السيد اصغر اكبر ــ اسرار وحكايات بعيدة عن فهم القارى ء العادي
“على القارئ ان يعلم ان المحكي هو قصة خيالية دون ان يعني ذلك انها مجرد كذب” (كولريدج)
لا اعرف حقيقة الحزن الذي انتابني حينما انتهيت من قراءة الرواية “الحزن يبدأ عندما تنتهي الرواية” لكنني عرفت السعادة عندما كنت اقرأ واصرُ على مواصلة القراءة من جديد وقلب الصفحات في كل لحظة ،وبهذا التجلي (القراءة) الثنائي ما بين حزني وسعادتي اتضح لي بأنني على علاقة اشتهاء متبادل مع النص ـ اي ان النص هو من يحقق المتعة للقارىء ، ولا أخفي هنا طبيعة”المتعة” وما رافقها من قلق وخوف انتابني بعد كل قراءة لاسيما التساؤلات التي تهرش برأسي بحثاً عن ما يطمئنها ويخرجها من هذا التيه المغلون بمنطق ومفهوم الحداثة وما بعد الحداثة التي تختفي فيها الثوابت والأحالات المرجعية الثابته…المنطق الذي شلَ ذاكرتي ووعي(القارىء)المنتج دائماً إزاء ما تؤثثه رواية “السيد اصغر أكبر” من حكاية غريبة صوغت بتقنية عالية قلما يُعمل بها ،لاسيما وان تاريخية النص(المرجعية) هي احد المحاور الرئيسية في تفسيره ،اي لا يمكن قراءته بمعزل عن افقه الماضي او التاريخي ، ولا أريد بذلك ان اعيش عصر النص والمؤلف واخصي النص بقراءة احادية(يتيمه)،اذ “لا يمكن للنص أن يقرا قراءة او قراءتين فقط وإنما هو يتغذى باستمرار ويتجدد بالقراءة ففي كل قراءة إضافة تقوم بتفكيك القراءات السابقة من ناحية وتعيش لحظتها المؤقتة ، الى ان تظهر قراءة جديدة اخرى تفككها بدورها” وهذا التجدد هو من سيمنحنا لذة القراءة على الطريقة الزوسكيندية (العطر هو من يمنحنا لذة القراءة) على اعتبار ان النص (العطر) في نظر ما بعد الحداثة شيئاً معلقاً في الهواء ، شيئاً يقف في المنطقة الوسط بين عالم الواقع وتجربة قراءته ،وبالتالي لا توجد حقيقة يمكن الأمساك بها داخل النص ، ما عدا رائحته المتطايرة بخيالات ربما لا توجود على ارض الواقع ، ومن منطلق اخر لايمكن اعتبار النص (المرآة) كياناً مستقلاً في حد ذاته. لكن تجربة القراءة وما تبع ذلك من نقل سلطة التفسير من النص وقصد المؤلف الى القارىء هو من جعل القراءة (القراءة النقدية الواعية)تصبح مفتاحاً لجميع الأتجاهات ما بعد الحداثية وهي من ينجح في نهاية الأمر في اعطاء النص كيانه وتحديد معناه .لكن ما اصابني من قلق وتوهان إزاء قراءتي لسلطة النص الروائي (السيد اصغر اكبر)هو من حفزني الى ان ابحث وانقب في كل قراءة جديدة عن ما مدفون بارضية الرواية لذا اجدني بعد كل قراءة أنسى ما أعرفه لأجد نفسي ضائعاً داخل متاهات الزمن… القراءة التي لم ولن تثمر عن اي شيء سوى “تيهاً” لا نهائياً يعد بضياع لا ينتهي ،ولكن ما ان نقرأ ونشم رائحة الورق ونجتاح حدود الرواية بشخصياتها وامكنتها واسرارها وطقوسها نكون قد ازحنا بعض الشيء من ذلك القلق والضجر وربما الخوف الذي داهمني فجأة اثناء القراءة (الأولى )التي ولدت لدي افكاراً غريبة جعلتني العن نظرية السيد اصغر اكبر،
والجنرال “باشيرو” وهو يحذرنا من الأخطاء المطبعية منذ مطلع الرواية اي قبل ان نطلع على خارطة الرواية(مدينة النجف) “حذار من الأخطاء المطبعية يابني ، تمهل وأنت تكتب اسم دوائي وسيرة حياتي وعناوين اصدقائي القدامى” الخارطة التي جاءت كمدخل اشتراطي يوضح لنا طبوغرافية النص بمختلف حفرياته ،وربما يحيلني هذا الأشتغال كمنتج اخر للنص وليس كقارىء عادي الى تدوين ملاحظة (تنوية)على هامش خريطة الرواية تفيد بأن “على القارىء ان يعلم ان المحكي هو قصة خيالية دون ان يعني ذلك انها مجرد كذب ” ونستشف ذلك من خلال رصدنا ومتابعتنا لحقيقة ما يقوله ” كزار” في اكثر من حوار(لقاء) معه من” ان “الروايات” تولد من الشكوك والكوابيس وسوء الفهم ” و” كل رواية هي تزوير جاد لحكاية أخرى” وبهذه العبارة الأخيرة يقنعنا بما يكتب ويقول ويفعل ويحلم ويلعب لاسيما ما يستخلصه من باطن الآرض(التأريخ)من خامة روائية ثرية بثقافة ووعي الأمكنة (النفطية) التي لا تغادره حيث الصحراء وما يمتهنه من وظيفة عمل شاق(مهندس حفر ومكامن نفطية) هو من يفتح (يخط) لنا عالم الرواية بتضاريس وخطوط وخرائط وشوارع ومقابر ودرابين وحروف وكلمات وأرقام حسابية بمعادلات حسابية مغلوطة بشخصيات يتم حفرها على أرضية النص او ما يسمى ب (جنة الورق) حسب “كزار” … الجنة البيضاء التي لا نعرف الطريق إليها لأننا ما زلنا هنا في عالم الورق نبحث عن الشخصيات التي تستحق البقاء في هذه الجنة الشفهية التي تعتمد التزوير والحيلة والمراوغة والقصة الخيالية والفنطازيا ،وهسيس التناص.. هذا الأخير الذي تعتمده المرويات الشفاهيه من دون الاعتماد على أي مصدر تأريخي
لم تنشأ بين مرتض كزار وبين مدينة النجف صلة مكانية واضحة لم تكن له صله مكانية واضحة بمدينة النجف ، ولم يصادف اي شخصية من شخصيات الرواية..تصريح اخر موجود في اسية النجف…. وكان باشيرو(كزار)اراد بهذا التصريح ان يبين لنا خطورة ما يكتبه اليوم من سرد روائي مغاير ……
التحذير ان يبين لنا خطورة “الخطا المطبعي” … الخطأ الذي قد يصارالى كارثة قد تسيء لنا ،وربما يحيل الحياة الى موت حين نخطأ في اسم الدواء وسيرة الحياة ، وعناوين الأصدقاء وما يرافق (الخطأ) من متغيرات قد تغير من ملامح المدينة بما فيها من رموز دينية وشخصيات تاريخية ، واضرحة ومقابر واسوار وابواب ومحلات وسراديب …امكنه وأزمنه متخمة بمرجعية دينية كونية لا يمكن ان نخطأ بجلالتها الفاضلة وتاريخها المقدس ، و نحرق ما نحرق، مدينة لاتقبل الأخطاء و الأغتيالات وعمليات التنكيل والثارات الوحشية بقدر ماهي مدينة دينية تؤمن بالغيبيات وقوة الحرف وسحرية الكتابة ، ولكي نتجول في صفحات هذه الرواية على مدى199 صفحة ،ونفتح كل ما هو مشفر فيها ،ينبغي علينا ان نكون حداثويين ، ولربما ما بعد حداثويين ،او اركونولوجيين سرياليين من اجل ان نخضع الجسد(الروائي) الى فحوصات تحليلية من شأنها تشخيص الحالة(حالة النص)قبل وبعد الولادة، وهذا يحتاج الى جهد فكري استثنائي ربما يحيلنا الى قراءات اخرى كما حدث لنا ونحن نتجول في “غابة ايكو السردية ” و” هوية السرد الريكوريه )و(……………..و………)والتمشي في ازقة ودرابين مدينة النجف بحثاً عن بنات السيد خنصر علي(معينة ونظمة وواحدية) ,”وبيت الشرايك”و”فنجان ابو نصيحة”و”ابو السبزي”و”بغلة عباس” لكن ما اصابني من قلق و توتر هو انني لم احصل على اجابة شافية لآسئلتي القلقة مما حفزني الى تصوير بعض الأمكنة)مقابر،وازقة،ودرابين ضيقة،وشوارع، …..الخ) لعل ذلك يمنحني الثقة ويزيل الشك بما اقرأ ، وربما التقي باحد شخصيات (الرواية) واتحاور معه … ولكن ما يخفيه (كزار) وما يلفه لنا من حكايات واسرار وذكريات مدفونة في باطن الرواية هو من جعلني ابحث عن قواعد هذه اللعبة في مدينة النجف خارج منطقة النص اذ “نجد هناك قواعد خاصة بكل لعبة ، والقارىء النموذجي هو الذي يعرف كيف يخدم هذه القواعد” ،و لا أريد ان اختنق باجواء هذه “اللعبة” وما تخفيه لنا من اسرار بقدر ما اريد ان اتنفس الصعداء واعشق واحلم واتأمل بخفة ،ولكن ما ان نقرأ حتى تتضح الرؤية شيئاً فشيئاً اذ اجدني ملزماً بفهم ما تبقى من الحكاية حتى النفس الأخير وما بعد الأخير …حكاية الأخوات العانسات والمطبعة الحجرية وفوضى الحروف المتعاكسة وانصاف الكلمات الهاربة والصواني المربعة والمكعبات الرصاصية….الخ ، وبأستمرار القراءة بدأت اهذي مع نفسي واتسائل بتفاصيل وكيفيات سريالزمية : هل تفاصيل هذه الرواية تفاصيل واقعية أم هي إنتاج احلام الروائي؟ كيف افهم ما تكتبه شخصيات الرواية من كلمات على الصواني ولا تستخدم الورق ؟ كيف لي ان اجمع ما تبقى من حروف وارتبها من جديد ، كيف لي ان اجيد القراءة وانصاع الى هذه الرواية(الخريطة) المكتظة باجواء سريالية مجنونة تبشر بولادة ” سردية” مغايرة ومختلفة لما قدمه الساردون العراقيون ؟
اذن كيف لي ان لا اخاف هذه الرواية واتحايل عليها مثلما تحايل علينا “مرتضى كزار” ؟ اليس (الكتابة تحايل على الحياة) كما يقول “سيوران”وهو يولد لنا افكارأ غريبة تتسارد علينا بتقنيات(ثنائيات) حداثوية غير مؤلوفة من “سرعة وتباطؤ،””خفة وثقل””اخطاء وتصحيح”حروف وكلمات”هامش ومركز””قراءة
وكتابة””اصغر وأكبر””سعادة وحزن””ماضي وحاضر” وبطبيعة الحال يحيلنا هذا الى مفهوم “تناصي”اخر جديد قد يتعارض وربما ينسجم مع ثقافة الروائي التي ربما هي من يحيلنا الى ذلك المفهوم التناصي اللاواعي بمختلف روائحة البينصية التي غالباً ما تفضح لنا هذه التناصات الموجودة مع تأريخ غير مكتوب (شفاهي) مع تأريخ يشبه الخيال ، وهذا لايشكل خرقاً وانتقاصاً في كتابة “المدونة السردية”بقدر ما نجد ونقرأ الكثير من السراد(الروائيين) قد لعبوا وتلاعبوا على الأستشهاد التناصي بما فية الأسلوب الجديد في كتابة الرواية التي يقول فيها “ايكو”
“يجب اولاً ان نقرا ،ونجمع جذاذات ورسم بورتريهات الشخصيات ، وخرائط المكان، وخطاطات لمقاطع زمنية ” وهذا يحسب بطبيعة الحال لمصوغ النص “كزار” الذي يبدو لي انه ادمن شراب “ايكو” وسيبقى مدمناً ما دام هناك متعة ولذة واستحضار وتجلي وسحر، وفوضى منظمة، وسعادة نيرفانية حقيقية قلما يصل اليها روائي عراقي .”السعادة الحقيقية هي ان نذهب الى الصيد لا ان نقتل الطائر” لا سيما وان هذه المنشطات)الأيكوية) لا يمكن ان تعطى إلا لمن هو لديه القدرة والقابلية على تجرعها(فهمها) الذي يعد سر من اسرار الكتابة الجديدة ، وخير دليل على ذلك ما حملته لنا الرواية من حكاية اتخذت من “علم النسب” موضوعاً لها … العلم الذي يحتاج الى مزيد من المراجعة والدقة والتحقيق ، وبالتالي اجد ان من الصفات المستحسنة لدى الروائي “كزار” في هذه الرواية هي امكانياته في جمع مادة الرواية من تواريخ وحكايات وامثال وزيجات وخلافات ومعارك ، وكل هذا يتم بحرفنه الخبير (الروائي )العارف المهندس بالأنساب الأجلة ورسم اشجار التاريخ بخطوط من الأسفل الى الأعلى حسب الأجراء المعتمد في خريطة الرواية المعمره
اذن كيف لنا ان ناخذ بوصفة(مرتض كزار)السحرية ونتجرع سحرها وشعوذتها وتمردها اللامالوف للرواية العراقية ؟ وبالتالي كيف لنا ان نقرا هذه الوصفة المائزة بهسيس السرد الجديد وربما المغاير ، ونشخص ما حفر على جسد الرواية ” هل نقرأها قراءة تأريخية أم نقرأها قراءة انثربولوجية ام نقرأها قراءة سحرية كونية؟؟؟؟وربما نحتاج في قراءتنا الى تعويذات معينة والى قاموس لغوي يمكننا من ترجمة بعض المفردات الغريبة التي من شانها ان تؤثر في فهم وتفسير النص وربما ننقاد الى تاويلات نحن في غنى عنها .لذا ما نحتاجه في كل قراءة هو ان نتدرع باسلحة الوعي الشامل من عيار(ايكو وبورخس ودريدا وبارت وكالفينو وباشلار…الخ ،) ونوقد الذهن بشحنات كهرومعرفية روائية ، ونقف على حقيقة النص بمختلف مستوياته(المرجعية) الفكرية ونزيح القلق والشك وان لا نخطأ بصادرات وواردات النص المدفونة في باطن الرواية وان نتذكر مقولة “نيتشه” المعروفة”ان الحقيقة انه لا توجد حقيقة ” وان لاننسى حقيقة ما يقولة “ايكو” في “بندول فوكو”كي لا نخطأ في اسماء الأزقة والدواء وعناوين الأصدقاء ومفارق الطرق وسيرة الحياة اذ يقول” كي اصف تسكع كاسوبون ليلاً في باريس من المعهد الى ساحة فوسج ثم الى برج إيفل ، قضيت ليال كثيرة ما بين الثانية والثالثة صباحاً أمشي وانا اتحدث الى مسجل احكي لنفسي ما اراه لكي لا أخطأ في اسماء الأزقة ومفارق الطرق ،ولقد ذهبت الى بحر الجنوب ، الى الموقع الجغرافي بالضبط لكي اتاكد من لون البحر والسمك والمرجان ، وذلك في اوقات مختلفة من اليوم .
**************
الرواية : السيد اصغر اكبر
المؤلف : مرتضى كزار
عدد الصفحات : 200
الناشر : التنوير للطباعة والنشر والتوزيع
سنة الطبع : 2012
مرتضى كزار : روائي عراقي من مواليد1982 ــ البصرة ،تخرج من كلية الهندسة بجامعة بغداد سنة 2005 ، صدرت له ثلاث روايات “الأولى “صفر واحد” والثانية” مكنسة الجنة” والرواية الجديدة (الثالثة) “السيد أصغر أكبر”