تضمن القسم الاول من هذه الدراسة مناقشة الاسباب التي كانت وراء لجوء السيد الشهيد الصدر (رض) الى كتابة القصة والى الرمزية بدلا من الخطاب الديني المباشر، واستعرض القسم الاول ثلاث اطروحات لتفسير ذلك وهي كالتالي:
الاطروحة الاولى:
واقع التقية المكثف الذي قد عاشه الصدر.. والذي منعه من التعبير بصراحة عما يجول في خاطره الطيب، وقد تم نقض هذه الاطروحة، لان القصة كتبت في عام 1380 هجري ويوافق 1960 شمسي.. وطبيعة تلك الفترة الزمنية لا تدعم هذه الاطروحة..
اي: لا يبدو ان المبرر الامني كافيا لاستخدام التقية من قبل سماحته، مع الالتفات الى الوضع الاسري الجيد لعائلة الصدر، والذي يغني سماحته عن استخدام التقية لاسباب امنية، اضافة الى المقام الاجتماعي الرفيع لعائلة ال ياسين، جده (من طرف والدته) والذي يوفر جوا امنا للكتابة وبحرية مناسبة. ……. الاطروحة الثانية:
وهي ان السيد الشهيد في تلك الفترة لم يرتقي الى مستوى الكتابات الحوزوية القياسية، ولم يدخل في مجال الخطاب الديني، لذا لجا الى كتابة القصة، باعتبار ذلك نشاط شبابي يناسب عمره، ومستوى وعيه، ضمن الاباحة الاقتضائية، وقد تم تفنيد هذه الاطروحة، استنادا الى ما تم اثباته تاريخيا من البلوغ العلمي والديني المبكر الشهيد الصدر .. اضافة الى ما ثبت من وجود نتاج فكري وديني لسماحته في هذا العمر، تميز ذلك النتاج بالدقية العلمية والوعي الرسالي العميق. …….. الاطروحة الثالثة: ثم ان الاطروحة الثالثة، والتي يتبناها الباحث، لاجل تعليل لجوء الصدر الى استخدام القصة والرمزية في تلك الفترة الزمنية، ومفاد هذه الاطروحة هو:
ان ذلك الاستخدام هو من (التقية) الا ان النقاش يدور حول مفهوم التقية عند سماحته .. ويحتاج ذلك الى استعراض مفهوم التقية عموما، ويمكن ادراجه على مستويات منها:
اولا: ان التقية اتيان ما يحفظ النفس من الضرر. ثانيا: ان التقية اتيان ما يحفظ الدين من الضرر. والباحث ياخذ بالثاني، ضمن ما يفهمه من النتاج الفكري والحركي للولي المقدس. ويحتاج الاخذ بهذه الاطروحة ايجاد مدرك ومستند لها، ويكون من ضمن النتاج الصدري. وهذا ما يتضمنه هذا القسم. والمستند الاول الذي تقدمه الدراسة لاثبات: ان السيد الشهيد قد لجأ الى القصة والرمزية من باب ايصال فكرة عميقة باسلوب واضح وبسيط يتناسب مع المحتوى الفكري والعقائدي للقواعد الشعبية، حينها، وبما لا يسبب ضررا فكريا او عقائديا لدي القواعد، وهذه هي التقية التي يتبناها الصدر، حسب فهم الباحث، فقد ورد في مقدمة الجزء الاول من الموسوعة (تاريخ الغيبة الصغرى) وضمن الحديث عن: نقاط الضعف في التاريخ الإسلامي، وفي فقرة الدفاع عن المؤرخين الاماميين، وهم الذين كتبوا عن تاريخ مذهب اهل البيت (ع) .. فقد بين سماحته
الملازمة بين التقية والقول التلميحي (عدم التصريح) فكتب سماحته ما نصه:أخذهم بالتقية التي يؤمنون بها ويطبقونها في جوانب حياتهم. فإن الضغط الذي عاشوه، كان يقلل من نشاطهم ويكفكف من أعمالهم، ويثير لديهم الحذر والكتمان. فيحملهم على التلميح بدل التصريح والاختصار عوض التطويل… انتهى. …….. المعارضة الموضوعية: ويلاحظ قول سماحته ((أخذهم بالتقية التي يؤمنون بها ويطبقونها في جوانب حياتهم)) .. فان لفظ التقية جاء مقرونا بعبارة ((التي يؤمنون بها)) وهذا قيد لتوضيح مفهوم التقية الذي يريده، والا لاكتفى بالقول ((اخذهم بالتقية في جوانب حياتهم)).. ولو افترضنا ان صاحب القول هو متحدثا اخر، من الجمع التقليدي، وليس الصدر، فهل سيذكر قرينة مع لفظ (التقية).. ويرى الباحث ان هذا يمكن له ان يكون مدركا لاثبات وجود مفهوما ثان للتقية، ولا يتفق هذا المفهوم مع المشهور، ذلك المشهور القائل: ان التقية تختص بحفظ النفس، كذلك فان هذا النص يصلح لتحديد مفهوم التقية الصدرية، وهو ان التقية لاجل حفظ الدين، وليس النفس حصرا، ويتضمن مفهوم التقية: عدم قول ما يسبب التشكيك والانحراف الديني، وتحت ما يعرف (( لو كسرته فعليك جبره)).. والكسر هو كسرا فكريا وعقائديا، وعلى المتحدث ان يبرئ ذمته باصلاح ما سبب من نشر مفاهيم ثقافية وعقائدية منتجة للتشكيك والانحراف لدى القواعد الشعبية. ثم يمكن الاخذ بما ذكره سماحته في المصدر السابق، وفي حديثه عن طبيعة المعارضة التي قادتها الحوزة الناطقة ضد الحكم العباسي الجائر، تلك المعارضة الموضوعية والمتمثلة بالخط الشريف لاهل بيت النبوة وهم الائمة الهداة (ع).. ويقارن تلك المعارضة الرشيدة بالمعارضة القرمطية الدموية، ويصف موقف الدولة الحاد من القرامطة، والموقف الحكومي المسايس للمعارضة المعصومة، فقد كتب سماحته:
وأقصى ما تدرك الدولة من الفرق بينهما، هو أن القرامطة والخوارج حاقدون دائماً، ومستحلون لقتل المسلمين على طول الخط. في حين أن لخط الأئمة رؤية وحكمة وتقية… لا ينافيها قيام الثورات منهم بين آن وآخر في مختلف البقاع الاسلامية.. انتهت عبارة الموسوعة. …… الخطاب الديني: ويلاحظ ان الموقف الحكومي تجاه القرامطة حادا وعسكريا، لان القرامطة مستحلون لقتل المسلمين، والاستحلال ملازم للفتوى، اي ان مقدمات الموقف العسكري للدولة من القرامطة هي طبيعة الفتاوى التي يصدرها القرامطة، تلك الفتاوى غير الموضوعية والتي يرفضها العقلاء فضلا عن المتدينين، كذلك فان العلة في مسايسة الدولة العباسية للخط المعصوم، يرجع الى طبيعة الخطاب الديني المعصوم، فان خطابهم (ع) يتميز بما وصفه الولي المقدس: أن لخط الأئمة رؤية وحكمة وتقية.. ثم ان التدقيق في عبارة رؤية وحكمة وتقية، وان لفظ التقية جاء متاخر برتبة عن الحكمة وعن الرؤية، ويمكن ان يفهم منه على ان الرؤية جنس واحد افراده الحكمة، لان كلاهما مرتبط بعقل الانسان ونتاجه الفكري والديني، وكذلك فان الحكمة اعم من التقية، وان التقية احد افراد الحكمة، لذا فان التقية تتفرع من الحكمة، وترجع الى الرؤية، اي انها نشاط عقلي وفكري وثقافي، الا اننا نحتاج الى ما يثبت انها لاجل دفع الضرر عن الدين، وليس كما يفهمه المشهور، ويمكن الرجوع الى عبارة الصدر، والالتفات الى قول سماحته:
أن لخط الأئمة رؤية وحكمة وتقية… لا ينافيها قيام الثورات منهم بين آن وآخر في مختلف البقاع الاسلامية.. …….. الحكمة والثورة: ان عبارة الصدر تربط بين التقية والثورات، وهذا يعطي للموضوع مساحة اوسع من القضية الشخصية، فهل سماع كلمة الثورات يسبب تبادر الذهن الى قضية شخصية؟ أم ينتج تبادر الى قضية شعب او أمة تثور ضد ظلم او ظالم؟ وبالتالي فانه يمكن القول: ان لفظ (ثورات) يلازم قضية عامة غالبا، ولا يلازم قضية شخصية الا نادرا، ومن هذا نستنتج ان التقية تتعلق بالقضايا العامة اكثر من تعلقها بالقضية الشخصية، ويبدو ان هذا هو الفهم الصدري للتقية، والذي يخالف المشهور غالبا. ويمكن دعم الاطروحة بمستد معتد به، وهو التزام السفير النوبختي (رض) بالتقية المضاعفة، وتعريف تلك التقية المضاعفة بالمفهوم الذي ورد في اطروحة هذه الدراسة، اي اختصاصها بالخطاب الديني، وبما يحفظ سلامة الدين والمصالح العامة، وليس السلامة الشخصية فقط، وقد وردت التقية المضاعفة وتفصيلها في الموسوعة ج3 وضمن الفصل الثالث وفي الحديث عن السفير الثالث، فقال الصدر : …… ماذا قال السفير الثالث؟!: وقد اضطلع أبو القاسم منذ ذلك الحين بمهام السفارة. وقام بها خير قيام، وكان من مسلكه الإلتزام بالتقية المضاعفة، بنحو ملفت للنظر، بإظهار الإعتقاد بمذهب أهل السنة من المسلمين. يحفظ بذلك مصالح كبيرة، ويجلب بها قلوب الكثيرين، على ما يأتي التعرض له فيما يلي من البحث. حتى أننا نسمع أنه يدخل عليه عشرة أشخاص تسعة يلعنونه وواحد يشكك، فيخرجون منه تسعة منهم يتقربون إلى الله بمحبته وواحد واقف. يقول الراوي: لأنه كان يجارينا من فضل الصحابة ما رويناه وما لم نروه، فنكتبه نحن عنه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على لباقته وسعة اطلاعه وتوجيهه على هذا المسلك من قبل الإمام المهدي (ع) وقد تولى (رض) أيام سفارته الحملة الرئيسية ضد ظاهرة الإنحراف عن الخط، وإدعاء السفارة زوراً، بتبيلغ القواعد الشعبية توجيهات المهدي (ع) في ذلك، وشجبه ظاهرة الإنحراف عن الخط وإدعاء السفارة زوراً، بتبليغ القواعد الشعبية توجيهات المهدي (ع) في ذلك وشجبه لظاهرة الإنحراف.. انتهى كلام سماحته. ان قول سماحته: وقد اضطلع أبو القاسم منذ ذلك الحين بمهام السفارة. وقام بها خير قيام، وكان من مسلكه الإلتزام بالتقية المضاعفة، بنحو ملفت للنظر، بإظهار الإعتقاد بمذهب أهل السنة من المسلمين. يحفظ بذلك مصالح كبيرة، ويجلب بها قلوب الكثيرين. يظهر مفهوم التقية بالمساحة التي نبحث فيها، ولاجل توضيح ذلك، نقترح ترتيب مفاتيح النص اعلاة كالتالي:
السفارة، التقية، الاعتقاد، المصالح. القلوب…
ويمكن ترتيبها مع ما لازمها من الالفاظ، اي ترتيب المفاتيح بشكل عبارات وليس كلمات فينتج: مهام السفارة، التقية المضاعفة، أظهار الاعتقاد، المصالح الكبيرة، قلوب الكثيرين. ان السفارة مهمة تبليغ وتثقيف رسالي وبالنيابة عن المعصوم، فاذا رجعنا للعبارات (المفاتيح) التي اخذناها من كلام الولي المقدس، يمكن التوصل الى مفهوم دقيق للتقية وهو حاصل الجمع بين مهمة التبليغ الديني مع مراعاة التقية واظهار الاعتقاد الذي يحفظ المصالح الكبيرة (العامة)
ويجبر القلوب ولايكسرها، وهذا المفهوم المشتق من نص الموسوعة والذي يحدد ملامح التقية سيتم مناقشته في القسم الثالث من هذه الدراسة