23 ديسمبر، 2024 12:30 ص

قراءة في قصة النصيحة الأخيرة للصدر1

قراءة في قصة النصيحة الأخيرة للصدر1

كان شابا طاهرا طيبا والطهارة تفيض على وجهه وتشعر بالروح الإسلامية تتحرك في كل مواقفه. كان ياتي بكلمات في الاضواء (المجلة النجفية عام 1380 هجري) ليعالج قضايا لم يكن مجتمع النجف يعالجها آنذاك…
هذا وصف السيد محمد حسين فضل الله للسيد الشهيد محمد الصدر(رض) في شبابه، وحينها كتب الاخير مقالات غير تقليدية في مجلة الاضواء، اضافة الى قصة رمزية بعنوان النصيحة الاخيرة، والتي تتناولها هذه الدراسة، وقد اعيد نشر القصة في كتاب: مقالات الشهيد الصدر في الصحافة النجفية، عام 2006 شمسي. بدا السيد الشهيد بوصف موقع الاحداث وهي غابة ذات حياة مفعمة ومتنوعة، فكتب:

أضفى جو الليل البهيم، على الغابة الكثيفة الشجراء، جوا اسود فاحما، يوحى لما فيهما من نبات وحيوان، بالوحشة والروعة: ويغير فيها ما كانت تعج به من اوجه نشاط الحياة، اثناء النهار، يغيره الى نوع من الصمت الدفين. فلم يعد يسمع خلال هذه الغابة المترامية الاطراف! الا ما تحدثه يد الاشجار من حفيف خفيف، يلامس اوتار الاذن برقة وفتور، عندما تلامسه انامل النسيم الهادئة والا ما يسمع من اجنحة طيور الليل، وهي تغادر مكامنها الى حيث طلب الرزق….

……. عناصر القصة: وقبل التعرض الى نتاج تفكيك عناصر القصة ومحاولة فهم لمعانيها، يحاول الباحث الاجابة عن تساؤل عن اسباب استخدام الرمزية من قبل الصدر في كتابة القصة، وقبل ذلك مناقشة الاسباب وراء لجوء سماحته الى (كتابة القصة) لطرح اراؤه القيمة. ويمكن ايجاز عدد من الاطروحات لتفسير هذين الامرين وهي: الاطروحة الاولى: واقع التقية المكثف الذي قد عاشه الصدر والذي منعه من التعبير بصراحة عما يجول في خاطره الطيب، وقد تحدث عن هذا الواقع في لقاء الحنانه، وذكر انه كان في تقية مكثفة، بل اشد تقية من جميع العراقيين. الا ان هذه الاطروحة تحتاج الى تعيين اسباب تلك التقية التي دعت سماحته الى اللجوء من الكتابة الحوزية الى كتابة القصة، ثم استخدام الرمزية بدلا من استخدام الخطاب االديني المباشر. والاشكال الاول الذي يوجه الى هذه الاطروحة، ان السيد الشهيد الصدر في ذلك العمر الشبابي، لم يكن مستهدفا من الدولة واجهزتها الامنية، اي عام 1380 ويوافق عام 1960 ميلادي، اي قبل حوالي خمسين عاما، وكان عمره الشريف 17 عاما، اي قبل استشهاد السيد محمد باقر الصدر (رض).. وفي فترة حكم الثورة الجمهورية، وقبل الحكم البعثي الهدام. وفي تلك الفترة الزمنية لم تستهدف الحوزة ورجالاتها، بل هي فترة امان نسبي من الناحية المادية، لكن الفكر الديني في العراق عموما، كان مستهدفا من العلمانية وخاصة الماركسيين، وكان الوضع الحوزوي مرتبك تجاه التيارات الالحادية، لذا فان تفسير لجوء سماحته لكتابة القصة، اواللجوء الى القصة الرمزية بسبب التقية، هذا التفسير لا يرتقي الى مستوى التصديق، لان الوضع العام عموما ليس ضاغطا الى حد استخدام التقية المكثفة من قبل سماحته في فترة 1380 هجري. الموسوعة المهدوية: الاطروحة الثانية: ان السيد الشهيد في تلك الفترة لم يرتقي الى مستوى الكتابات الحوزوية القياسية، وان كتابته للقصة هو نشاط شبابي ضمن الاباحة الاقتضائية، ومثل هذه الاطروحة تواجه اكثر من اشكال، احد تلك الاشكالات هو: ان سماحته قد ولد عام 1943 .. وكتب هذه القصة عام 1960 وهذا يعني ان عمره تجاوز 17 عام شمسي، وثبت ان سماحته شرع في هذا العمر بتاليف الموسوعة المهدوية، وهي ارقى المؤلفات الحوزوية في الموضوعية واقواها في الاستدلال، وتميزت بتوضيح المباني والمدارك الاستدلالية في اقسامها، اضافة الى وجود منهجية حاكمة لمحتوياتها كافة، اضافة الى استنادها الى معرفة الفكر الاخر (المادي) ونقده، والاهم ان الموسوعة تضمنت مفهوم التخطيط العام لتربية الكون والبشرية وملازماته. ويؤكد ذلك ما كتبه السيد الشهيد محمد باقر الصدر في مقدمة الموسوعة ونصه : بين يدي موسوعة جليلة في الامام المهدي (ع) وضعها أحد أولادنا وتلامذتنا الأعزاء وهو العلامة البحاثة السيد محمد الصدر – حفظه الله تعالى – هي موسوعة لم يسبق لها نظير في تأريخ التصنيف الشيعي حول المهدي (ع) في احاطتها وشمولها لقضية الامام المنتظر من كل جوانبها، وفيها من سعة الأفق وطول النفس العلمي واستيعاب

الكثير من النكات واللفتات ما يعبر عن الجهود الجليلة الذي بذلها المؤلف في انجاز هذه الموسوعة الفريدة. وإني لأحس بالسعادة وأنا أشعر بما تملأه هذه الموسوعة من فراغ وما تعبر عنه من فضل ونباهة وألمعية وأسال المولى- سبحانه وتعالى – أن يقر عيني به ويريني فيه علماً من أعلام الدين.. انتهى كلام سماحته. الوعي الرسالي: والاشكال الثاني الذي يوجه ضد هذه الاطروحة، ان قصة (النصيحة الاخيرة) والتي الفها الصدر هي ذات مضامين عالية، ويتضح فيها الشعور بالمسؤولية تجاه واقع الامة والتحديات المحيطة بها، لذا فان هذا النتاج القصصي الهادف يلازم درجة عالية من العلم الديني والوعي الحركي، وليس العكس. ويحتاج توضيح ذلك الى التعرض الى هيكلية شخصيات القصة وخطوطها الاساس. تكونت القصة من ثلاث مجاميع من الشخصيات: المجموعة الاولى وهي الموضوع الاساس، وتتمثل بشخصية (اللبوة) وملازماتها وهم (اشبال اللبوة) ويصفهم سماحته كالتالي: في هذا الليل البهيم وتحت افق هذا الجو الساكن، كانت تضطجع فوق العشب الوثير، وتحت مجموعة ملتفة رائعة من الاشجار الباسقة، لبوة مريضة، تجمع حولها اشبالها، وتئن بين الحين والاخر من وطئة الالم، وتستوحي من ذلك الجو الهادئ، مزيدا من الوحشة والالم والكسل… انتهى وصف المجموعة الاولى. والمجموعة الثانية من شخصيات القصة، تمثل معسكر الخير في الغابة، وهو الارنب الحكيم، والذي وجده ابناء اللبوة (الاشبال) بعد البحث في الغابة عن طبيب يعالج والدتهم (اللبوة) ..وقد احضروه الى مجلس اللبوة لاجل معالجتها. ويعرف السيد الشهيد عن هذه الشخصية بطريقة فنية قيمة، وبواسطة احد الاشبال، وكالتالي : شخصيات القصة: واذا ضمهم ذلك المجلس، ابتدر اكبر ابنائها بالكلام، محاولا تعريف هذا الضيف القادم لامه، فذكر انه ارنب صالح، معروف بالتقوى والورع، وبطهارة النفس وصفاء الضمير، الى جانب دقة في النظر وسعة في التفكير، واطلاع واسع في علوم الطب. وطلب هذا الشبل من امه ان تسمح للطبيب ان يشخص ما بها من داء ويعين ما تشكوه من الام، لعله يصف لها الدواء الناجح الصحيح. والمجموعة الثالثة من شخصيات القصة: وهو الثعلب، ويمثل الجمع الماكر والانتهازي في المجتمع وبعدة مستويات، ويصفه المؤلف الصدر كالتالي:

ولم يمرعلى اللبوة، زمان طويل، الا ورأت اشبالها عائدين، وبصحبتهم ثعلب شاب قوي، تقفز من عينيه علائم المكر والدهاء، وتنطق حركاته بالحيوية والنشاط، وتدل ملامحه على على ما في نفسه من نزوات الشباب. ثم ان مسرح الاحداث والتي وصفها سماحته في بداية القصة، معبرا برمزية عن الواقع الارضي او الدولي بانه غابة واسعة، الغابة الكثيفة الشجراء، وهي متنوعة جغرافيا مشيرا الى تنوعها الخلقي (نبات وحيوان) مع تباين اخلاقها المجتمعي (وحشة وروعة)، كما وصفها في بداية القصة بالنص التالي: مسرح الاحداث: اضفى جو الليل البهيم، على الغابة الكثيفة الشجراء، جوا اسود فاحما، يوحى لما فيهما من نبات وحيوان، بالوحشة والروعة: ويغير فيها ما كانت تعج به من اوجه نشاط الحياة، اثناء النهار، يغيره الى نوع من الصمت الدفين. فلم يعد يسمع خلال هذه الغابة المترامية الاطراف! الا ما تحدثه يد الاشجار من حفيف خفيف، يلامس اوتار الاذن برقة وفتور، عندما تلامسه انامل النسيم الهادئة والا ما يسمع من اجنحة طيور الليل، وهي تغادر مكامنها الى حيث طلب الرزق. والا وقع اقدام وحش هائم، لم يتطرق النوم الى عينيه من شدة الجوع فمشى خلال الليل البهيم، باحثا عما يسد به رمقه من ضعفاء الحيوان.. انتهى. ويظهر توزيع الشخصيات وطريقة الوصف الرمزي لساحة الاحداث، يظهر عمق الوعي الرسالي للمؤلف الصدر والاهداف التثقيفية من هذا العمل الجليل، وهذا يسقط الاطروحة الثانية، والقائلة بان: ان السيد الشهيد في تلك الفترة لم يرتقي الى مستوى الكتابات الحوزوية القياسية، وان كتابته للقصة هو نشاط شبابي ضمن الاباحة الاقتضائية. التقية الثقافية: ثم ان الاطروحة الثالثة، والتي يتبناها الباحث، لاجل تعليل لجوء الشهيد الصدر الى استخدام القصة والرمزية في تلك الفترة الزمنية، ومفاد هذه الاطروحة هو: ان ذلك الاستخدام هو من (التقية) الا ان النقاش يدور حول مفهوم التقية عند الصدر.. ويحتاج ذلك الى استعراض مفهوم التقية عموما، ويمكن ادراجه على مستويات منها:

اولا: ان التقية اتيان ما يحفظ النفس من الضرر. ثانيا: ان التقية اتيان ما يحفظ الدين من الضرر. والباحث ياخذ بالثاني، ضمن ما يفهمه من النتاج الفكري والحركي للولي المقدس. ويحتاج الاخذ بهذه الاطروحة ايجاد مدرك ومستند لها، ويكون من ضمن النتاج الصدري. وهذا ما يتضمنه القسم الثاني من هذه الدراسة.