18 ديسمبر، 2024 11:58 م

قراءة في رواية موانيء المشرق السرد حين يكسر علامات التاريخ ويلوي اعناق الحقائق

قراءة في رواية موانيء المشرق السرد حين يكسر علامات التاريخ ويلوي اعناق الحقائق

يخيم على رواية موانيء المشرق للروائي اللبناني الفرنسي، أمين معلوف؛ السوداوية والألم والاحباط منذ مفتتح السرد الى حيث ينتهي. رواية ذات بعد تاريخي وسياسي وخطاب مؤدلج ذي بعد قصدي، من خلال معاناة الشخصية المحورية، أما بقية الشخصيات ماهي الا ظلال للشخصية الرئيسية، عصيان او باكو في مرحلة من مراحل حياته. لقد كتبها الروائي امين معلوف بطريقة السرد ما بعد الحداثة، فقد هجن السرد الكلاسيكي مع السرد الحديث او الجديد كما تصف هذا النوع من السرد الناقدة اليمنية إمنة يوسف. الكاتب، المؤلف، السارد؛ يلتقي بطريق الصدفة مع رجل بدى من اللحظة الاولى او من النظرة الاولى شخص محطم، اثار اهتمامه، حين ايقظ في ذاكرته، ما مر عليه ذات يوم بعيد، صورة لمجموعة من المقاومين الفرنسيين للاحتلال النازي، نشرتها احد الصحف في ذكرى الانتصار في الحرب الكونية العظمى، يظهر في الصورة شاب، هو هذا الرجل الذي قبالته في المترو، كتلة من الحطام. سرعان ما يتعرف عليه وتبدأ له معه علاقة ويتفقا على اللقاء ليسرد له حياته وما عاناه في رحلتها من ألم واستغلال بشع واضطهاد قوي التاثير على اتجاه حياته ومسارها، من اقرب الناس اليه، شقيقه. بالاضافة الى بطولاته في المقاومة الفرنسية بحيث اعتبر احد ابطالها المشار لهم بالبنان. يتناول فيها او يحدد اصله الاصلي ومنبته؛ فهو واحد من احفاد العوائل العريقة في لبنان ذات الاصول الهجينة، جدته من اصل ارمني وجده من اصل تركي، أمير من الامراء الاتراك المغضوب عليهم من السلطان وبقية الامراء، اللذان تجبرهما ظروف الحرب العالمية الاولى على الرحيل من اضنة بدافع خوف جده على جدته واهلها من انتقام الاتراك في حينها ويستقر في لبنان. تصبح عائلته مع مرور الزمن، واحدة من العوائل الثرية والعريقة. يصر ابوه العربي اللبناني، ان يكون ابنه بطلا بطريقة ما، اشباعا للبطولة التى تمتلك عليه زمام نفسه وتفكيره. لكن الأبن هو الأخر يصمم على التفوق العلمي. في نهاية المطاف يرضخ الاب لرغبة الابن. يسافر عصيان الى باريس لدارسة الطب هناك، في الفترة التى اشتدت فيها طبول الحرب وباتت على الابواب. حين أندلعت، ترك دراسة الطب، ليتغير مسار حياة عصيان الى الابد. يشترك مع مجموعة من اليسار الفرنسي الذين التقى بهم على مقاعد الدراسة في مقاومة الاحتلال النازي لفرنسا. يتغير اسمه العربي من عصيان الى باكو لضرورة امنية كأسم حركي. اثناء المقاومة يتعرف على كلارا وهي شابة يهودية يسارية. عندما تنتهي الحرب يتوج عصيان في لبنان كبطل يحتفى به في بيروت، يتزوج كلارا في حيلة اعداها معا في تغيير ديانة كلارا. في هذه الاثناء يموت الاب. بعد زمن قليل من موت الاب، تنشب الحرب بين العرب واليهود وتقام (دولة) اسرائيل. من سخريات القدر او سوء حظهما ان تكون كلارا الحامل بأبنته، عند بداية الحرب في حيفا، في بيت خالها. لينقطع حبل الوصال بينهما. مما يؤدي به ان يفقد عقله ورشده ويبدأ يتصرف بلا وعي. مما وفر الفرصة لأخيه ليزج به في مصح خاص بالعوائل الثرية، وفيه يتعرض الى ابشع انواع الاضطهاد غير المحسوس بتعريضه الى اكثر انواع المهدئات فتكا بالعقل بتوصية من اخية حتى يظل وصيا على حصته في الميراث. بعد عشرين عاما في المصح يبلغُ الوزير الفرنسي الذي زار لبنان وألتقاء بأخيه الذي هو الاخر صار وزيرا لفترة وجيزة فقد جلبه من المصح لحضور مأدبة غداء على شرف الوزير الفرنسي، برتران، والذي هو واحد من ابطال المقاومة ومن اليسارالفرنسي، حتى يظهر امام الوزير من انه شقيق لأحد ابطال المقاومة، ليقدم للوزير حيت اختلى به جانبا؛ صورة لنادية أبنته، اخرجها له من صدره، من جهة القلب. تزوره ابنته في المصح. ولم تعاود الزيارة التى وعدته بها، لذا ظل هو بأنتظارها كي تخرجه من المصح، حتى بدأت الحرب الاهلية في لبنان ليخرج من لبنان ومن المصح في آن واحد. يلتقي مع كلارا التى كسا الشيب شعر رأسها،على ضفة السين بالقرب من الجسر، وامام رصيف الساعة في الضفة الاخرى من السين، لقاءا حميميا وحزينا وباكيا كما نقله لنا منظار المؤلف، السارد، في المقطع التالي:” التصق الواحد بالآخر وتعانقا، وراحا يهدهدان رأسيهما بتناغم، كم لو أرادا تحدي القدر الذي فرق شملهما.واعتقد انهما لم يتبادلا الكلام بعد، بل كنا ينتحبان.”

البعد السياسي

تعتبر رواية موانيء المشرق رواية سياسية لم يتبع فيها الراوي اسلوب التشفير في ايصال الرؤية السياسية التى يريد ان يوصلها الى القاريء بل اتبع طريقة اخرى، طريقة الازاحة وهي طريقة متعارف عليها في فن السرد ولاتفقد الروي تدفقه ومتعته، فقد تدفق السرد بطريقة ممتعة وبلغة رشيقة وبليغة في ذات الوقت. يرسم لنا السارد، الكاتب، المؤلف فيها وعلى لسان عصيان؛ ان عصيان هو الجيل العربي الذي لم يحظ باي فرصة في الحياة والتطور وهو بهذا يمثل خضوع جيل كامل او اجيال من العرب الى الاستبداد والاضطهاد وسلب الارادة من خلال اعطاء المهدئات اي جعله مخدر وتغييب لما يجري حوله في العالم عبر هيمنة السلطة العربية التى تسيطر على الشعوب العربية بل تحكمها بالحديد والنار. ووضعها داخل سجن محكم الاغلاق لا نافذة فيه الا مايريد النظام العربي الرسمي من ايصاله له في الذي يخص الاعلام اوالكتب.. بهذه الطريقة يختفي دور الناس من المساهمة في صناعة القرار الذي يخص حاضرهم ومستقبلهم. عصيان حين أُدخل الى المصح مع اعطاءه المهدئات بكميات كبيرة، جعلته يفقد عقله وبالتالي يفقد قدرته على الرؤية الصحيحة. ولم يتمكن من الاتصال بزوجته او بأبنته على اقل تقدير ومنع من التصرف بحصته من الميراث؛هذه الازاحة تحيلنا الى ما يعاني الشعب العربي في المشرق العربي من فقر وحرمان وخسارة فرص التنمية، بسبب من ان ثروة الاوطان العربية يتصرف بها الحاكم العربي على هواه. وفي الوقت عينه وبالتوازي يخضع خضوعا مذلا للدول العظمى والكبرى اي يتحول الى اداة بيدها على حساب الشعب. الشيء الاخر منع الاعلام في العالم وبالذات قوى الحرية والسلام في تلك الدول العظمى والكبرى، من الاطلاع على ما يعاني الشعب من اضطهاد واستبداد. عندما اقام شقيق عصيان مأدبة غداء للوزير الفرنسي، قبل ان يأتي به من المصح؛ تم اعطاءه في المصح جرعة زائدة من المهدئات بحيث لم يتمكن من ابلاغ الوزير باهمية العمل على اخراجه من المصح، وأنه مضطهد فيه بل على العكس خرج الوزير وهو وكما اسلفنا من اليسار الفرنسي؛ وفي ذهنه ان لا خير في رفيق الامس في المقاومة، ماكان امامه، لم يكن ذاك الذي كان واحدا من ابطال المقاومة؛ كان متهدما تماما ولايقوى حتى على اخراج جملة واحدة مفيدة وذات معنى، وهي احالة للشعب العربي الذي لم يرسل صوته الى العالم ويتمرد على مضطهديه من الحكام العرب..هذه الصورة السلبية والخانعة، هيمنة على مساحة الرواية كلها من دون ابداع شخصية اخرى مجاروة، شخصية مقاومة ومتمردة على الظلم كضد نوعي لحالة الرضوخ لواقع ظالم..

البعد التاريخي

شكل الاستعمارالحديث والقديم الذي سيطر على الاوطان العربية سواء من الامبراطورية العثمانية او الاستعمار الكونيالي او الاستعمار الحديث، تاريخ امتد لقرون. كان من اقوى نتائجه التاريخية واقساها، ما كان وقد حصل من تقسيم للاوطان العربية في الحقبة التى تلت انهيار الدولة العثمانية الى دول والبعض منها حتى لايمكن اعتبارها دولة بمقياس المساحة الجغرافية والنفوس. والشام واحد او جزء من الاوطان العربية والذي كان قبل التقسيم، كيان جغرافي وسكاني واحد، وهو جزء من الكيان العربي الواسع الام. كان سكان لبنان يذهبون الى فلسطين او شرق الاردن كأنهم يذهبون من محافظة الى اخرى مجاورة.عائلة عصيان كان قسم منها يقطن فلسطين. الامبراطورية العثمانية التى سيطرت قرابة اربعة قرون على الوطن العربي، في هذه الفترة كان الشعب العربي يعيش في مرحلة ما قبل التنوير الذي حدث في اوربا. عائلة عصيان والتى تمتد جذورها الهجينة فهي من جهة تتصل جذورها بالارمن ومن الجهة الثانية بالاتراك ولثلاثة اجيال، كان عصيان من الجيل الثالث الهجين لأب عربي ثري وعريق ولأم يجري في عروقها، الدم التركي والارمني، الذي شارك في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي كما شاركت بقية الشعوب العربية في الحرب العالمية الثانية وقبلها الحرب الكونية الاولى لحربين هي ليست حربيهم لا من قريب ولا من بعيد بل على الضد منها، حين انتصر الحلفاء؛ كان اول ما قاموا به، تقسيم الوطن العربي في الاولى وفي الثانية اقامة كيان دخيل في قلب الوطن العربي. عصيان وبسبب اقامة الكيان الصهيوني فقد رشده واختل توازنه وصار فريسة لأخيه الشقي والطامع بالمال والسلطة،الذي يمثل الوجه القبيح للسلطة العربية، في الوقت ذاته يمثل عصيان الجيل الذي حطمه النظام الرسمي العربي. ليشكل في النهاية؛ تاريخ المنطقة العربية والمشرق العربي على وجه التحديد، ولكنها في عين الوقت، هي لوحة بئيسة للتاريخ العربي رسمها لنا السرد في هذه الرواية من خلال شخصية عصيان وعائلته وبقية شخصيات الظل المحيطة به وبها، في ظل السيطرة العثمانية والاستعمارية بعدها والى الآن..فقد اهمل الكاتب ذي المرجعية المسيحية والثقافة الفرنسية حركات التحرر العربي في المرحلة الاستعمارية الكولونيالية وحتى في مرحلة او في عصور السيطرة العثمانية أو في عصر المتجبر العربي والسلطوي، الذي شهد الانتفاضات والثورات ضد هذه السيطرة، والتى الى الآن تنتفض وتتمرد بطريقة مختلفة كليا عن الثورات في عصر او في زمن الاستعمار المباشر او في الانتفاضات والثورات ضد الدكتاتور العربي المستبد، من حيث الشكل والاجراء في عصر ثورة الاتصالات والمعلوماتية ومتناغمة ومنسجمة تماما مع ما سبقها في الزمن من حيث الجوهر والاهداف؛ على الحكام العرب وداعميهم للخروج من سجون التخلف والتجهيل بتحطيم الجدران اللامرئية التى ارساها وشيد هيكلها ورسخ بناءها الحاكم العربي..الذي نشهد الآن؛ البداية الحقيقية والحاسمة لأنهيار اسواره..

خطاب الرواية
ان العلاقة الملتبسة بين كلارا وعصيان او باكو كما يسميه رفاقه من الفرنسيين. الازاحة في هذه العلاقة هي ان اليهود والعرب كان من الممكن لولا الحرب ان يكونوا في صلح ووئام وسلام،غير ما هم كائنون عليه من حروب وتباعد وعداء. وهنا وهذا هو ما اراد الروائي ان يقوله لنا نحن قراء هذه الرواية. لكنه تنسى ان ابناء جلدة كلارا هم من هجروا اهل فلسطين من ديارهم ورموهم في العراء والتيه بلا ماوى ولا سقف يلوذون به من حر الصيف وبرد الشتاء، وهم كانوا ولا زالوا وكرا للدبابير في التأمر على العرب والجسر الذي تعبر من فوقه؛ قوافل الفتن والاضطراب والفوضى والحروب. ان لوي حقائق التاريخ وتغليفها برؤية غير ماهي عليه في الواقع لهو تجني على الواقع وطمس لحقائقه.” وكانت تنوي نشر قصص عن مقاومين عرب ويهود حاربوا النازيين في العديد من البلدان المحتلة. وكان الهدف واضحا وهو اقناع هؤلاء واولئك بانهم يجب ان يرصوا الصفوف ويناضلوا معا من اجل مصيرهم المشترك..” يجري حفل الزواج، زواج باكو او عصيان بعد اقامة اسرائيل وبعد ان انتهت الحرب بفشل جيوش العرب من تحقيق ما حاربوا من اجله. حفل الزواج يقام في بيروت وهذا له دلالته الزمانية والمكانية..يحضر الحفل خال كلارا استيفان وخال عصيان”… فنحن لم نشأ ان تحل العداوة والبغضاء بين العائلتين، أذ لم يكن زواجا اصلا، في الزمن الذي نعيش فيه بالامر اليسير..أذ لمح كلارا، هرع اليها واخذها على انفراد، وسألها بنبرة كتومة:- الا تعتقدين ان هناك مجالا للصلح..معهم؟ – انظر حولك يا خالي استيفان، نحن متصالحون.- لم اكن اعني ذلك وقد فهمت قصدي تماما..