ملحمة الزمن الصحراوي ورؤية مقادير كيميائية الوصف
توطئة:
تقوم المسافة السردية القصصية بين السارد المشارك وبقية مؤثثات الفضاء في قصة(تاج لطيبوثة)للقاص الكبير محمد خضير،ما جعلها أكثر التزاما في نمو تمفصلات الأبعاد الوصفية المحبوكة في مشخصات الأنا الشخوصية.وفي مجال إثارة مؤشرات التخييل المراوي مما جعل القاص يختزل أدق دقائق مسار حصولية الأشياء،في واقع مستويات الأفعال الدالة في مقتربات النص.
ـ الظل المراقب في عاملية تسجيل الشاهد الوصفي.
تتمثل عتبة النص القصصي في مستهل النص بذلك الدال المراقب،تصرفا في أحوال موقعية الفاعل العاملي كساردا مشاركا في نمو مشاهد النص،إذ إنه ذلك المعلم في معرفات الكثافة البدوية الصحراوية،وذلك الأنسان في الآن نفسه في المعرف ذاته المؤشرة على كينونة المكان الوجودي في قلب ذلك الجحيم الرملي،من خرافة طرق ومعابر الصخور المنحنية في امتداداتها اليبابية الأليمة،وعلى أساس من وظيفته التسجيلية المراقبة على ظل أحداث النص،يتحدد موقعه داخل مدرسة تعليم أطفال البادية دروس الحساب و أبجدية اللغة،وبمعنى ما كانت الشخصية طيبوثة أحدى طلاب ذلك الصف المدرسي،وليس في واقع النص ما يؤشر لنا على زمن تفاعل ثلة الطلاب مع مادة دروسهم،تحت إشراف وتوجيه ذلك الأستاذ،سوى أنه آلية مراقبة تهتم بتجربة تسجيل مشاهد حالات طيبوثة ومواقف النص على سطح آلة التسجيل،بالمقابل من اهتمامه في مسار علاقة تعاقب أنظمة دوران حركة الضوء و العتمة داخل و خارج جدران وأعمدة خيمته المصنوعة من الشعر،وفي فاصل من المسافة القصيرة عن مستوطنة بيوت أهل القبيلة البدوية:(أتفرس..فلا أثر لأي نجم مألوف لدي في صورة الفضاء الخلوي الذي يبين لي من مدخل الخيمة..وأسمع رغاء الجمال ونباح الكلاب.الفجر خارج الخباء..أستدل على شيوع الفجر عادة حين يبدو العمود الذي يرفع الخيمة صقيلا لامعا..وأنا أعلق عليه كيس التبغ الملون ومنظاري وخنجري ذا المقبض الفضي..وحين تتضح الثقوب في نسيج السقف المنسوج من شعر الماعز..وهو ينسرح مشدودا إلى الزوايا..أميز في المنظور الشاحب أوتادا و هياكل إبل سوداء تستند على أرجل طويلة مستدقة..مرق مسرعا شبح متدثر بعباءة..إني أشم رائحة حليب النوق أثره. ص13 )
1ـ بين رؤية الوصف وفضاء زمن الوصف:
تتجلى قابلية الوصف على مقولات(المكان=الزمن)إذ ليس هناك سوى مقولة انعكاسية من شأنها تأشير جزئية وكلية الزمن داخل جزيئات الحاصل المنطلقي من فضاء المكان ذاته.فالقاص يمنحنا عدة أزمنة داخل مستحدثات نصه : (زمن التضمين ـ زمن التناوب ـ زمن التأطير)إذ أننا نلاحظ في خاصية زمن التضمين،تلاحق الأحداث من خلال موجهات زمنية أخرى تقطيعية من الحدث الآخر،أما الحال في زمن التناوب،فهناك نواجه حدثان لكل منهما ذات دلالة،ولكن الفارق الوحيد،يبقى في مستوى وقوع الواحد في الآخر في مستقبل الحاضر،فيما تبقى القابلية التأطيرية متمثلة في عدد المشاهد داخل زمنية واحدة،غير إن هناك حادثة مركزية تبقى تستوعب جميع تلك المشاهد.وتبعا لهذا نعاين زمن الخطاب في النص،راح يحيط ويستوعب دائرة تأطير حادثة إختفاء وموت طيبوثة في الآن نفسه): مازلت منهمكا في تسجيل صورة طيبوثة على شريط في جهاز التسجيل الذي أدرته و هيأته. / ص13 )الشخصية المشاركة سردا في النص،تقوم باعداد وظيفتها الثنائية (المراقب/الشاهد)فيما نعاين صيغة ذلك الجهاز التسجيلي الذي يحمله معه المعلم،والذي راح يحمل صورة طيبوثة مع مجموعة من التراتيل الغنائية بصوت رياح الصحراء و البيئة القبلية في البادية،وما يظهر لنا من خلال ذلك الجهاز،ما يؤشر على كيفية هذه الترسيمة (استرجاع داخلي ـ لحظة تقابل/استرجاع خارجي ـ لحظة زمنية في مقطع الشواهد)والذي يعنى أكثر في صور السرد،ذلك الجانب من عين(المنظار)حيث الاسترجاع و الاستشراف في تراتب مقاطع الزمن و المكان و الشخصية والأنصاب الحجرية من حولها: (صورة طيبوثة:ها هي تعدو خلف ناقة صغيرة بيضاء..تثيرأقدامها فيما هما تبتعدان..ويستثار عقاب أسود من مكمنه ويرتفع محلقا في السماء الطليقة..ومع أنهما تعودان مسرعتين فأن الشمس القوية تجعل قفزاتهما بطيئة جدا على سهل الرمل الساطع. / ص14 ) إن حالات تتابع الشخصية طيبوثة داخل شريط التسجيل،يظهر لنا أن صورة السرد مقيدة داخل بانوراما الرقعة التصويرية في منظومة البث التسجيلي،مما راح يعكس دلالة استرجاع الزمن داخل صوت المكان وصولا نحو مواقع متواترة في مضارع أحوال النص،بما راح يؤهل المقاطع الأخرى من الوصف،إلى حالة خاصة من اللحظة المسترجعة من وحدة الزمن المسجل.
2ـ الصورة المسجلة وإنتاج مواقع المشهد:
وفي ضوء تصور أن أشارات وعلامات حياة الطفلة طيبوثة،ما هي إلا وحدة مسجلة على شريط في جهاز توظيف الخطاب النصي،إذن السارد المشارك هو الذي غدا يعرض أحداث النص،عبر آلة التسجيل،لتنكشف لنا هالة و منظور الطفلة طيبوثة داخل منظومتين زمنيتين: المنظومة الأولى،هي خصائص المحكي الفاعل،كصورة شخوصية مقترنة ب (وظيفة الزمن المؤطر)أما حالة المنظومة الثانية:فهي تقدم لنا زمن حاضر شخصية السارد في مادة بحثه ووصفه إلى زمن وموقع (الحضورـ الغياب)ذلك إن الشخصية الساردة في النص متميزة كفاعلية مزامنة لكلتا الزمنين،زمن حضور طيبوثة و زمن غيابها : (إنها تجلس..هي البنت الوحيدة..التي لها عشر سنوات..بين الصبية الحفاة المرتدين أثوابا طويلة ويغطون رؤوسهم بالطاقيات..تتحدث دون أن أسمع صوتا لها..أقوالها التي تتدفع من فمها الصغير الداكن. /ص14 )
3ـ الدلالة التقطيعية في بنية ترهين المسرود:
البناء في تجليات قصة(تاج لطيبوثة)يتقدم إلينا من خلال المستوى الخارجي من القص،فيما نلمس بجلاء البعد المركزي المكثف في زمن تنتجها آلية الصورة السردية ذات الخصوصية التقطيعية،فوحدات السارد تسعى من خلال وصف حياة الطفلة طيبوثة،كوحدة جزئية من قابلية إنتاج شيفرات الزمن والمكان،وبتحقق أثر وصف موحيات طيبوثة المتخيلة و المستعادة،يبرز لنا أنفتاح النص نحو كشوفات المكان وتقنية التقطيع الزمني : (إني أجهل الموقع الأخير الذي دفنت فيه طيبوثة..بعد أن أهملت القبيلة تحديده..كنت أثبت لاقطة الصوت على صدري قريبة من ذقني،ويخيل إلي أني تكلمت تحت تأثير مخدر . / ص15 )وعبر محكيات السارد التوقفاتية،يتجلى زمنيا البناء السردي،عبر اشتغال الكاتب على مادته الحكائية بطريقة صيغة الحكي وصفا،كبنية من شأنها تقديم و تأخير خصوصية الأزمنة على هيئة تقنية (ترهين الحكي)وتتسم هذه الطريقة في الحكي،بسرد إنتقالات المشهد وبصدد علاقة زمن القصة بزمن الخطاب،حيث نعاين اللجوء إلى تقنية القطع و التداخل و التركيز في صلة نقاط التماس و الإختفاء عبر مستويات عدة : (قبل يومين..خرجنا بعد الظهر بقليل نبحث عن طيبوثة..نركب الإبل..وتوزعنا في كل الاتجاهات..فلم تظهر طيبوثة في دروس الصباح..وبعد الظهراكتشفنا إنها غادرت خيمتها إلى اتجاه مجهول..على الانصاب الحجرية الثلاثية القاعدة.. التي تبدأ من المنارة الأثرية و تتوغل باتجاه الشمال..وكانت آثار قدم صغيرة مطبوعة في الرمل تفصل بين نصب ونصب . / ص16 ).
4ـ علاقة المكان بتحولات مصير الشخوص :
عبر آلية توصيف المكان،تتكون الرؤية السردية في النص،بما يلاءم مرحلة الفضاء الصحراوي التي وقعت فيها أحداث النص،غير أنها صارت تسرد بخلفية وعي مؤثثات الحاضر المكاني كليا،الأمر الذي غدا يخلق نوعا من تمايزية المبئر الوصفي في عين المنظار للسارد العليم،ومن ذلك الصورة المرتبطة بتجربة الأنصاب الحجرية الثلاثية القاعدة،والمنارة الأثرية ومساحات الصخور والحصى وذلك الأتجاه المتعين (ذلك الأتجاه الذي يمشي فيه جسد نائم . / ص16 )وأخيرا العثور على مصير ذلك الجسد الممرغ بالموت و المصير الي سيؤول إليه أهل القبيلة بعد ترحالهم وسط زوبعة الرمال الصحراوية :(التقيت بالجسد الصغير منكفئا قرب مجموعة بيضاء وحمراء من القرنفلات انبثقت من كؤوسها الخضراء المخروطية..تكتنفها نبتات قميئة غير مألوفة..وفي يد طيبوثة المتصلبة رأيت نبتة منها ذات جذر دقيق..وكان قد قضمت جزءا منها وبعد ذلك لحق بي بدوي وتفحص النبتة التي أنتزعها من يد طيبوثة ثم قال : أنها نبتة سامة..حمل البدوي الجسد الصغير..وكان فم طيبوثة مزموما قد مج سائلا أخضرداكنا./ ص17 )ومن خلال مستوى هذا الحكي الذاتي،الذي تعمل عليه شخصية السارد المشارك،يقوم بمواجهة ذلك الجمل الأجرب،الذي يشكل بحد ذاته،ذلك الرمز الجامع لزمن الصحراء ورحيل قبيلة طيبوثة. فرؤية المتكلم العليم حول الصحراء وما ينسج عنها من أساطير وخرافات،بالإضافة إلى أنها الصورة التمايزية المتمثلة في التوجس والخوف من سوء المصير،وغائيات رؤية المكان الأبدية .
ـ تعليق القراءة :
من خلال رؤية وأسلوب ودلالة قصة(تاج لطيبوثة)تواجهنا سرديات علاقة الشخوص بالمكان والزمان الصحراوي،حيث تتضح لنا مؤهلات غرائبية في طاقة الوصف الصحراوي لدى القاص،ولمكامن جلالة موضع الصخور والممرات الرملية،بما راح يجعل فاعلية التبئير تقع في منظار الراصد أوالشاهد نحو رؤية منظورية فاعلة من قابلية القص والوصف القصصي : (أنا أعجب..أنه يشبه التاج..تاج موضوع على الرمال يظل عمود المنارة..يخفي تحته الشريط الذي سجلت عليه صورة طيبوثة مدفونا بالرمل/أتابع بمنظاري القافلة المرتحلة الشاحبة وهي تنأى..وفي قاطع رمل تلتقي بزوبعة مفاجأة من الرمال المنثارة..تهيج الإبل المحملة و تنفرط..تغيب القافلة عن عيني في الرمال./ ص22 .ص23 )وفي إطار خلفية الفاعل الذاتي وعين الشاهد،تتلاشى ظلال معالم الرؤية بالمكان من خلال النظر والحس في مشاهد المنظور،وبالمشهد المصور تسجيلا و انطباعا،فالسارد العليم يقوم هنا بسرد معالم المكان،ليسرد تجربة تصويرية مع (تاج طيبوثة)معادلا رمزيا يقع في أقصى درجات الحكي الذاتي،والذي غدا بعدا ممزوجا بعملية التبئير الساخطة والمتوجسة في مشاهد ملحمة الزمن الصحراوي ورؤية كيميائية استبطانات مخيلة الوصف ومقادير أسطرة الوصف.