6 أبريل، 2024 10:52 م
Search
Close this search box.

قراءة في رواية ( بابا سارتر ) لعلي بدر

Facebook
Twitter
LinkedIn

المفارقة الفنية في مدينة العبث الشخوصي المتثاقف

ينطلق ( بورس ) في تحديد الدليل من المقولات الفانيروسكية : الأولانية و الثانيانية لتحديد أشكال وجود الأدلة السردية و أقسامها الداخلية و الخارجية .. و ذلك انطلاقا من أدراك أولي يشي بفلسفة انتاجية تستنطق المحايث ــ الفكر الذي لا يفكر إلا بشيء ما و لا يفعل إلا بالأدلة الكشوفية ــ و تكشف الطبقات الخفية لأنتاج الأدلة وجهات أنتاجها المقولاتي السردي و قد دفع البعض الى القول إن بورس كان يبحث عن الشروط المسبقة لوجود تلك الأدلة . بناء على هذا الإدراك المتمثل و بشكل تحديدي حول مسألة المادة الأنطلوجية في حفريات الدليل و الأدلة لنعاين من خلالها عناصر و وحدات قراءتنا لرواية ( بابا سارتر ) للروائي علي بدر حيث وجود تلك الواقعية المخيالية الواهمة و المخصوصة بإحداث و شخوص حقبة جيلية ستينية حصرا. و بين تمثلات إفق الموضوعة الروائية الخاضعة في محفزات أدلتها التهكمية / التراجيدية لمبدأ الصيرورة المروية ــ أي بمعنى ما ــ إن السارد فيها هو من قد تولى تطورات محاور ( الممثل / الموضوع / المؤول ) . وهذه المحاور الثلاثية الأخيرة في صناعة المحكي في رواية علي

بدر هي من بات يتقبل أن ينظر إليها من خلال مراتبها الثلاثة من جهتين : جهة التحليل و جهة التأليف . فمن جهة التحليل فهو الممثل / المؤول / الموضوع . وأما من جهة التأليف فهو الموضوع / المؤول / الممثل . وتكمن هذه العلاقة الثلاثية في التعريف الأكثر محورية في الأظهار المادي و المعنوي للنص السردي في رواية ( بابا سارتر) .

( مقتربات موقع التمهيد الدال )

ونحن نقرأ بنية مقتربات الموقع التمهيدي في رواية ( بابا سارتر ) ألفينا محاولات السارد الشخصية وهو يسعى إلى امتلاك ناصية المستخلص المحفوظي من خلفية المشاهد و المقاطع و الوقفات السردية الأولى من زمن الحكي .. بحيث تتجلى لنا ثمة احتوائية اطارية استهلالية خاصة تحكي لنا عوامل وعناصر البيئة الروائية المتكونة في محيط الشخصية الأولانية و الثانيانية المتكونة في تفاصيل بحثها عن الوثائق التي تخص الشخصية المحورية في متن المسرود النصي . و تبعا لهذا صرنا نشاهد كيفية إجرائية المخطط السردي الذي قام به كاتب السيرة مستندا الى تقنية ( الممثل / المؤول ) وصولا إلى تقنية الربط الوثائقي بأبعاد تلك الأمكنة التي تسكنها صحبة عبد الرحمن الفيلسوف العراقي الذي راح يمتهن جل محفوظاته الوجودية المتثاقفة شفاهيا عن ظهر

قلب فيما كان يلتقي في المقاهي و الملاهي الليلية متمنطقا بأسلوبه التثاقفي مع الشخصية التابعة له إسماعيل حدوب و شخصيات أخرى في الرواية . و باختصار شديد نقول نقلا عن قول علي بدر في أحدى خاتمات روايته : ( رواية تسخر من الجيل الستيني في العراق )

( مشاهد من حياة كاتب السيرة )

في الواقع ينطلق كاتب حياة سيرة الفيلسوف عبد الرحمن و الملقب بفيلسوف الصدرية من واقع مأساوي شاق و إلى أقصى مراحل سياقية الفقر و البطالة و الإفلاس المعنوي و المادي و القول هنا للرواية : ( الشيطان المدمر حنا يوسف .. حفار القبور ذو السحنة المرعبة وصديقته الخليعة التي كان يطلق عليها اسما توراتيا نونوبهار هما من اغوياني بكتابة سيرة حياة الفيلسوف العراقي الذي كان يقطن محلة الصدرية إبان الستينات / رحلة البحث / الرواية ) . و الحق إن السارد أو كاتب السيرة لا يتوقف عند هذه الحدود التعارفية إلى تلك الشخصيات بل تراه يسعى جاهدا للوصول إلى حفنة تلك الوثائق التي تتشكل بموجبها مفازات كتابته لتلك السيرة المخيالية الواهمة . وما بين حالة الوصف لسلوكيات و نفوذ و مصادر و سرية التمويل لمشروع الكتابة لسيرة فيلسوف الصدرية نعاين تحركات كاتب السيرة نفسه

في مواطن شتى من الأسئلة و القلق و الترقب في الأمكنة المشبوهة و الشخوص الذين كانوا على صلة وطيدة بشخص عبد الرحمن . و القول هنا للرواية : ( أين منزل الأب حنا يوسف ؟ .. من قال لك أنه أب ؟ و أنفجر الآثوري ضاحكا بشاربيه الأبيضين المستقرين على فمه مثل حليب .. كانت عيناه الزرقاوان الغائرتان و وجهه الناتئ العظام تتهكم . لم يجبني .. أنما أجابتني زوجته التي كانت تجلس إلى جانبه و هي تشير إلى دوحة خضراء منتصبة في الساحة : ــ قالت وهي تشير بأصبعها النحيف هناك أمامك ؟ ولم يبق من ذكرى وجهها سوى جدائلها المصففة بشكل هالة منتصبة . / الرواية ) بناء على هذه السيرورة الموقعية التي يقوم بها كاتب السيرة لغرض الوصول إلى منزل حنا يوسف و نونوبهار إذ نعاين حيثيات وصف الأمكنة بطريقة دقيقة لا تفارقها التحفظات الذهنية و النفسية لكاتب السيرة . و عندما يتم ربط تصورات الأدلة الذهنية و التخطيطية لدى كاتب السيرة حول المكان واتصاله مع تلك الشخصيات يتمركز لدينا بالدليل المركب بأن لقاء السارد كاتب السيرة مع نونوبهار وحنا يوسف لم يثمر سوى تلك الاطلاقية الاستخفافية بشخص ذلك الفيلسوف : ( كان لقاؤلنا حميميا و وديا . فحنا الذي استقبلني كان يبتسم على الدوام فيتسع شاربه الصغير الذي يستقر على فمه مثل خط أحمر من النبيذ أخذني نحو الصالة المقابلة للخوان حيث الستائر مشغولة بنقوش صغيرة لأزهار بلون وردي .. كنت أسمع وشيش الدوش في الحمام الذي يختلط مع صوت عجلة سيارة في

الخارج تكشط الإسفلت . / الرواية ) و بهذا الزمن اللقائي المشهدي يتم عقد صفقة أو مناقشة صفقة كتابة السيرة لذلك الفيلسوف . بيد أننا نلاحظ فحوى جمالية الشكل المهيدي القائم حول مشهد ذلك الحوار بين الأطراف الثلاثة محفوفا بمحاولات الإفادة من التنكر و كسر أفق توقعات ذلك الكاتب للسيرة : ( فسألته إن كان هنالك شخص آخر في المنزل فقال : نونو في الحمام .. و بعد ذلك أخذت أسأله عن الفيلسوف و عن كتبه التي صدرت في حياته فقال لي وهو يهز برأسه الأحمر الصغير و عيناه الزرقاوان تلمعان : لا .. لا هذا الأرعن لم يكتب كتابا واحدا في حياته ؟ : ــ أرعن .. أقلت .. كل فيلسوف أرعن ؟ قالتها نونوبهار وهي تسير أمامنا عارية بعد خروجها من الحمام : ــ لم أفهم قلت و أنا انظر إلى نونوبهار التي اعتدلت واقفة أمام الأريكة . / الرواية ) و بعد هذا الشكل من البناء المشهدي الذي يعد بمثابة الحجر الأساس المدخلي إلى حبكة و بؤرة المحور الأكثر أهمية في مشاهد الرواية . . فهو يتحدد بمنهج يقر بما هو عكس تصورات و تأملات كاتب سيرة ذلك الفيلسوف . و الملحظ العام على هذه الجمل الحوارية من السرد أنها باتت تتحرك بين فاعلين فاعل تحريك و دفع وهو ما يتمثل به الأمر في شخصية حنا يوسف ونونوبهار و بين فاعل الصد و التوقيف و الإدهاش وهو كاتب السيرة نفسه الذي راح بدوره يطيل من زمن الحوار و المواصلة بين هذان الدجالان على حد قول الروائي في أحدى فقراته : ( نعم ! كان فيلسوف أرعن .. لكن هنالك أرعن يكتب كتبا تسهل الأمر على الذين

يكتبون سيرته .. و هنالك أرعن لا يكتب كتبا .. فيقتضي أن ندفع مالا لشخص ينقب و يكذب و يؤلف ليصنع فيلسوفا حقيقيا . / الرواية ) . ومن خلال هذا التداخل التصنيفي لشخصية فيلسوف الأكذوبة التي سوف تصنع سيرته الأموال من قبل الشخصية نونوبهار و حنا يوسف مما جعل بالنتيجة شخصية الحكواتي أو كاتب السيرة جافلا لا يقوى حتى على فعل مواجهة الصدمة . و يتضح من سرد الأحداث ثمة وقائع و أفعال ما تجعل من كاتب السيرة يطيل سؤاله حول تلك الوثائق التي تتعلق بحياة ذلك الفيلسوف : ( كان وجه نونوبهار يتصبب ماء و يلتمع شعرها الأسود الفاحم تحت نور المصباح الموضوع في الزاوية وحين اقتربت مني قالت : ــ تعرف .. الفيلسوف صناعة .. نعم صدقني ! صناعة ؟ فأحسست بلحمها الحار وراء القميص المفتوح الذي راح يكشف عن صدرها الباذخ .. من يصنعه ؟ قلت .. نحن ؟ قال الدجالان كلاهما .. أنت ستكتب سيرة هذا الرجل ونحن نقوم بتغطية نفقات جمع المعلومات و الوثائق ومن ثم سندفع لك ؟ قال حنا ثم أكملت نونوبهار : سنعطيك اليوم وثائق أولية و بعض الدلائل الجغرافية ستكون نقاط انطلاقك . / الرواية ) . و تتضح من هنا أساليب التشخيص و التنقيب لدى كاتب السيرة حيث لا يفارقه الشعور بفرحة حصوله على المال لقاء كتابته لتلك السيرة وما يرتبط فيها من صور سردية مبهرة حيث الأحداث أخذت من خلالها تتصاعد في فضاءات الأمكنة و مع أفعال بحثه و تنقيبه في مصورات الوثائق .. (أخرج حنا منديلا من بنطلونه المربع المنقوش و أخذ يمسح

مكتبه ثم جلس على مقعد من القش و أخذ ينظر نحوي بحذر .. وناولني ملفا مخططا سميكا : هذا ملف نادية خدوري الذين كانوا شركاء بيت لاوي تجار السيارات .. ثم أخرج مجموعة أخرى من أرواق مربعة و قال : هذه الأوراق مهمة تخص شاؤول ؟ فقالت نونو: هذه المعلومات و الوثائق لا تكفي أنما ستدلك فقط من أين تبتدئ و الأمكنة التي ستجد فيها المعلومات و الوثائق الأخرى المهمة . / الرواية ) . غير أن كاتب السيرة في الواقع لم يقتنع بما قد أخذه من حنا و نونو من وثائق : ( لم تكن الوثائق وثائق بالمعنى للكلمة .. أنما معلومات مكتوبة بأسلوب مبتذل و زائف . / الرواية ) . و تبعا لمعاينات هذه المشاهد الروائية تتوالد خيوط الأحداث التنقيبية من قبل كاتب السيرة في الخطاب الروائي . وهي على ما تبدو أكثر تعقيدا مما قد يتصوره كاتب السيرة نفسه .. ذلك أنها إشكالية تتصل من جهة ما بعلاقة الالتباس القائمة بين زيف تلك الوثائق و بين حاجة كاتب السيرة للمال و الوصول إلى حقيقة الوثائق التي تقر بموقعية ذلك الفيلسوف : ( هكذا كنت أقلب أوراقا تجعل العربنجي عملاقا هائلا صامتا وغامضا .. وهي قدرة بعض الشخصيات على التشويه و التقليد و التناقض .. لكن المهم هو الأسماء أسماء الخدم و السادة و الأدباء و التجار و الأبناء و الشخصيات التي كان علي أنا البحث عنها في مكان آخر . / الرواية ) . هكذا ظلت وظيفة السارد / كاتب السيرة تتوقف على حالة المشخصات لواقع البحث والدراسة لتلك الأسماء و الأدباء و الخدم الذين

كانوا يشكلون بذاتهم نقطة الوصول بالسرد الروائي إلى محصلة الدال المركز و هو عبد الرحمن الفيلسوف .

( الأحداث التي تتعاقب والزمن داخل النص )

أن حركية دال شخصية السارد العليم في رواية ( بابا سارتر) تتحرك ضمن المشاهد المرسومة سواء كانت هذه المشاهد دالة على الشخصيات المحورية أو الشخصيات الغير محورية إلا أن الغاية السردية في الرواية تبقى العين الراصدة لكل المشاهد والألوان الشخوصية التي تساعد كاتب السيرة في الرواية على الوصول إلى جوهر تلك الوثائق وصولا منه إلى حقيقة أيقونة تلك العلاقات الشخوصية ومدى فاعليتها في دعم رصيدها الدلالي المتصل بشخصية ذلك الفيلسوف الوجودي . وهكذا يكون السارد قد قام بالبحث و السؤال بصورة موضوعية شبه أستفهامية بمن يلتقيهم من الشخصيات ذات الصلة بحياة عبد الرحمن . فالروائي المثقف علي بدر راح يرسم لسارده الشخصية في النص صورا ذات أحساس دقيق و ممتزج بالفطنة و الحنكة البحثوية . فهو ليس روائيا عاديا مثل غيره . فروايات علي بدر تشكل

في ذاتها مساحة تثاقفية و حماسية كبيرة في التقاط المخفي و المخبوء و المسكوت عنه كما وفي رصد عين مجاهيل الحالات المنسية من الأشياء ضمن كاميرا المفتش الروائي الحاذق . و تبعا لهذا فإننا نعاين تحركات شخصية كاتب السيرة وسؤاله لحنا وهنا القول للرواية : ( فسألت حنا إن كان للفيلسوف أصدقاء .. فأجابت نونوبهار بصوتها الكسول : سنعرفك إلى التاجر صادق زادا فهو وحده الذي يعرف عن حياته الخاصة الكثير .. و المحامي بطرس سمحري .. هذا أيضا عليك أن تلتقيه فلديه هو الآخر وثائق رسمية تعينك على الكتابة .. / الرواية ) .

( تقنية الوقفة أو النظر )

أن الوظيفة الروائية في نص ( بابا سارتر ) ما هو إلا وظيفة تقنية من تقنيات الوقفة أو النظر التي راحت تدفع بالرواية إلى النظر و التأمل و المراجعة و التنقيب في مشاهد و شخوص الرواية لتستدرج تقنية الوصف وهذا ما أطلق عليه النقاد بـ ( الوقفة ) وهذه التقنية بدورها هي ما جعل شخصية السارد / كتاب السيرة تتصرف بطريقة المراقب الرؤيوي لإثبات الذات الراسمة لحالات

التوصيل المشهدية داخل مقاطع و فقرات الفصول الروائية : ( متى ستبدأ العمل ؟ قال حنا يوسف بشبابه العارم المكتوم : غدا ؟ .. هنالك رسائل أكتبها لك ربما تعينك و تسهل مهمتك كما لدي نصيحة : ماهي ؟ هل أنت أخلاقي ؟ .. كان يبتسم بينما كانت نونوبهار تلعب بقلادة تستقر بين نهديها .. أن رجل شريف قلت لهما في الحال .. هذا ما عليك أن تحذره .. و ضحك الإثنان ضحكات خفيفة مكتومة فقامت نونوبهار من جانبي بشعرها الوحشي وهي ترفع يدها حيث يظهر جانب صغير من صدرها بين الإبط و الثدي .. نحن لا ندفع لك المال لأنك رجل شريف .. لا .. لا على الإطلاق .. قالت نونوبهار و انفجرت بضحكة ناعمة وتابعت بصوت كسول : كلنا شرفاء ولكن شرفنا لا يصرف علينا ../ الرواية ) .إن الوظيفة الإدراكية و الحدسية و الفراسية السردية كانت ملازمة لشخص كاتب السيرة لدرجة وصول الأمر إلى محط شكوكه الشخصية بأن هناك أمرا ما يتعدى حدود كتابة السيرة بل أنما يتجاوز الأمر جل الأسباب و المسببات و العلل و البراهين ولكن بالنتيجة كانت غايته الذاتية من وراء الكتابة هو الحصول على المال وخصوصا وهو يرزح تحت عبء الإفلاس و البطالة .

( أسفار البحث عن تفاصيل وثيقة الفيلسوف )

من خلال هذا المبحث سوف نستعرض أسفار رحلة البحث عن تفاصيل وثيقة حكاية الفيلسوف .. ذلك الفيلسوف و الكيفية التي سوف نصل إليها به تتطلب من كاتب السيرة صحبة تلك الشخصية النسبية جواد على متن فاعلية ( السارد المنظور ) و قد يكون السارد في جنح هذا المسار من الأحداث الروائية مزودا بوعي مؤلفه الضمني و بدرجات راحت تنحسر فيها رؤيته في إدارة منظورات سردية مختلفة و متمكنة . إذ يظهر لنا السارد فيها عبر كيفية خروجه في رحلة بحثه عن المعلومات و الوثائق الخاصة لهذا السياق : ( أنا و شخص آخر أسمه جواد .. كان قد كلفه حنا يوسف بمرافقتي و تتبع خطواتي / كانت الشمس ضحى ذلك اليوم خافتة وسط سحاب أبيض متقطع .. و نحن نخطو الخطوات الأولى لجمع المعلومات الشفهية و الوثائق و التقاط الصور الفوتوغرافية للحي الذي كان يقطنه الفيلسوف في الستينات .. / الرواية ) . لعل هذه الجولة في جمع المعلومات و جمع أخبار مواطن الأمكنة التي كانت يسكنها الفيلسوف هي ما كنت أعنيه بـ ( السارد المنظور )

إذ إن السارد فيها يشكل تلك الشخصية الحضورية الفاعلة و المتفاعلة في الصوت و الصورة و المروي و المكتوب عبر مهمة تنامي علاقات نواة السرد المفصلي العام ــ أي بمعنى ما ــ أن علاقة السارد هنا مع شخصية كاتب السيرة و بجانب محورية الوثائق باتت تشكل ذلك المحفز المنظوري و المرئي و الذي يتلخص بالجري خلف متواليات شبكة الوثائق و الشخصيات و الصور و الأستعدادات في ملاحقة نبض الأشياء المتعلقة بمحورية ذلك الفيلسوف الغثياني : ( كان علي أولا أن أرسم خريطة جغرافية صغيرة للمكان وهو مخطط محلة صغيرة يؤشر إلى المواقع التي كان الفيلسوف يرتادها .. و كنت أسجل المعلومات التي تصف منزله الرفيع الذي يقع في رأس جادة الطبيب سيمون بهلوان .. ثم بعض المعلومات عن الإصطبل القريب من جامع سراج الدين وهو اصطبل تظلله تعريشة خشبية صلبة / و بعد ذلك عينت محل اليهودي شاؤول في سوق الصدرية .. وكان علي أن أرسم خطوط المواصلات بدقة وهي الخطوط التي تربط المنزل بالمواقع التي كان يرتادها الفيلسوف بعد ذيوع شهرته أي بعد عودته من باريس / و من المواقع التي صاغت حياته ../ الرواية ) . أن القارىء لمخططات رواية السارد

المنظور / كاتب السيرة لربما تبهره حرفيات الروائي المتعددة في مروية المكتوب الوثائقي المفبرك .. فالروائي راح يستدرج مخططات الأمكنة و الأزمنة و علاقات الشخوص وصولا إلى ورقة المحور المركزي في المشهد الدرامي . حتى أنه بات يهندس واجهات المباني و الطرقات صعودا منه إلى ذروة التمهيد المدخلية إلى شخصية عبد الرحمن و إسماعيل حدوب و اليهودي شاؤول و الراقصة دلال مصابني و كيفية علاقته الجنسية بهذه الشخصية ومع غيرها من شخصيات الرواية . فكان الروائي يعلل سلوكيات ذلك الفيلسوف بمجموعة أخرى من الشخصيات المكملة كشخصية التابع له إسماعيل حدوب و جاسب الأعور و روجينا الخدامة و حسنية الغسالة و سعدون السايس و عطية البستاني . هكذا أختار كاتب السيرة مجموع هذه الشخصيات مع ذكر الأمكنة و الأزمنة و المواقع و الرؤية و المثاقفة و بطريقة التوثيق و الوصف السيرذاتي الروائي و الذي كان بدوره محفوفا بروح الذات السردية غير المنغلقة .

( حرفيات صعود صنعة الخلق الروائي )

في رواية ( بابا سارتر ) هنالك العديد من الأساليب السردية و الأصوات الروائية المندرجة في لغة السارد العليم / المنظور و بكيفيات تتغاير تبعا لموقع الرؤية المراوية للشخصية الروائية في النص . لهذا فالرواية تبدو لنا قرائيا عبارة عن : شخصيات متعددة / فاعل مؤول / مثاقفات / شكلانية القصد / مروية الوثيقة / خطاطة المؤلف / فضاء لغة المقاطعات التمهيدية / عروج المؤلف نحو دال الشخوص . و على الرغم من أن الصوت السردي ( الأنا / المؤلف ) هو المهيمن على ذوات استقلالية مواطن مسارية الشخوص بنغمة و بشكل و هيئة و ملامح و هوية إذ إن القارئ لها لربما يجدها شبه متوحدة ومن خلال المسار الحدثي في الرواية رغم انفصالاتها الوظيفية الظاهرة في الرواية .

( كيفية بناء الواقع و هدمه بالوهم )

أن عملية التعالق النصي بين الواقع و الوهم و بين المؤلف و روايته و السارد و الأحداث الشخوصية نجدها قد حلت في حدود زمن ( المفارقة الفنية ) التي قام علي بدر بإستخلاصها كوسيلة إجرائية خاصة في زمن بناء أحداث الفيلسوف عبد الرحمن

و صحبته ناهيك عن اخفاقاته الفلسفية القاهرة و الواهمة بجانب حكاية غثيانه الوجودي الماحق . وهذا المنهج للفيلسوف الوهمي راح ينسحب بالأحداث نحو أحلك المواقف له في حياته الشخصية ولاسيما بوجود صحبته إسماعيل حدوب و زوجته الفرنسية و عشيقته النادلة و نادية خدوري و شخصيات أخرى في الرواية حيث تجمعها الغثيانات الواهمة لذلك الفيلسوف و تفرقها حالات الخيانة و الفرار من فضائحية الواقع الأليم : ( لقد هرب إسماعيل حدوب من شاؤول و التحق بعبد الرحمن / الحقيقة هي الحقيقة .. و الوقائع هي الوقائع و الأسلوب الذي أختاره إسماعيل لتصميم حياته القادمة هو أسلوب القنص الذي يريد أن يصطاد الحياة بواسطة الفلسفة .. لا أن يصطاد الفلسفة بواسطة الحياة .. فركض خلف عبد الرحمن لأن هذا الأخير و على خلاف شاؤول كان يتحدث عن الحياة بشكل عملي .. كان يتحدث عنها و بأناقة و بشيء من الدعابة .. بكثير من النكتة .. كان يتحدث بشيء من المزاح و بخفة الدم .. و كل هذه الأشياء كانت تنقص شاؤول و تنقص ثقافته .. و كانت فلسفة عبد الرحمن أكثر جاذبية من فلسفة شاؤول .. ذلك لأن الوجودية واضحة في هذا الأمر أكثر من ماركسية شاؤول .. مثلا : حينما يقول عبد

الرحمن : عدمية هذا يعني أنه سيسكر . و حين يقول : حرية . فهذا يعني أنه سينام مع امرأة . وحين يقول التزام : فهذا يعني موعدا في البار أو في الملهى .. هكذا قال إسماعيل حدوب يوما لأحد أصدقائه في مكتبة كورونيت .. / الرواية) . هكذا وجدنا حياة الفيلسوف و سيرته العابثة مع أصدقائه الصعاليك و غجرياته في الملاهي البغدادية الستينية .. يا لها من مرحلة عظيمة من الفلسفة الوجودية الشفاهية التي يحلو لبعضهم التحدث بها في المراقص الليلية و فوق أجساد لحوم البغايا .. أنها رواية الغثيانات الشبقية للسكارى و حثالات الطبقات المجتمعية المسحوقة في شارع الرشيد آنذاك : ( وقد أكد لي غير واحد من محلة الصدرية أن إسماعيل كان يتردد على منزل فيلسوف الوجودية بغياب الزوج .. كان يتردد على زوجة الفيلسوف على السيدة الفرنسية التي يزعم عبد الرحمن أنها أبنة خال سارتر .. و هذا الأمر بالنسبة إلى إسماعيل كان عاريا من الشك فهي أبنة خال سارتر حقيقة لا خيالا .. وطالما هو يستطيع أن يركب أبنة خال أكبر فيلسوف فرنسية فكأنما ركب فرنسا كلها ../ الرواية ) . و يتسع الإنفتاح السردي في الرواية محفوفا بتنويعات الفضاءات الشبقية و تناقض الأصوات الموقفية من جهة

الشخوص في الرواية . كما أن السخرية المريرة للمؤلف في تدوين مشاهد روايته أصبحت بمثابة الوسيلة العظمى للتعبير عن الرغبات و الأحلام و الإخفاقات و الخيانات الشخوصية مع بعضهم البعض . إذ لا يحاول المؤلف في نمو علاقات أجواء موضوعة شخوصه أن يفرض أي حالة من حالات الإصلاح و التوظيف الإصلاحي فهو من جهة ما يشيع الإصلاح المعنوي على لسان سارده و لكنه لا يبدي في الوقت ذاته أية حلول موضوعية و واقعية حية و مقنعة في جو روايته الأيروسية . أنا شخصيا لا أدين صناعة رواية علي بدر في شكلها الأدواتي و البنائي بقدر ما أدين منهجها في طرح الأشياء بصورها العارية و الفاضحة وبلا أدنى غطاء رمزي أو إيحائي أو إيحالي حتى .

( تعليق القراءة )

أن ما يشعر القارئ بإكتمالية أدوات و لغة رواية (بابا سارتر ) من حيث إنها عملا إبداعيا لا غبار عليه . إما مسألة مشروعها التهكمي الساخر وهو يصف أجواء المراقص و تلك العاهرات المتفلسفات و تلك الشخوص التي ما تنفك تنبعث منهم رائحة الخزي و السقوط و الأحلام الهابطة و

الخيانات . أنما يستشعره القارئ من وراء هذه الرواية وذلك بعد موت فيلسوف الوجودية الغثيانية الماحقة و تقلب كفة الأدوار و الأقنعة متمثلة بشخصية المفكر ( ميشيل فوكو ) و بعد أن افتضح أمر الشخصية صادق زاده بأنه إسماعيل حدوب نفسه العشيق و المضاجع النشط لزوجة فيلسوف الصدرية وصولا إلى إحساسات كاتب السيرة المسكين الذي لم يتقاضى أي ثمن مقابل كتابته لسيرة عبد الرحمن فيما كانوا يطالبوه كل من إسماعيل حدوب ونونوبهار إلى كتابة سيرة فوكو حتى يتسنى لإسماعيل حدوب مجددا تجسيد سيرة رجل البنيوية وذلك بعد سقوط زمن عبد الرحمن و الوجودية بثلاث احتمالات لموته . ومن سمات المفارقة الفنية التي أجاد المبدع علي بدر هو إحساس كاتب السيرة المسكين وهو يسير في الشارع هروبا من فضاءات المأزق البنيوي : (كان يسير أمامي رجل يعتمر عمامة بيضاء و يمسك بيده مسبحة سوداء طويلة و تسير وراءه امرأة و قد تحولت إلى قطعة سوداء من الأعلى إلي الأسفل .. الفوطة السوداء كانت تلف يديها .. صرخ شخص آخر عبر الشارع .. يا شيخ جمال .. يا شيخ جمال ؟ .. لا أدري لماذا فكرت لحظتها بجمال الدين الأفغاني .. فكرت بإسماعيل حدوب وقد تأثر

بجمال الدين الأفغاني فارتدى عمامة بيضاء ومسك بيده مسبحة و كانت نونو وراءه بالحجاب الأسود الذي غطى وجهها و يديها .. / الرواية / الخاتمة ) . هكذا تنتهي حلقات وفصول و شخوص رواية (بابا سارتر ) و في موضوعتها الروائية الأخآذة نلمس مغامرة الحكي السردي المتوحد بلغة الراوي / المؤلف / الشخصية في الرواية و التي يقع مصيرها في زاوية من زوايا أعماقه الشاردة من مدينة الوجودية و البنيوية و الأفغانية .. تلك المدينة الغارقة بجنون مثاقفاتها و فلسفتها و غثياناتها و خياناتها و بغاياها و مراقصها و مزاجها المأزوم بين اليقظة و المفاجئة وتلك الرواية الغاطسة في أعماق شرايين المفارقة الفنية الصادمة لتشخيصها رسومية الواقع الساخر وتكثيف بشاعته الأدهاشية المحفوفة بدلالات الرواية المتفوقة أبداعيا .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب