23 ديسمبر، 2024 3:29 ص

قراءة في شعر عبد الكريم كاصد ( 4 )

قراءة في شعر عبد الكريم كاصد ( 4 )

دوال التدوير بين أمكنة الآخر و تذويت الأزمنة
تشكل عاملية المكان بالمعنى التشكيلي في بنية و صورة البناء الشعري لدى عبد الكريم كاصد ، ما يمكن لنا اعتباره خاصية الجملة الاستنطاقية في محفوظ العلاقة الانعكاسية إزاء صنيع درجات و تباينات وحدات ( الزمن / المكان ) و وظيفتها الارتباطية المشتملة في أفق مصاغ الموضوعة التدويرية المعطاة عنها و من خلالها وظيفة القرب و البعد و الارتفاع و الانخفاض في مستدعى إحداثيات المادة الاسترجاعية المبثوثة في زوايا ذاكرة الخصوصية التصويرية الدالة و القادمة من فضاء رسوميات حالات التدوين كـ ( الأمكنة / الأزمنة / أنا الشاعر / الآخر ) و بمجموع هذه الحالات تتشكل لنا حصيلة علامات لغة الشاعر في حال قصيدة ( البيت ) نموذجا :
بيتٌ على نهرٍ يُطلٌ
أكان بيتاً ؟
هل رأيتكِ فيه ؟ .

أتصور من جهتي إن تجليات دال ( بيت ) خاضعا في مجلى رسوميته إلى مجال رؤية ( ذاتية مكانية ) تقترب من أفق دلالة عوالم منفى حلمية الشاعر بذلك الآخر المفقود ، بيد إنه لا يمكنه إزاءه سوى التمسك ببعض نسغ حياته تخصيصا في أيقونة معبودية مأساوية الفقد المتصاعد في صلب صورية الوجه الآخر من زمنية الوسيلة الاستجابية الخاصة و المتعلقة في حال مساءلة الموجه الخطابي المتلبس برؤية و علامة دلالة الفقدان أو اللافقدان ، و هذا بدوره ما تظهره ظاهرا الأسطر الاستفهامية من جسد المعنى الأولي : ( أكان بيتاً ؟ ) و أحسب بأن الشاعر أضحى في عالم لا يشعر به واقعا ، منفردا بمناجاة شبه توكيدية تارة فيما تبدو تارة أخرى و كأنها مطالبة الذات الشعرية بهجس وحدة واقعية المكان و الزمن و المشاهدة دليلا حيا في مسكونية تواجد ذلك المحبوب في صورته المنعكسة عن ذلك المخزون المراوي في دائرة إسقاطات حلمية الشاعر الاستجابية . و ذلك ما يبدو لنا واضحا في جملة القول اللاحق من النص 🙁 هل رأيتكِ فيه ؟ ) فنحن هنا نعاين مدى شروطية ارتباط حدود المكان و الزمن بحثا في قياس مداليل غاية رؤية الشاعر الانفرادية ، مما يشكل بدوره أنعكاسا في عوالم بحثه الدائب عن وجه و موطن ذلك المحبوب الهلامي ، وصولا منه إلى خطاب المرآة و القابلية التدويرية في أحوال القصيدة التي من شأنها أستجلاب ( وحدة الزمن / حسية المكان = الماضي ماثلا أمام الحاضر المتخيل في الزمكانية = عين المدرك اللاشعوري = عين ثبات الرؤية = التسكين في أحوال العلامة القياسية = البحث عن الكيفية في الثبات اللاواقعي = استجابة رؤى ) .

ــ فعالية المفترض بين الإحاطة الحلمية و الافتراق المكاني .
تتبدى لنا في الأجزاء الأخرى من النص ، جملة من الموضعيات المحفوفة بالانفتاح أولا حول متغيرات زمنية و موقعية ( أنا الشاعر ) بالمقابل الآخر من ملامح ذلك المكان الموصوف بـ ( البيت ) لذا نجد في مركبات المقاطع الأخرى من النص ، ما يشكل بذاته خاصية حيزية مفقودة من جذر المقايسة الواقعية الحاضرة من استشرافية دليل النص العيانية ، أو لربما من جهة ما يبدو لنا هذا الأمر أكثر اللحظات ارسترجاعا مغايرا من مسار أمكنة الشاعر المتخيلة ، الأمر الذي جعل من شاهدية المكان في النص دليلا متمثلا بأشكال اللامرئي و المرئي من جهة مخيلة التلاشي و الغياب ، كقول الشاعر الآتي :
بيت ٌ أبتنيتهِ
إذا اختفيتِ
أصيح من جزعي ( افتحي !)
فيزول .

من هنا نعلم مدى وعي الشاعر بكيفية نسجه لأشد الأطراف افتراقا في حبكة الحال الاتصالي في القصيدة ، إذ يظهر لنا الكاصد في عتبة نصه بدءا : ( بيت على نهر يطل ) فيما نجد تتابعا حضورية جملته الاستفهامية ( أكان بيتاً ؟ ) وصولا إلى دلالات الأسطر المتوسطة التي أخذت تشعرنا عند قراءتها بالمزيد من رسوخية تفارقية الخطاب الحلمي في مبنى ذلك البيت الموصل بحصيلة غياب ذلك المكان بالمحبوب :

ثم ّ يعود أشجاراً
ونهراً
تهبطين إليهِ
بيتٌ أرتقيهِ
إليك .
لا شك في إن ( يعود أشجارا ) و ( نهراً ) ما هي إلا رؤى ذات إحالات أستكمالية تبعث فينا محاولة الشاعر في تشكيل الصورة الفقدانية للمحبوبة على نحو خاص من تحولات أحوالية الروح في موطن الطبيعة و الأشياء ، ما جعل يذكرنا هذا الأمر بأجواء حساسية أفعال الترميز الدالة إلى وصال الفعل الحياتي بذلك الآخر المذاب في ماهية سكنات الروح و سكينة الروح المتحررة في إطلاقية طهر و مظاهر الصفاء و براءة مفردات الطبيعة المصايحة ( أشجارا / نهرا ) و حتى لا يبتعد فضاء الوصال بين محورية ذات الشاعر و الآخر اتصاليا نجد الشاعر يوطن حضوره الحلمي متشكلا على النحو الذي غدا يشير إليه في هذا الموطن من التلفظ : ( تهبطين إليه .. بيت أرتقيه إليك ) .

ـــ المخيلة تحييل الزمكانية إلى حساسية واقعية محتملة .
حين ينتهي سياق السؤال في المتن الشعري المتمثل بـ ( أكان بيتا ) إلى ( فيزول ) إلى ( أرتقيه إليك ) تتبين لنا حيوات الفعل الزمكاني في متواليات قصيدة الكاصد ، محدثة تحولا معلنا ، فيما تقودها حالات حساسية التشكيلات الذواتية المحتملة نحو منظومة سؤال الشاعر الأبدي في خطاب الوجع و الأوجاع الحواسية التي تقودنا إلى أقصى غايته بتعريفه بهجرة الآخر و الى إنتهاء زمن صوته الراوي في بث موجات وجود محبوبته الإمكانية في الوجود التدويري للنص ، لذا نراه يستعين بالوصف تارة و إلى الوحي بالإيحاء تارة لأجل تقديم تفاصيل حلولية زمن الإقفال :

و خطوكِ في الظلال
يرنُ
يرنُ
يرنُ
حتّى تخفت الأصوات
حتّى تختفي
كلُ البيوت

يقدم المتن النصي لنا في صورته الأخيرة من نص (البيت) بمثابة الحالة التركيزية في شعرية النص صعودا نحو أفعال تحولات المشهد و انعكاساته و أحلامه الموجهة ارتدادا تدويريا في قابلية الحدوث و عدم الحدوث القصدي ، مما راح يجعل من إجرائية الضربة الختامية في النص ذات آفاق دلالية و تشكيلية و مونتاجية موفقة شعريا . أما الحال في نص ( السدرة البيت المرآة ) جاءنا و كأنه الوصلة المتممة لفروع العنونة المركزية للقصيدة ( مملكة الأنهار ) لذا نقرأ ما جاء به هذا النص من المقاطع الشعرية / الحوارية :

البيت قال : (سأكسر المرآة )
قالت سدرةُ البيت ( احترس )
قالتْ : ( سأرحلُ )
و اختفتْ في صمتها المرآة
و اتّشحتْ نوافذُ بالحداد .
( تعليق القراءة )
يتبين لنا إن رؤية ( شعرية المرايا ) قد حلت في فروع قصيدة ( مملكة الأنهار ) المرقمة ، كصورة منعكسة و متعددة ، إذ راح من خلالها ينعطف بالتماثل دال ( السدرة ) و دال ( البيت ) كحالة ثلاثية من شأنها معاودة صلة الرمز بالمرموز إليه وصولا إلى أفعال ذاتية الآخر الغائب عن موجودية الخط الواصل ماديا باللحظة الحقيقية المعاشة في زمن النص . حينئذ نجد أن مستوى التمثيل و التماثل لهذه الثلاثية الدوالية و الأحوالية ، قد أخذت تؤسس لذاتها في رؤية الشاعر تلك الصورة المنعكسة حلما دون تسمية أخرى لهذه الدوال التي هي بمرجعها العائد إلى موصوفية الدليل الآخر المقيد بزمن اللاوجود صرنا نعاين أثرها الامتثالي في دال المرآة و البيت و السدرة كأحوال مؤشراتية متممة في متن أقنعة رؤية الشاعر الفقدانية الكبرى التي انتظمتها أزمنته الوجدانية و المصيرية الدائبة في بحثها و تصويرها لمستوى تمظهرات ذلك الغائب في مرايا الحضور الآخر من أمكنة تذويت تضاعيف وجوده و مشاركته الشعورية مع خطاب الشاعر في مرآة دليل النص.