يستهل كريم كطافة روايته (قرابين الظهيرة- 308 صفحة) الصادرة عن منشورات المتوسط/ 2017، بفذلكة (روبن هودية) ممتعة. يعلن عن سرقته لمادة الرواية ومفتاحها المفقود من أحد أصدقاءه ويغريك بنوع المساومة بينهما بالقادم من التفاصيل. سرقة من أجل الآخرين، سواء كانوا شخصيات الرواية أو القراء المفترضين.
نجد فيها عالمين متوازيين، يثيران الأسى والقرف معاً. عالم الإضطهاد وعالم الجلاد. وسعى الكاتب منذ البداية وبحذاقة للربط بينهما. في الفصل الأول قدم لنا الحدث وكل شخصيات الرواية تقريباً دفعة واحدة وبدون مقدمات. حتى سألت نفسي؛ وماذا بعد؟ لكن ومن هذا السؤال، ستبدأ رحلة الرواية بغنج وهي تستثير بعريها البطيء المتواصل متعة التواصل والترقب. في كل فصل، بدءاً من (سقيفة عبود أبو سعدة)، حيث عالم المطيرجية والحياة الداخلية للمطيرجي عبود (مطريجي، فرخجي)، لا ترغب بمغادرة عالمه المسترخي والعبثي وطقوسه المرتبطة (بعلاقة الشوربة ببلاوي السقيفة/ ص 45)، حتى تصل معه إلى الذروة (بأن يجعل الصبي المصيود يسمع ذات الترنيمة الشبقة.. ترنيمته هو عبود/ ص 49). وحتى يصبح ( الزبون جَلداً على السقيفة مثل اي طير. سيأتي في المرة القادمة، وهو يعلن بنفسه: – عبود مشتهي شوربة/ ص 59)
ثم الإستاذ إيشو (معلم ) صاحب المقولة التي ستكلفه حياته (أنا معلم وبس)، ورمزي العواد (ملحن خارج من معطف السلطة)، وسيد خلف (رجل مخبول وفاقد للذاكرة وهو إلى ذلك سياسي سابق مقذوفاً به من أقبية الجلادين)، ثم الشيخ صابر (إمام جامع وقارئ قرآن مشهور).. ستجد نفسك في لجة هذا العالم الممتع والمضحك والمضطرب والقاسي، يسحبك الكاتب في كل مرة وبهدوء وبترنيمة خاصة للفصل القادم وللشخصية والحدث القادم. طريقة اللعوب maipulation) ) للتحكم بالقارئ والوصول للمبتغى دون تسميته.
عالمان، أحدهما سفلي يعيش ضحاياه جحيم الله على الأرض، وستخجل ملائكته أمامهم يوم يحشرون، لأن جلدهم شويت قبل أن يحاسبوا هناك وعالم آخر ليس علوي لأنه يشكل ظلال للعالم السفلي، يغلي ويطبخ بالقسوة والنذالة والسادية. هي صورة الله حين يؤجر سلطته للبشر ويخولهم كما يعتقدون بتحويل جهنم بقعرها السابع إلى مساطحة بينهم. هو عالم الإنحطاط والرثاثة. عالمان، عالم سفلي وظلاله. يكون الربط بينهما عبر أدوات التعذيب (التصنيع العسكري – شمشون13).
يتوقف الكاتب طويلاً عند شخصية الجلاد. تبرز شخصية (شرهان) من الفصل الأول بوصفها شخصية رئيسة، يدفع بها الكاتب من زوايا الاحداث وعلى امتداد السرد، لتكبر مثل كرة الثلج الساقطة ومتابعاً لتحولاتها ودواخلها، لتصبح هي الصوت المهمين في كل هذا الصخب. ضابط مخابرات يجعل من نفسه صانعاً لتأريخ جديد لحيوات العالم الأول (الضحايا). هو الخيط الناظم لوجود وفناء عناصر الحياة، في مجتمع هش مضطرب البنى على كل الأصعدة، هذا الضابط وهو كان (نائب ضابط استخبارات، شروكي، معيدي) كما يصفونه البدو الأجلاف الذين تحكموا في المدينة، التي بقيت حلم يراودهم. هذا الـ(شرهان) يعرّف نفسه أنه الخروف الأسود بين الخراف البيض/ ص 258. تعلم ( كيف يعيد بناء خياله في كل مرة تواجهه مهمة فك طلاسم قضية شائكة/ ص 31). عبود ابو سعدة وشرهان، شخصيتان يتحكم فيها ( العقل ) لا العاطفة ولكنها في مواقع متناقضة. فلكل منها ذات القدرات بالتلاعب ( بذاكرة وعقول ضحاياه، يوصل احدهم للجنون، ويستعيد الاخر منه).
يعمل الكاتب على تفكيك شخصية وعقلية هذا الجلاد وصولاً للتفاصيل التي ظلت غائبة عنا في الواقع. لم يحدث أن تحدث أو أعترف لنا جلاد عن تفاصيل حياته اليومية. عالم الضحية ظل هو المعروف لنا ونحن جزء وثيق منه. لكن عالم الجلاد ما زال بعيد عن متناول اليد. حتى صور دماغه وتركيبها، سلوكه، تناقضاته، وجوهه وأقنعته المتعددة من البكاء إلى الغضب إلى هستيريا الإنتقام، نوعية أكله، حلقاته الصداقية الخاصة جداً، وهل له أصدقاء أصلاً، عالمه الصغير، حياته الجنسية، ملبسه وألوانه، غرفه الداخلية، أنواع عطوره، عشيقاته أو المرغمات على عشقه، المواد التي يستخدمها والإيحاءات التي يستلمها، قدرته على التقاط الأشياء وردود أفعاله، قدرته على تقمص العوالم والشخصيات، عينه القارئة بروح الرقيب، ثقته بالنساء من عدمها…إلخ كل هذا غير معروف لنا. لم تتوفر لنا للآن من يسلط الأضواء على العوالم الخاصة والموثقة عن شخصيات من مثل (ناظم كزار)، (صدام حسين)، (أبو بكر البغدادي)، (أبو درع) ومن على شاكلتهم. رغم أنهم جميعاً نماذج لشخصيات كانت مهمشة في الواقع، سعت وارتقت سلّم الحياة من المزبلة إلى البروج العاجية بذكاء محدود واضطرابات نفسية متنوعة، استطاعت رغم هذا أن تخترق مجتمع هش التركيب، شكل حاضنة لنمو هذا العفن.
وهكذا كان (شرهان)، شخصية عابرة في عراق ما قبل السبعينات، تحول لاحقاً مع صعود نظام الموت إلى شخصية محورية، شغلت عقل قطاع واسع من العراقيين. يبتكر (شرهان) طريقة جديدة وعجيبة للتخلص ممن لا يرغب النظام ببقائهم. يصنّع شاحنة (شمشون 13) بمواصفات خاصة قادرة على تحويل السجناء الذين يستلمهم عند الفجر إلى شوربة من البشر في المساء..!! وهذا الشكل للموت الذي لا يمكن وصفه بأي شيء قابل للتعبير، لم يكن من بنات أفكار (الكاتب)، بل هو شهادة مهملة من بين شهادات كثيرة في ملفات المنظمات الدولية التي كان هاجسها البحث عن أسلحة الدمار الشامل لتبرير كل ما أتى لاحقاً. هذا الشكل من العنف والقهر والإذلال وهي مواصفات يومية للحياة العراقية منذ عقود، لم تكن الكتابة عنها بالأمر السهل. لكن مغامرة (كريم) أتت عبر مراهنته والتي أعتقد أنها كانت ناجحة، على طريقة عرضه وتنوع أساليبه والقدرة على تفكيك الأحداث وإعادة ربطها. بدا هنا حكواتي كبير، فالنص الكامل هو بالتالي محصلة لحكاياته الملونة بالعذاب والسخرية وكل ما لا يخطر في البال.
كان كريم كطافة في هذه الرواية سارداً كبيراً، يتلاعب على الحدث من خلال صياغته بأشكال عديدة وبمستويات مختلفة ويؤثث للمشهد والصورة بتفاصيل شيقة ولغة متينة وبقدرة على استخدام المفردات في مواقع تبقى في ذهن القارئ. ويلعب الموروث الديني والميثولوجيا دوراً واضحاً في بناءه الدرامي. سواء في عناوين الفصول أو ما بين السطور. تمتلك لغته القوة بقدرتها الإيحائية للإحاطة بتفاصيل الحدث. الأجمل في هذه اللغة أنها لا تعبر بك إلى التأريخ، لكنها تخلق ذلك التأرجح بين الميثولوجيا والتأريخ القريب، الواقع النتن بروائح قسوته وجلافته.