإعتقاد بمذهب أهل السنة من المسلمين. يحفظ بذلك مصالح كبيرة، ويجلب بها قلوب الكثيرين.. انتهى. ويبدو ان الادلة كثيرة حول هذا المفهوم للتقية، الا ان هذه الدراسة الثقافية العامة تكتفي بما تيسر، لاجل اثبات: ان الصدر استخدم القصة والرمزية لاجل مخاطبة شرائح شعبية وثقافية اوسع، متدينة وغير ذلك، بل ان الخطاب القصصي والرمزي اقرب الى الشرائح العلمانية، وخاصة في تلك الفترة الزمنية، والتي تميزت بانحسار الثقافة الدينية، مع ازدهار الثقافة المادية والعلمانية، والتي كان لها اكثر من صحيفة ومجلة، بل لها اكثر من قاص وشاعر، والأدهى، انهم نجحوا في صناعة الرموز الشعرائية والقصاصين، وان اشهر الشخصيات الادبية العراقية تنتمي الى العنوان المادي والالحادي، وذلك بسبب الدعم والاهتمام من الاخر، مع اهمال وجمود الجانب الديني خلال الستينات والسبعينات من هذا القرن، بل قبل ذلك ايضا. …… التقية الحسينية: وبناءا على هذا المفهوم للتقية، ينقدح معنى خطير وهو: ان الامام الحسين (ع) لم يكسر التقية او يخالفها، لان خطابه واضح ومباشر ويختص بالخطوط العقلائية العامة، وكذلك الصدر الاول (رض) لانه مارس التثقيف العام وببساطة ووضوح، ثم ان الصدر الثاني خاطب المتدينين عموما والمخالفين والنصارى واعوان الظالم والغجر وهكذا، فسماحته لم يخرج عن حاكمية التقية الحقيقية، بل سلوكه النظري (كتاباته) والعملي ضمن مساحة التقية (الحقيقية) وليس العكس. ثم، لا يخفى على القارئ اللبيب: تحول وانحراف عدد من الادباء والشعراء الاسلاميين الى المعسكر المادي والالحادي، بسبب القصر والتقصير في النشاط الديني والثقافي، لذا فان استخدام الاسلوب القصصي والرمزي من قبل سماحة الولي المقدس هو خطوة ذات معاني وابعاد، وتحتاج الى دراسات واسعة وعميقة، وتزداد اهمية الخطاب القصصي لارتباطه بالقران الكريم، فان القران المجيد استخدم القصة والرمزية في اياته الكريمة وبشكل واسع ومكثف. ………النهضة الفكرية: ثم ان القصة التي كتبها الصدر تناولت قضية الامة المركزية، وهي قضية النهضة الفكرية والحركية، وانتفاضة الوعي ضد واقع الجمود والشيخوخة المصطنع، ويتطلب توضيح هذه المطالب وصفا عاما واجماليا لاحداث قصة النصيحة الاخيرة ويتكون من مراحل هي:
المرحلة الاولى: وصف الغابة باعتبارها الواقع المحيط بشخصيات القصة، والساحة التي تتحرك فيها الارادات المتباينة. وقد تضمن القسم الاول من هذه الدراسة مقاطع توضح هذا المطلب. المرحلة الثانية: وصف الشخصية الرئيسة في القصة، وهي اللبوة، وقد تضمن القسم الاول من هذه الدراسة مقطع لوصف هذه الشخصية، ويمكن التوسع في هذا القسم في وصف الواقع النفسي لهذه الشخصية كالتالي : كانت تضطجع فوق العشب الوثير، وتحت مجموعة ملتفة رائعة من الاشجار الباسقة، لبوة مريضة، تجمع حولها اشبالها، وتئن بين الحين والاخر من وطئة الالم، وتستوحي من ذلك الجو الهادئ، مزيدا من الوحشة والالم والكسل. وكانت اوصال الالم تستشري في اهابها بنشاط صامت، وتمشي باعصابها بهمة هادئة، مستمدة من ذلك الليل البهيم حيوية متزايدة، ونشاطا منقطع النظير. الام اللبوة تتزايد شيئا فشيئا، ولواعجها تثقل عليها باستمرار، واهاتها وانينها، يزداد تتابعا، ويتاكد عمقا، فمرة ينطلق منها الزفير انطلاق المتفجر الثائر، واحيانا تخرج من بين اشداقها خروج اليائس الصامت. وهي في الحالتين، مستسلمة الى العشب لا تعرف ملجا ولا تعلم دواء. …….. القواعد الشعبية: المرحلة الثالثة: وصف الشخصيات الملازمة لشخصية اللبوة، وهم اشبالها، وهم بمثابة القواعد الشعبية التابعة لتلك الشخصية القيادية المنهارة في الارادة، والمتزلزلة نفسيا، ويصفهم الصدر كالتالي: واذ راى اشبالها، في أمهم الم ممض، وما تعانيه من وحشة وحسرة، وما تكابده من مرض اليم توجهوا اليها بخشوع وادب، راجين منها ان تسمح لهم بالبحث لها عن طبيب في ارجاء هذه الغابة الكبيرة، لعله يستطيع تشخيص دائها وتعيين دوائها، ويكون على يديه شفاؤها السريع، وان استلزم الحال ايقاظه من نومه وازعاجه من احلامه. وحين رأت الام الرؤوم، مبلغ حنو اشبالها ولوعتهم عليها، شكرت لهم عواطفهم واذنت لهم بالذهاب. انتهى الوصف. وينقدح ويظهر من هذا المقطع القصصي موقفا اسلاميا تجاه الاستعانه بالمختص والتعامل مع الاستشاريين، ويتوسع ذلك الى الموقف من استخدام العلوم الطبيعية والمنتجات التقنية، والحديث بهذه الطريقة وبهذا المستوى من الانفتاح في الستينات، يعد انقلابا على المشهور، فقد ورد عن الصدر، في لقاء الحنانة، ان ركوب السيارة واستخدام مكبر الصوت غير جائز في الساحة الدينية النجفية، ويمكن للقارئ اللبيب ان يتصور اهمية استخدام القصة والرمزية في طرح هذه المواضيع الحساسة، وهذا يعتبر مبررا معتدا به، واضافيا، يوضح اسباب لجوء الصدر الى استخدام الاسلوب القصصي لطرح القضايا الخطيرة والحساسة. الصراع الدولي: المرحلة الرابعة: وتتضمن وصف الجهات المحيطة بالمجتمع اللبوي، ويمكن تصنيفها الى جهتين: احدهما الجهة الخيرة والتي تبدي النصيحة بمهنية وحيادية، اضافة الى حرصها على فائدة الجانب المستشير والطالب للنصح، وتتمثل تلك الجهة بشخصية الارنب الحكيم. واما الجهة الثانية، فانها مخادعة وتحاول ان تجر اللبوة الى بئر الجمود والموت البطئ، وتتمثل الجهة المخادعة بالثعلب الممارس لمهنة الطب. المرحلة الخامسة: وهي مرحلة معنوية، تتصارع فيها الافكار والارادات، فتقع اللبوة بين معسكري النصح والخديعة، فقد نصحها الحكيم بالخروج من جمودها وركودها، ودعاها الى اخذ
دورها في الحياة، ويتبادر الى الذهن بذلك الوصف، حال امتنا التي تعيش في عالم الغابة الدولية، وهي تتخبط في مسيرتها، مع وجود القيادات الرشيدة والتي تشير عليها بالنهوض وكسر الجمود، ومن ناحية اخرى فان المعسكر المادي والاحتلالي والمعادي للدين والاسلام موجود، وله صوت عالي وثقافة خداعة، وهذا المعسكر الماكر يدعو امتنا الى الانسحاب من الساحة، والانشغال بما يضرها، ويزيد من عزلتها وانكماشها، ليتسنى له السيطرة على العالم، وينقدح ويظهر للباحث المقصد العميق من استخدام رمز اللبوة في وصف الامة، لانها تتصف بالقوة، وعندها اشبال اقوياء، بينما المعسكر المعادي والماكر، فقد مثله سماحته بالثعلب الضعيف والطالب للفائدة والهيمنة. وان تعرض الصدر الى هذه المطالب العميقة في الستينات لا يستقيم مع استخدام لغة الخطاب الديني المباشر، بل لا مناص من القصصية والرمزية، وهذا يضاف الى الاسباب السابقة والتي اعتبرناها وراء استخدام سماحته للقصة والرمزية في طرح القضايا الدينية. الاختيار المناسب: وتوضح القصة الاسلوب الناصح للحكيم (الارنب) مقابل الخطاب الماكر للثعلب، فقد وصف سماحته عملية العثور على الحكيم واستقباله وتقديمه النصيحة والرشد الى اللبوة المتمارضة، كالتالي: لم يغب الاشبال، الا برهة من الزمن، جاؤوا بعدها ومعهم ارنب عجوز، ينط بين العشب ببطء، وتثاقل، وقد خالط النوم عينيه، وازعج التعب رجليه. وأقتربوا منها، وانحنى الارنب بادب واحترام، مسلما على اللبوة، فرحبت به، وشكرت له سعيه، واذنت له بالجلوس . وقد تضمن القسم الاول وصف المجلس الذي ضم اللبوة واشبالها والتعريف الحكيم، ثم وصفت القصة عملية الفحص الدقيق وتشخيص المرض كالتالي: وبعد ان جس الارنب نبضها ونظر الى لسانها، واستمع الى دقات قلبها، انسحب بهدوء وجلس مرة اخرى في مكانه الاول. ثم تأوه اهه صغيرة تحمل ما يريد ان يبديه تجاه هذه اللبوة المريضة من شفقة ورحمة. ثم قال لها: انك ياسيدتي في صحة وعافية، ولا داء فيك، ولا يحتوي جسمك على تشنج او التهاب او اضطراب وانما الذي تحسينه وتشكين منه، ان سمحت لي بذكره، انما هو خمول اصابك وكسل الم بك منذ ايام، منعك عن ممارسة نشاطك الاعتيادي في الحياة، وادى بك الى عدم تناول المقدار الطبيعي من الطعام والشراب فانتج ما تجدينه من الم ووحشة. واني لم اصف لك دواء تستعملينه، ولا عقارا تصنعينه، وانما الذي اعتقده ان انجح الادوية بالنسبة اليك، هو ان تقومي بنفسك، شيئا فشيئا، بفعاليات الحياة، وتباشري عملك الطبيعي فيها وتقومي بما تتطلبه منك من واجبات ومالك عندها من حقوق.. انتهت الفقرة القصصية. ويستمر الحكيم بمواجهة اللبوة بالحقيقة، لكنها ترفض هذه الصراحة وتهاجمه بقوة كالتالي:
ما ان سمعت اللبوة من الارنب الطيب، هذا الكلام، حتى تغير وجهها عليه، ولاعبت ملامحها مسحة من العبوس والاشمئزاز. ثم قالت: دع عنك فلسفتك هذه، جانبا كيف تنصحني بالحركة وممارسة النشاط وانت على ما تراني عليه من المرض والذبول؟ انتهى.
ويفترض ان يتناول القسم الرابع، من هذه الدراسة، تنبؤات الصدر بمعارضة المشهور (التدين التقليدي) للاصلاح ومعارضتهم لحركات النهوض الحضاري..