18 ديسمبر، 2024 8:33 م

قراءة في رواية ( عتمة الذاكرة ) للكاتبة السعودية أثير عبد الله النشمي

قراءة في رواية ( عتمة الذاكرة ) للكاتبة السعودية أثير عبد الله النشمي

قراءة في رواية ( عتمة الذاكرة ) للكاتبة السعودية أثير عبد الله النشمي
مسرودية الرواية بين عقدة الذاكرة و جحيم زنزانة الأمومة

مدخل :
عندما نطالع ملامح و دلالات رواية ( عتمة الذاكرة ) للروائية السعودية أثير عبد الله النشمي ، تواجهنا جملة إشكاليات ضمنية و ظاهرية من علامات المنال الروائي ، الذي بات يشكل فعلا إرتداديا في مسرود أحداث الرواية ، و عند التدقيق في أتون حكاية هذا النص و أدواته النواتية ، نلاحظ شخصية ذلك السارد المشارك بصوته و حاله ، وهو يتعرض لحادثة دهس من خلال اصطدام الشاحنة القادمة بسيارته وهو يقرأ رسالة زوجته الغاضبة من حياتها معه . و تبعا لهذا الشكل من التمحور ، تتضح لنا غيبوبة الشخصية في ذاكرة دوامة النسيان ، أثر ذلك الحادث المروي ، و بعيدا عن كل تصورات و محتملات واقعية هذا الحدث بحد ذاته ، منه نعاين مساحة النموذج الشخوصي في مواقف و حالات الرواية ، و مدى تجليات فسحة المضاربات العقدية من رمزية والدته ، التي كانت تشكل في مبنى و متن السرد ، بمثابة الحقيقة الكابوسية ، التي من شأنها غرس فسائل الهدم والوحشية و الظلم في مشروع تعاملاتها الأمومية مع الشخصية المحورية و ما تبقى من أخوته و أخواته في المنزل .

ـــ إشكالية البطل المخذول و نموذج عقدة الأبناء .
تطرح لنا أحداث رواية ( عتمة الذاكرة ) ذلك النوع من الخطاب الاسترجاعي بلحظة الحاضر الزمني ، مع وجود تلك البنى التبئيرية المنفتحة حول خاصية ارتدادات قاع شريط الذكريات الماضوية المعاشة من زمن حال لسان التواصل و الانقطاع ، مع طبيعة شخصية تلك الأم الكابوسية الثكلة غير أن ما يجب علينا فهمه من حكاية النص ، هو أن نمطية مركب الأم في أحداث النص ، ما تشغل تلك المساحة الأولية من حياة تلك العائلة مع مخلفات سلوكياتها السادية إزاء أولادها الصغار ، بل أنها أخذت تترتب على نحو ما راح يشكل بذاته قضية عقدية في علاقة مصير أولادها البعيد ، و هذا بالضبط ما وجدناه راسخا في مكونات شخصية المحور المشارك سردا : ( كنت أفكر دائما .. لمَ لا تشبه أمي بقية الأمهات ؟ ! لمَ لا تحبنا مثلما تحب الأمهات أبناءهن ؟ فكرت كثيرا في كونها ليس أمنا الحقيقية ! شككت في أوقات كثيرة في أن تكون فعلا أمنا .. و أظن أن أخوتي و أخواتي قد فكروا يوما فيما قد فكرت فيه و أن لم نتصارح في هذا أبدا . / ص28 الرواية ) و إذا تأملنا هذه الفرضية القارة من على لسان حال الشخصية الساردة و المشاركة ، تتبين لنا مؤدات ملفوظية الأفعال الشخوصية ، نحو ما يجعلها تتصارح علنا بموقفها من جهة موضوعة تلك الأم : ( عرفت بعدما كبرت و إخوتي و أخواتي .. إن أمنا كانت العقدة الكبيرة في طفولة كل منا كانت لدى كل واحد منا الكثير من التساؤلات حيالها .. كانت لكل منا مخاوفه و شكوكه و أسئلته التي لم تساعده طفولته البريئة في الإجابة عنها . / ص28 الرواية ) هكذا بدت لنا مجموعة متواليات و وحدات الوظيفة المحكية في الرواية ، و كأنها مسودة اعترافات من الأبناء بحق دموية الأباء ، لتبقى دليلا مخالفا نحو جدلية التضخيم و التضاعف في سلسلة حياة الأبناء مستقبلا .

1ــ علاقة ضدية الأم بموازاة عصابية الأب :
في مجرى علاقات و مسار موضوعة ضدية الأم التي كانت تثأر لنفسها من مواجهات عصابية ذلك الأب الساخط عليها ، توفر لنا جملة من الأسباب و المسببات التكوينية الخاصة ، أي فيما يتعلق و مغزى سلوكية الأم العدوانية إزاء أولادها ، بيد أننا نعاين بأن الرواية أخذت تتكون من مجموعة أنشطارات و تداعيات مغايرة في نمط معرفاتها الفنية و الموضوعية ، مما جعل منها رواية تخص تضخمات تقاطعية في سلوكيات علاقة الأم و ردود أفعالها إزاء ما تتلقاه من أفعال تعنيفية من جهة الأب ، و التي هي على شفا هاوية سحيقة من سوء الفهم و التفاهم و اللاأنسجام كليا ، و يتبنى هذا الطرح كيفية خاصة من وحدات السرد في النص : ( تعلق أمي على والدي دائما كل خيباتها .. تتذرع بكرهها له و بعنفه عليها .. تبرر قسوتها علينا في طفولتنا بسبب العنف الذي كان يمارسه أبي عليها و كأنها تقول بشكل غير مباشر ـــ كنت أنفس عن غضبي و ألمي و قهري من خلالكم أنتم ـــ / لم تقل أمي هذا .. لكنني قلته في نفسي ألف مرة و مرة .. في كل مرة كان يسيء أبي فيها إلى أمي كانت أمي تجيء إلينا و تصب جام غضبها علينا . / ص30 الرواية ) تفتح لنا الرواية النور المتسلل من بين الستائر المسدلة ، علها توضح لنا دليلها المباشر بمدى مسببات موقفية و عدائية الأم بحاصلية قمعها للأبرياء من أبناءها ، و بطرائق غدت تخلف شكلا من الإيقاعات المستقبلية المحفوفة بملامح الكأبة و الحقد في سلوكيات الأبناء . فهذا المحور المركزي في الرواية وهو أحد الأبناء التابعين إلى تلك العائلة ، و قد آلت حياته الزوجية من الشخصية منتهى إلى قرار من الازدواجية النفسية الغريبة ، فهو مرة نجده متعلقا بحب منتهى زوجته ، و مرة أخرى نجده ناقما عليها و دون الإيراد بحقيقة الاستقراء بالأسباب الوجودية المقنعة سوى محض شعوره العشوائي بالخذلان و الفتور إزاءها : ( ربما لم ينته فعليا ذلك الفزع .. ربما تلك العوالق ما زالت موجودة في حياة إخوتي و أخواتي .. لكننا بتنا رجالا و سيدات .. لم نعد أولئك الأطفال اللذين يرهبهم كل شيء و أي شيء . / ص40 ص41 الرواية ) يهيمن على أحداث الرواية ذلك الطابع من الازدواج و اللاتجانس في وحدات الحكي ، و هذا الأمر بدوره يقودنا إلى أسباب الحالة التحولاتية في تطور الحوار و الادوار و تقلبات الاطباع و السلوكيات في مجرى حياة الشخصية ، و تقلبات مدار أحوالها في علاقاتها الزوجية تحديدا ، و التي كان يعوزها التوافق و الشعور بالثقة النفسية الكاملة و لكنها آلت الى مصيرها الانقطاعي بقرار الطلاق و الهجر ،أي بعد عدم شعورها أي الشخصية من تحررها الكامل من أعباء و سطوة ملامح أمه و عنفوانها ، ذلك الشعور ما يجعله دائما ، بمقام ذلك الطفل الصغير المحفوف بتشوهات القلق و النقص و المخاوف و انعدام الشخصية السليمة : ( حينما يتعرض الطفل للعنف في طفولته لا شيء يبرر له ذلك العنف عندما يكبر .. و أنا اليوم تعيس بفعل الماضي . . الماضي الذي تسببت عوالقي فيه بأن لا أقدر على أن أعيش حاضرا مستقرا / حينما حدثت منتهى عن تفاصيل أمي .. حدثتها عنها بظرافة ! بلهجة ساخرة و بطريقة مضحكة .. أخبرتها عن الكثير من المواقف التي عوقبت فيها من دون أن أرتكب ذنبا .. قصصت لها عن حكاية ذلك الولد الصغير العالق بين أبوين لا يطيق أحدهما الآخر .. لكنني لم أخبرها بأنني ما زلت ذلك الولد الصغير . / ص52 ص53 الرواية ) .

2ـــ منظور الانفصام و رؤية الأنا بعين الطفل :
من هذا المنطلق في وحدات و محاور و مبئرات السرد الروائي ، بمقدورنا أن نرى معالم شخصية المحور في لوحات ذلك الطفل الكبير ، الطفل الزوج ؟ حيث يتبادر إلى ذهننا مدى مفارقات الشخصية المحورية وتفاصيل حياتها ، إزاء رؤية الكائن الكابوسي الذي له كل حقيقة و وجود هيمنته الطاغية على مسار الإشكالية الكبرى في لوحات و مرايا الأبناء حاضرا حياتيا ، إذ لا ينفلت لحظة من رؤى و ظلال و فصول ، زمن ذلك المنزل الأمومي الأسود و الغارق بتعارضاته النفسانية و وحشيته العدائية المقيتة. أن الروائية عبد الله النشمي ، قد أجادت فعلا في رسم موجهات الحيز الأضيق من حالات شخوص روايتها ، انطلاقا من دلالة حادثة و شواهد: (يدوي هذا الصوت في رأسي كقنبلة توشك على الانفجار / لا أعرف أين أنا . . و كيف وقعت في هذا الظلام ! لا أعرف إن كان هذا الموت أم أنا عالق تحت مبنى منهار أو سيارة منقلبة . / ص9 الرواية ) قد يكون الفعل الروائي في مشاهد هذه الحادثة ، لا يعبر عن حالة حقيقة من دهس الشاحنة لسيارة الشخصية ، إنما لربما تعد بمثابة الرؤية الحلمية المتصلة بدلالة المنظور الانقلابي في معادلة الموجه النفسي و العاطفي من حياة الشخصية الروائية ، دخولا منها نحو ذلك الحاضر الموهوم بجملة تشكلات و صور عتمة الذاكرة الحياتية المنجدلة من زمن فنتازيا مملكة الأم الكابوسية من النص : ( البنيات الأولية للدلالة : الذات الشخصانية المحور ـــــ قيمة حصول فقداني / الأم : قدرة بفعل ضياع الآخر ـــــــ التوجيه معكوسا = الذوات المهيمنة = الفضاءات المتشاكلة خلافا ) و حالة تأويلية كهذه الترسيمة المحتملة منا شخصيا و ليس منهجيا ، تبين لنا مدى هيمنة محور الموقعية الأمومية على عوامل أثبات قيمة ضياع الانتقالات المرحلية في أزمنة و دوال و هويات شخوص الرواية .

ــــ الاسترجاع بين مزامنة فعلية الزمن و صورة ذاكرته المعتمة .
من هنا سيتبين لنا أهمية الدور الاسترجاعي بكلتا شقيه ( الحاضر / الماضي ) في مسار مؤثثات الإيحائية التوصيفية بالفعل الروائي ، و يتكرر لدينا ـــ مرات أخرى ـــ و بصورة متباينة من نقاط و فواصل و صيغة خاصة بالاسترجاع الداخلي الكامن في زمن الرواية ، و على نحو غاية في التركيز و التوغل في نطاق تفارقية الإحساس الشخوصي بمعادلة جملة ( القلق / الخوف / ضياع الحاضر / الإشكالية في بؤرة الداخل ) إي بمعنى نود قوله ، أن نسيج فيض الخذلانات لدى الشخوص في حاضرية الحكي ، تؤول بمصدرها القديم / الأولي ، استجلابا لذلك الإحساس المضاعف بهزال عمق اللحظة الواقعية الحاضرة ، لذا نجد على هذا الأساس الشخصية المحورية في تمظهرات حالاتها الشخصانية ، تكون لذاتها جانبا مضافا إلى جانب إيهامات (العنكبوت الأمومي ) و هذا الأمر ما راح يجعل من حكاية الشخصية ، و كأنها ضحية منسحقة بين أفكاك عقدة الذاكرة الأمومية و خيوط سطوتها في جحيمها المزامن لاحيازها الهستيرية المحملة بالخوف و القلق قدما ، و تباعا في مجرى وجودهم الافتراضي : ( مالم أكن أقدر أن أتحمله . . لا أن أكون رجلا كأبي ولا أن أكون مع امرأة كأمي حتى لو كنت أنا من جعلها تلك المرأة . / ص46 الرواية ) إذن الدال الشخوصي قد أضحى لنا بدوره ممارسة مزامنة في مكامن عقدوية و انفصامية مطلقة ، لهدف استرجاعات آلية خيالات منزل الأمومة و الأبوة المهيمنتان على استراتيجية السارد المشارك ، و وجهة نظره التائه في زوايا حكاية الماضوي ارتباطا نفسانيا و عاطفيا موثقا .

ـــ تعليق القراءة .
ـــ نتيجة المباحث و مضمون آليات القراءة :
يقوم التقاطب الاستبدادي و عاملية الهيمنة في مؤشرات رواية ( عتمة الذاكرة ) من خلال مساحة صورة البنية الأولية المتمثلة بشخصية الأم ، و التي فرضت حضورها القسري على مجرى حياة أولادها الصغار ، مما جعلهم كبارا في عين و موضع ذلك الطفل الخائف و النازف لكل محتوى مؤهلاته المرحلية اللاحقة ، لذا نجد أمكانيات تلك الأمومة الكابوسية ، ملاحقا جل تماثلات و تواصلات ذواتهم الكسيرة لاحقا : ( أفكر دائما ما الذي أردته قبل أن أعرف منتهى ؟ أن لم أتخيل يوما أنني سأتزوج في الثامنة و العشرين ! لطالما أردت أن أعوض عن كل أيام مراهقتي و شبابي المقموعة و الحبيسة في ذلك البيت القديم . / ص55 الرواية ) و هو الأمر الذي يقودنا نحو واقعة غيبوبة الشخصية ، حيث حادث انقلاب سيارته أو دهسها من قبل تلك الشاحنة في بداية مساحة البدء من الرواية و في مساحة أواخر مشاهد الرواية : ( عادت لي الذكريات شيئا فشيئا و أنا مكبل في غيبوبتي .. تسربت ألي الذكريات .. ذكرى ذكرى .. لتصحو ذاكرتي من جديد . / ص187 ص188 الرواية ) و على هذا الأساس من مباحث دراسة مقالنا للرواية ، لاحظنا مراجعة الشخصية الروائية ، إلى زمن أحداث ما قبل حادث الغيبوبة ، و لكنها لا تؤدي هذه الاسترجاعات من الأهمية البالغة ، ذلك لأن وتيرة سرعة و بطء النص باتت ترجح زمنا مصحوبا بالضياع الاحوالي وفقدان الزوجة منتهى ، التي أعلمته برسالتها بمدى مقتها إلى الحياة معه ، رجوعا إلى فارقة ختامية في غاية الدقة و الحنكة من الصنعة الروائية لدى أثير عبد الله النشمي ، في وضع مثل هذه الضربة المدلولية و المضمونية البارعة و التي تتضح من خلالها الواصلة الضمنية في توقيف دلالة الزمن الانفراجي للشخصية الروائية المشاركة في السرد : ( اليوم أحتاج لن أشعر بمنتهى لأن توقظني بأمل العودة ، وجودها وحدها هو القادر بعد الله على أن ينتزعني من أحضان هذا السواد المحيط بي . / ص190 الرواية ) و لكن النتيجة المضمونية جاءتنا بالإيقاع المغاير و الموحش و المدهش ، فيما راح يسهم بدعم عجلة مواصلة بنية و مملكة الأمومة المرعبة مجددا ، محتملا في رؤية الشخصية الروائية : ( شعرت بخطوات ثقيلة تقترب .. خطوات مهمومة .. تجر صاحبها أو صاحبتها الثقيلة بالهم نحوي .. أمسكت يد دافئة و مرتعشة بيدي و أحتضنتها .. و برغم أن هذه اليد لم تحتضن يدي يوما عرفت بلا أدنى شك أن تلك اليد لم تكن يد منتهى .. بل كانت يد أمي .. تطبب علي و أنا أصارع عتمة الذاكرة . / ص191 الرواية ) المشهد الختامي في الرواية أكثر جدلا في مواقف عديدة منها الفني و منها الانساني ، و كلاهما يتعارض مع الآخر بموجهاته الدلالية و الأنسانية معا ، على أية حال ، أقول أن الشخصية الروائية في الأخير راح ينزع نزوعا ، جعله يؤول نحو معنى غيبوبته الذاكراتية المتعددة التفاسير و القيم المؤولة ، ليرتد من خلالها صريعا في ممرات حضور عقدة الذاكرة و جحيم يد أمه المغرق في سواد مصيره الذواتي المأزوم في أفق غياب و عتمة الذاكرة أو اللاذاكرة .