23 ديسمبر، 2024 4:17 ص

قراءة في شعر عبد الكريم كاصد (2)

قراءة في شعر عبد الكريم كاصد (2)

دلالات السفر في حضور المكان و وحشة زمن الغياب
لقد تحدثنا فيما سبق عن صورة و فكرة و ثيمة محورية (فضاء قصيدة الفقدان ) في عوالم شعر مجموعة قصائد (حذام) غير إننا الآن نعود لنكشف حجم تفاصيل ذلك الفقدان المتجسد عبر منظومة صور مراوية ، من شأنها خلق فاعلية خاصة من دلالات الوحشة في وحدات الزمكانية الشعرية . فالشاعر الكاصد و من خلال عناصر وحدات مجموعته الشعرية (حذام) راح يشكل عبر لغة الزمن و المكان ثمة هواجس نادرة من الصورة المراوية ، التي أخذت تتشكل في مزايا محورية الآخر (حذام) لتصل بنا دلالات هذه المحورية الدالة ، الى رسوميات تضاعفية خاصة في علاقة متكونة من ثنائية ( حضور ــ غياب ) و تبعا لهذا المضي من الشاعر ، صرنا نعاين موجهات ذلك الأخر المراوي في مسار ذاتية موضوعة القصيدة كدلالة مؤشراتية في مرايا السفر في حضور المكان و وحشة غيابات ذلك الأخر المتموج بارتجاجات المنعكس من دليل شواطىء علاقات الذات الشعرية بالأخر المتغير زمنيا . نطالع بهذا الصدد قصيدة (مملكة الأنهار ) المرقمة بالعنوانات الفرعية حيث نكتشف من خلالها ثمة دلالات متصلة و حدود مدى ذاتية الأخر الغائب في تفاصيل الزمن و المكان الوجودي ، غير أنها تلك الذات الحاضرة في توصيفات ذاتية الأنا الشعرية الواصفة :

1ــ السدرة
هي سدرة
مرت بها الأفعى
و مر بها الطريق
و علقت إقبال في أغصانها حرزا
وجاء الطير من سبأ
و غادرت اليمامة
سدرة
أم شرفة
منها أطلت في الصباح حذام . / ص23

ومنذ اللحظة الأولى من مقاطع النص ، أخذ يعلن الشاعر عن تفاصيل الإحالة المرجعية في عتبات مستهل نصه ، كحال ثيمة هذه الدوال التصديرية : ( السدرة .. الأفعى .. الطريق .. في أغصانها .. حرزا .. وجاء الطير من سبأ .. اليمامة ) و كل حاصلية هذه الدوال ، أنما هي ناتجة عن موجهات الصورة المرجعية القرآنية و صلات الحكايات الشعبية . إلا إن الشاعر هنا لا ينفك في مرجحات قصدية ذاتية هذه المرجعية ، بل أنه راح يسعى نحو خلق سيميائية دالة بذاتها ، حيث من خلالها تتكشف لنا علاقة الأوضاع الأحوالية في الشأن المقصدي شعريا ، اتصالا وملحقات الفعل الدوالي المعزز في المتن النصي و على نحو يبدو شاملا لأكثر من مستوى في موجهات النص . و يستجيب المتن النصي استجابة عميقة لمرجعية ذلك الاشتغال الإحالي في الذات الدلالية ، صعودا نحو جهة الألتحام بمصورات الأنا الشعرية المراوية : ( سدرة = شرفة + أطلت + الصباح = حذام = دلالة مراوية ) يشتغل هذا المقطع كاملا على تكريس شعرية الصورة المراوية و عبر سلسلة كثيفة من الإيحاءات و الإحالات اللامباشرة في سياق حسية من المساءلة و المونولوج الداخلي . فالشاعر من هنا و هناك كان يحاول جاهدا ربط اللقطات الأيقونية في الخطاب الصوري ، كي يصل بالعلاقة النواتية الى تذويت لغة المكان و الزمان و الحضور و الغياب بوصفهما البديل الاحتمالي الناتج عن فراغ الأشياء من مادية دال حذام و وحشة مظاهر صور الأشياء و الحالات المكانية من حول الشاعر . و الشاعر لا يتوقف عند تمركزات حالات الدلالات الأولى في النص مرورا عابرا ، بل أنه أضحى يقودنا من خلال علاقاتها المتحولة الأولى الى حلولية خاصة من حكاية مرجعية التناص و رؤى التصورات الدلالية المتجسدة في محاكاة مظاهر الدليل القولي المتناص و حدود آفاق لغة المجاورات التناصية ، كحال قول الشاعر لاحقا في القصيدة :

و تكأت على خشب السياج
و رددت لحنا
ترى الأفعى تمر
ترى الطريق
الهدهد المسحور
أجنحة اليمامة غادرت . / ص24

و تتجسد من هنا أقنعة المرسلات المرجعية بالتناص الشعري ، لتصل بالعلاقة الدلالية نحو مجليات الأيقونة المراوية المشتركة بين الأنا الشعرية الحاضرة و الدال الشعري الغائب المتجسد بدلالة حذام ، و يبقى الهدف من وراء هذه التماثلية المشهدية المحفوفة بروح الرمز و التناصية المتصلة و حدود دال ( الأفعى ) و دال ( الطريق ) وصولا الى دلالة الموت المتجسدة في جملة ( أجنحة اليمامة غادرت ) من هنا نعاين مدركات الشاعر التوظيفية في مسار الإحالة و التناص و الترميز ، علها تسترجع للشاعر نفسه دورة ذلك الزمن المفقود من مسار شاشة الحضور الواقعي ، عوضا عن تلك الصور الاسترجاعية المنبثقة من عمق هوية الصورة المراوية و القادمة من مواثيق الساعات المستلبة من تفاصيل حياته مع زوجته حذام ، بادئا من لحظة الانتظار الأولى :

على ضفة النهر
يجلس منتظرا
قاربا لا يجيء
و إن جاء يوما
فماذا سيحمل ؟
ماذا ؟
أظلا يسير على الماء
أم حجرا
لا يغادر ضفته
أبدا ؟ / ص22

التفاصيل الدلالية هنا في القصيدة تقودنا نحو كاميرا عدسة الذاكرة ، فتنقل لنا مقاطع الدفقات الشعورية بموجب مروية التحول الدلالي و استثمار هيئة ذلك المتجاور في الصورة المرجعية و المنعكس على شاشة النص الواصفة .

ـــ لحظات الاسترجاع لزمن شعوري مستعاد .
إن الصورة الشعرية في تجربة مجموعة قصائد (حذام) تتصل و مسار حالات نفسية قاهرة ناتجة عن واقع حياة الشاعر المؤلمة ، فالصورة الشعرية بدورها في محاور مجموعة الشاعر ، قد أخذت على حالها استعادة جملة اللحظات المعاشة من حقيقة تصورات احاسيس الشاعر الاسترجاعية . و هذا بالضبط ما وجدناه في القصيدة الفرعية (إقبال ) :
هل أعددت شاي العصر ؟
ــ هل مازلت جالسة على خشب السياج
ترددين اللحن ؟
جاء الليل
و انطفأت فوانيس المساء
و نشرت تلك الظهيرة ثوبها المغسول
و اختبأت بجنتها السلاحف
و استعاد الليل سدرته . / ص24

أن الصورة الشعرية هنا تبدو من خلالها لغة الحال و كأنها ناتجة عن لحظات شعورية كثيفة من الاسترجاع الذاكراتي المعزز ، بحلولية عناصر المعايشة و الإيحاء المدعم بالصورة الوقائعية المحتملة . إلا أنها تبدو من جهة بعيدة كموجهات إجرائية تكشف عن وعي الشاعر في حال مساءلة فضاء دلالة فقدان الأخر ، لتتجه بالذات الشعرية نحو آنوية صارخة ، من شأنها إحصاء تفاصيل رؤيتها الذواتية القاهرة و المصادرة التي تتعرض لها دلالة الأخر في مفاصل فضاء من التقاطعات و الانقطاعات و الانتقالات المصيرية اليائسة : ( هل أعددت شاي العصر / هل مازلت جالسة الى خشب السياج / ترددين اللحن ؟ ) فالأفعال الشعرية هنا أصبحت معطيات بدائلية لأسترجاعية ذلك الأخر الشريك ، حيث أخذت بالتالي تستعين بصوت الشاعر ، كإضافة استرجاعية و كقدرة خاصة على استنطاق و تذويت حالات المكان و مؤثثاته التحولاتية ، بما راح يعزز لها حدود مساحاتها الاستذكارية التوافقية و العدمية إزاء حساسية الشاعر و طقوسه التعويضية : ( و انطفأت فوانيس المساء / و نشرت تلك الظهيرة ثوبها المغسول / و اختبأت بجنتها السلاحف / و استعاد الليل سدرته ) و تصبح مكونات الدوال الشعرية المراوية في مقاطع النص ، بمثابة الاستعادة المجازية المتوافقة من ناحية مصدريات دلالية أولى ، غير أنها بالأخير نجدها تتجه بالمقوم الرمزي بهالة التعطيل نزولا عند حلول كيفيات التفاعل الأولى من النص الى قابلية اضمارية خاصة في الأخير النصي ، و هذا الأمر ما جعل من أحوال الدوال في التحول من دلالة المعطى الفاعل ( هي سدرة ) الى دلالة المعطى الغائب ( و انطفأت فوانيس المساء ) وصولا الى زوال حدود فعل و اشراقة الأخر بالحضور المغيب : ( و استعاد الليل سدرته ) و إذا ما أنتقلت الذات الشاعرة الى مفصلية أخرى من مفاصل الكشف عن كيفيات محاولة إدامة رؤية الشريك الأخر ، فأننا نجد عودة الشاعر الى المطالبة بإحلال الأخر الشريك في سياق الأفعال الصادرة و في مساحة مضافة من فضاء الحركة الدلالية الجديدة :
و غاب الناس
إلا أنت
ساهرة
وصابرة
ترين الهدهد المسحور
و الأفعى
و سدرتك الحبيبة
و اليمامة
و الطريق
يحدقون
يحدقون
ــ حذام !هل مازلت ؟
هل مازلت ؟
ساهرة
ألا تأتين ؟ / ص25

فمنظومة الدوال في هذا السياق أخذت ترتفع بالعلاقة التخاطبية إزاء مناشدة و تحفيز الجمل الاستفهامية ، التي راحت تكشف عن حال مجليات الأنا العاجزة بالإمساك بغيابات مكان و زمان و حالات الأخر الشريك الاسترجاعية المفقودة ، وصولا بالشاعر الى إيراد الموجهات المرجعية بالخطية التناصية القرآنية كحال دلالة ( الهدهد المسحور ) و دلالة ( اليمامة ) و دلالة ( السدرة ) و دلالة ( الطير ) و ختاما بدلالة ( سبأ ) و مجموع هذه الدوال كانت تشكل بحد ذاتها تلك العلامات الاحوالية الخاصة بموضوعة الفقدان ، إذ راح يتداخل في إطارها المرجعي ثمة رؤى تلاحمية خاصة بحكاية أزمنة و أمكنة حالات الفاعل الشعري في قصيدة الشاعر الفقدانية و المتضافرة احتمالا مع سيرورة النموذج النصي المستعاد في مساحة أيقونة الواقعة الحاضرية من موصوفات الشاعر .

( تعليق القراءة )
إن التوحد الشعري المشحون في دلالات وحشة وحدات المكان و الزمان ، كان المحور الشعري الأكبر في دليل قصدية مجموعة قصائد ( حذام ) ، حيث يعد من القابليات المكوناتية المؤثرة في سيرة العناصر الاحتمالية الحميمة و الموزعة بين عناء الذات الشعرية و بين توظيف ولادة القصيدة كمرثية تستجيب لمدى مرارة التجربة الفقدانية و مصداقية عمقها الدوالي المكثف بحسية فضاءات قصيدة الفقدان .