الرواية بوصفها المعادل الموضوعي للتاريخ
تسرد رواية انقاض الازل الثاني، للروائي السوري الكردي، سليم بركات؛ ما حدث للأكراد بعد ان تم القضاء على دولتهم الوليدة والتي كانت حلم الاحلام للشعب الكردي؛ فقد هاجم شاه ايران بجيشه؛ جمهورية مهاباد الوليدة والتي لم ينقضِ على وجودها سوى سنة او اكثر قليلا من سنة، بعد الاتفاق بينه من جهة( شاه ايران..)، والاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمى من الجهة الثانية، في العام التالي من انتهاء الحرب العالمية الثانية.. يقوم الجيش الايراني البهلوي بمذابح حين يتم له القضاء على الدولة الوليدة، لم يسلم من تلك المذابح حتى الشيوخ والنساء والاطفال؛ لتبدأ عملية نزوح كبيرة في اتجاه الاراضي السورية والعراقية.” ..وكذلك همسُ المقايضات على طرق الشرق، ورياحه، بين الذين تقاسموا تركة الامم المنهارة في خاتمة الحرب العالمية الثانية. لم يكن من أمل للقاضي محمد، بعد ما فتح الشاه البهلوي لستالين ممرا الى حدائق الذهب الاسود.” تبدأ الرواية باقتفاء اثر الهاربين من الموت الذي حاصرهم في عاصمة الجمهورية المنهارة، والمستباحة بهمجية وشراسة، بحثا عن طريق للنجاة، وينجحون في بحثهم هذا، كانوا اربعة، يقودهم، رندوا، بوصفه واحدا من الحاملين؛ للحلم الكردي في دولة وكيان وهوية، الذي كان في عهد الدولة الوليدة، مسؤولا عن بريد الدولة ومراسلتها. هربوا من المذبحة، على بغال خمسة تترية، في اتجاه جبال العراق.. الرواية السرد فيها؛ سردا متسلسلا، من حيث الاسلوب واللغة والمبنى الحكائي. كانت اللغة، لغة متعالية جدا، تراكيب الجمل، هي استعارات، وكنايات، ورموز بل حشدا من الرموز. انثروبولوجيا الشعب الكردي، اضافة الى الميثولوجيا؛ تحملهما لغة ساحرة جدا، وممتعة، وفي ذات الوقت لغة صعبة، ومعقدة جدا؛ لا تقول لنا بصورة مباشرة وواضحة، حركة الشخوص، وافعالهم، في الاحداث الملموسة، بل بطريقة الانزياح الى ما يجاروها، من لغة استعارية، وكنايات، وتشبيهات؛ ترسم لنا؛ فعل ورد الفعل للشخوص في اتون الاحداث المخيفة والدامية، وتهديد الموت للهاربين من أتونه في اية لحظة، والمحملة بالدلالات، والافكار. هنا تتجلى المهارة المتفردة للروائي، الشاعر، سليم بركات، وقدرته الفائقة، على اللعب باللغة التي حولها الى لوحة رائعة جدا، ناطقة بالتيه والتشتت والضياع في عالم شرس لا يرحم، تحركه المصالح، ومدهشة الى اقصى حدود الدهشة. هذه الرواية، جسد نصي، كتلة من الثيمات المتراكبة بعضها على بعض، مجموعة من الخطابات، مغلقة ذاتيا اي كل خطاب فيها، أغلق بالجمل المجازية، باب الدخول الى قول الخطاب، واضعا، مفتاح الباب؛ في لغة، غاية في التعقيد والصعوبة اللتان، ليستا مقحمتان في السرد، بل فرضتهما؛ قوة الرسالة بعمقها الفكري، وتنوع، وتعدد السيمائيات فيها، التي اراد الكاتب السارد؛ ان يبثها في ثنايا الجمل، وليس بينها. لنتابع معه، الهروب الدامي للأكراد الخمسة على البغال التترية: الخمسة الهاربون من الموت، والمذابح، يقودهم الشريف رندوا، مسؤول البريد في جمهورية مهاباد. بعد سفر متعب عبر الجبال والهضاب، في الليل والنهار، يحطون الرحال اخيرا في مضيف، كريم بيرخان الاغا، الكائن فوق هضبة (كايي خودن)اي ثور الله، بين جبل هكار وجبل سنجار. تنفسوا الصعداء، وشعروا بالأمان، في انتظار ان يتابعوا هروبهم. لأن شيئا حدث للشريف رندوا، فقد اصيب بحمى البرداء. من بين الخمسة؛ والي جناب، وجكر سيدا، والملا نجدت، ومنو؛ زينو مفيان المغني. لتبدأ في الليالي التاليات؛ جلسات سمر، مادتها، قصص أنثروبولجيا الشعب الكردي، واساطيره، وحفلات غناء بين زينو وابن جميل الاعمى ذو الخيال الدامس، علي. كلمات الاغاني كانت هي ايضا؛ تحمل على اصواتها هموم الشعب الكردي على اجنحة الميثولوجيا المعجونة بأنثروبولجيا الشعب الكردي.” أ صغى جكرو، ومانو، الى الصوت المزدحم بألسنة الغمامات- صوت جكجكان المتأني في رسم الاطياف على بلورة علومهما: في الفجر تحمل النساءُ الأكياس الى المسلخ المستطيل، ذي السقف العالي…أنا لديَ أغنيتان أو ثلاث أسمعتك منها إذا شئت، قال رجل لم ينتبه اليه مانو الا لحظاً، شيخ من وراء الحلقة… حدق في السقف، أبعد من مراتب المرئي، وجذب وتر الصوت الثالث بأنامل يقينه ثم تركه فرن رنينا مشروخا: لاتصعدي السطح كي تري موكب الزفاف. سينزف قلبك طويلا، يازيرو، وانت ترين الذي دوخ جدائلك بانفاسه يلهو على سرير سواك..” على الرغم من أن الكاتب السارد؛ أتبع في السرد، استراتيجية الراوي كلي المعرفة، لكن مع هذا، الكاتب السارد، بحرفية عالية جدا؛ في مفتتح الرواية، في اول كلمة لمبتدأ الروي، يختفي في دائرة الموت، لكن الطيور التي يخلقها، ويبعث الحياة بالكلمات فيها؛ تحلق في فضاءات الدائرة، لتملأها بالموسيقى المأسوية، والموجعة، والحزينة. كتلة الرواية، تبث المعاني من داخلها، الكتلة مكتفيه بذاتها، في ارسال اقوال خطابها للمتلقي القاريء.. مما زاد في كثافة، حيويتها وحرارتها، وفعالة في عملية شد القاريء إليها ومتابعة الاحداث بشغف ومتعة معرفية، كان للغة الخطاب الروائي؛ دور فعال في رفع درجة سخونتها، كما ان الكاتب السارد او الراوي العليم، أنطق الكلمات، جعلها بفنية مائزة، الى ابعد حافات التميز؛ تنوب عنه في الحضور في لوحات السرد، حين سلط الاضواء على احداث الرواية، لأنارتها بواقع تاريخي مجاور للأحداث مكانيا، ومتعالق زمانيا مع زمن الرواية مع انه خارج زمنها، لكن ظلال الواقع التاريخي، تؤطر الاحداث.. فأثرى الاحداث بالمرجعيات التاريخية، وشحنها بطاقة سحر، سحر المعرفة، طاقة سحر شديدة الجاذبية، وجعلها تكتنز بمولداتها التراكمية التي تنتج او انتجت فعل اللحظة التاريخية في البحث عن وجودها في محيط اقليمي ودولي، يحارب وجودها، وسعيها الدؤوب في أن يكون لها؛ دولة في حدود جغرافية مُعَرفة، وهوية وشخصية تُعرف بها في كوكب الارض.”.. في وضع كتابا عن مباديء القومية التركية، في عشرينات هذا القرن، مسكونا بتذويب الاعراق في مطهر الفكرة كي يرجع الخلق، اجمعين، الى مقام اللُب في البطيخ الاحمر- الكل لتركيا-…من ارارات حتى بحر ايجة،….ألغى ثياب الاخرين، ولغات الاخرين.. أبنة اتاتورك بالتبني، الهانم صبيحة غوك جين؛ قادت بنفسها، في نهاية الثلاثينات، ذبحت السماء بمراوحها الحديد على اكتاف الاودية..” في الجانب الثاني، من بين رجال شاه ايران، كان هناك؛ زاده بزر بادي، يقود مجموعة من الخيالة في عملية اقتفاء اثر الهاربين الخمسة، فقد كان يطلب ثأرا لأبيه، الذي ازال كعب قدميه، رندو حين كان مسؤولا عن بريد الجمهورية الوليدة، أذ، اتهمه بخيانة الجمهورية لحساب شاه ايران.”…سُطوة الرسم الصفوي، وحدها، حملت الشاهات الصفويين- بلا طرائق في المخاطبات؛ بلا كَشفِ مُمتِحنِ – الى منازل الكرد..” بعد عملية بحث مضنية، يوصله القياف، شاهبور الى مضيف كريم بيرخان اغا. عندما وصلوا الى باب المضيف مع ما احدثوه من هرج ومرج، خرج لهم كريم بيرخان وابناه، جادوا وأسيف، في الحال حين ابصروهم، اطلقوا نار بنادقهم على صدروهم. وقتلوا ابنة كريم، راميسان التي كانت تقف على مقربة، وهي ترتجف خوفا وألما وغضبا. ثم قتلوا الجميع، الاعمى وابنه، وحميد داهي القهوجي.” هيا خاطبهم ليخرجوا. ينبغي ان نسرع. قال زاده. فلندخل عليهم رد زاهدان، الترجمان. “كان أمير البريد المدحور،يحمل لفائفه الاربع السوداء حزمة مضمومة الى خاصرته، نقل عينيه في الوجوه حتى استقرت على زاده، تأمله بأنكسار. وضع زاده فوهة البندقية في نحر الرجل الكهل، وأطلق النار.” تنتهي الرواية بالجمل التالية:” في الارض المنبسطة تحت إشراف الساعة الطين الكبيرة ذات الأرقام الحجر، التي احتقرها اهل سيدروك بارزة في السفح، نافرة كعقل عنصر يتدبر الصلح بين الكينونات، ريثما يتحرك عقرباها حين يُغمى على الأكيد المشرف على نهب الدم.
رواية أنقاض الأزل الأول للروائي سليم بركات
من منشورات دار الجمل
تقع الرواية في 194صفحة من القطع المتوسط