23 ديسمبر، 2024 8:07 ص

قراءة في رواية(الظلال الطويلة)لأمجد توفيق

قراءة في رواية(الظلال الطويلة)لأمجد توفيق

فتنة المخيلة لاتؤول إلى إلتماسية جوهر الواقع
ليست الكتابة الروائية دائما عملا خالصا للخيال,بقدر ماهي انعكاس صور واقعية للعمل والافكار المكتوبة,اي ان الروائي ليس مطلوبا منه (استنساخ الواقع)بقدر ماهو مطالب بالإيحاءوالمحافظة على حدود هوية واقع الكتابة وجوهرية ارتباطه بين ماهو واقعي وماهو(خيالي فقط؟)في مقدمة مقالنا هذا اود حقاً توجيه مدى احترامي وحبي لعوالم الاستاذ امجد توفيق السردية,والتي تذكرنا جيداً بأجواء ساحرية قصص (الجبل الابيض:الثلج الثلج)كماوفي الوقت نفسه اشكره على اهدائه لي نسخة من روايته (الظلال الطويلة) التي سبق له وان قام بنشر بعض فصولها على صفحات (الف ياء /صحيفة الزمان)وعند قراءة مقدمة الروايةوالتي قد اشرف على تقديمها الدكتور خالد علي مصطفى,حيث نقرأ من خلالها عرضا وصفيا وجيزا يخلو تماماً من اي علامات تدل على سيماء وعي وذائقة روائية جادة ومحترفة.وعند بلوغ نهاية تلك المقدمة,نكتشف بأن(خالد علي مصطفى)كان قد قرأ العمل الروائي لأمجد توفيق ,على اساس فعل عاطفي كونه(رجل فلسطيني الاصل)حيث موضوعة الرواية تدور احداثها حول افعال الاحتلال والمقاومة واندلاع النيران في المباني والدبابات!على اية حال,لاشأن لنا بكل هذا,لاسيما كوننا من قراء ومحبي عوالم العزيز امجد توفيق.اتذكر بأننا قلنا في بداية مقالنا هذا.بأن الكتابة الروائية ليست دائما,معولاً جادا حول حيثيات متفاعلات مخيالية فقط بل هي ضرورة محفزات وقناعات ماهو سائد من حدود فضاء مفردات الواقع المتداولة,لربما هي من اشتراطات وقرائن استجابة موضوعية وفكرية ونفسية,لاسيما وان ذلك العمل يدور بأدواته الشرطية على تصوير حالة هي اقرب ماتكون لـ(تسجيل الواقع).في رواية (الظلال الطويلة) هناك امثلة ووجهات نظر وصور رائعة ومتكاملة من حيث ادوات الكاتب المهاراتية ازاء شروط كتابة النص الروائي ,الا اننا ومن جهة نظرنا وبعد قراءة العمل والتمعن بأحداث موضوعة الرواية,وجدنا منطق صناعة الموضوعة,تخالف وتناقض ماقد توصل اليه العمل نفسه من تكاملية في ادوات صنع اجناسية النص .

ـ مكابرة الموضوعة .
من خلال قراءتنا لرواية القاص لاحظنا بأن هناك شريحة معينة من المجتمع العراقي ,تندرج ضمن وحدة اسقاطية داخل ممكنات شريحة انحدارية,وذلك يتضح من هكذا وصف ومعاينة:(خمسة رجال مدججين بألاسلحة جلسوا على فرش ممدودة على ارض سطح تحيط بهم وسائد سرعان ماتنتقل من جهة لأخرى:انهم في هذا المكان يسهروا وسهرتهم تبدأ بأحتساء مشروبات كحولية من قنان لم يعرفوا انها مشروبات فاخرة تعود لأصحاب قصور فارهة هاجرة خوفا من القتل:ص25) .
لعل من المفيد الاشارة على ان القاص يحاول هنا اظهار خطة وترسيمة تمهيدية لأبعاد دلالية ومشهدية لاحقة(مع دبيب الخمر الجيد تتصاعد حمى الحديث لترسم خريطة من نوع خاص تتضمن قراءة للأوضاع في المدينة ومايترتب على هذه القراءة من افعال او حركة:ص25)
تتشابه نواياومقاصد افعال الشخوص هناومن خلال هذه الاجزاء من مشهد الفصل الاول,لدرجة اختلاط التفاسيروالتأويلات القارئة لهذه اللقطات السردية,التي تصل بالقارىء الى مستوى اقناعه بأن هؤلاء الشخوص,ماهم الا(ملائكة تحرس المدينة)الا ان الامر سرعان ما ينكشف بواسطة هذا المشهد(قال جاسم الريس وهو احد الرجال الساهرين على السطح:في نهاية العشرينات اتهم بجرائم كثيرة ولأنه يحب الظهور والادعاء لم يكذب اي فعل او صفة اطلقت عليه:اليس من الواجب ان ندعو انتصاراً لمشاركتنا السهرة :ثمة دبابة امريكية عند تقاطع الرشيد هل يستطيع جاسم ان يذهب ويفجرها بدل الحديث عن دعوة انتصار للتسلية معها :انا لا اخاف احداً :هل نحن من رجال المقاومة ما شأننا بالامريكيين :وقف جاسم ووجه نظرة فيها ايحاء فضيع الى عباس الذي تذكر على الفور ان جاسم قتل رجلاً من اجل كيس فارغ كان يحتاجه لوضع النقود المسروقة من المصرف :قبل سنتين كان الرجال الخمسة نزلاء عنبر الاحكام الثقيلة في سجن ابو غريب مثقلين بأحكام الاعدام :هاهي انتصار من جديد تشكل سبباً في احتكاك معه :كانت تعيش في هذا البيت مع شقيق صعلوك مخمور يتلقى الصدقات والاكراميات من الراغبين في المتعة مع شقيقته:)
في هذه المقتطفات من مشاهد الفصل الاول من الرواية ,تنعطف وجهة التيار الدرامي,حيث نرى تجسيدا فاعلا لنزعة غريبة من (مكابرة الموضوعة؟)-فمثلا- نتعرف على شخوص الرواية وهم يمارسون ادواراً شاذة من اللصوصية والدعارة وفقدان الضميروعدم الشعور بأنسانية الاشياء المحيطة بهم,وعلى حين غفلة من الوقت,نلمس بأنهم اناس بمنتهى الوطنية والانسانية والكرم :(وصل الصبي حاملا مصباح رفعته نحو النافذة وطلبت منه النزول الى الداخل:ما ان اصبح الصبي في الداخل حتى ناولته مصباح وامرته ان يبحث عن رزم النقود ويسلمها لها :بين مكذب ومصدق اخبرها انه لايحتاج شيئا وذكر ملاحظة ضحكت لها انتصار كثيراً قال انه وزملاءه يجدون انهم يعيشون العصر الذهبي الذي يحلم به اي رجل يكره الدولة والقانون ورجال الشرطة :ص33)
من هذه الفقرات لعل القارىء يواجه عملية ازدواجية في بناء حقائق سلوكية وتربوية ,لدرجة ان القارىء يشعر بالدهشة والاحباط ازاء تلون صفات شخوص الرواية القيمية:فما معنى ان يتحول(السراق والبغايا؟)في لحظة ما ربما هي مبررة سلوكياً وتربوياً وفكرياً ونفسياً الى اصحاب مقترحات ومناظرات في نظرية فعل المقاومة واشعال فتيل الثورة ضد المحتل ؟كذلك مامعنى ان تتحول (انتصار المومس)الى حالة من ارتقاء النموذج كحال شخصية (حاتم الطائي)التأريخية بالكرم والمكارم,في لحظة وزمن سريع وغير مؤهل لا موضوعياً ولا فنياً ولا اقناعياً حتى؟لعل امجد توفيق قد وضع نفسه في (مأزق عظيم)عندما جعل فعل مقاومة المحتل الامريكي ,يدار من جهة فئة (البغايا والسراق)وعلى ضوء هذا بوسعنا القول بأن(مكابرة الموضوعة) قد جعلت من فضاء فصول انتصار المومس والسراق بمثابة الخسارة لرصيد ربح الرواية الكبير بنائياً وفنياً.

ـ تداخل الحلم مع دلالة الواقع .
على حد تقديري الشخصي اجد ان مهارة صناعة رواية امجد توفيق تكمن تحديدا داخل فصول السياسي(بشار)بجانب حياته مع تلك الرسامة(ايزابيل) كذلك ماهو افضل في هذه الفصول هو ذلك التمثيل الايقوني والتجسيد البصري لحركة الشخوص حيث هناك التحاما كبيرا بالدلالة على طريقة تصرفات(بشار/أمل/خالد/نسرين/ ايزابيل)بيد اننا وتبعاً لحركة الشخوص نلمس تلقائية حضور صوت الجماعة في بعض نبرات شخوص فصول(انتصار واللصوص)بالاضافة الى هذا فأننا نلاحظ طغيان لغة القاص مع صوته على منطق وفلسفة وتثقيف مبالغ به احياناً في صوت القاص وراوي الاحداث كذلك على لغة ووعي وتحركات افعال شخوص الرواية ومسار مهيمنات الفعل السردي.وانا شخصياً على هذا اود ان ابوح لأمجد توفيق اعترافاً تاما,بأنني قد وصلت الى مرحلة الانصدام مما جعلني اسلم بحقيقة ان بلوغ الرواية هذه الفقرة يكفيها وحدها بأن نحملها شهادة الجمال والنجاح الفني,وهذه الفقرة تتلخص بمشهد عودة بشار الى ارض الوطن حيث وقعت واقعة سرقة ابنته(امل) وعلى هذا اجد نفسي امام تقنية بناء ذلك المشهد عاجزاً تماماً عن وصفه او تقريره بأي معيارمفهومي ونقدي يصفة بالنجاح والقدرة ـ فمثلاـ أحيي مدى قدرة القاص في عملية الربط بين حادث(سرقة اللوحة في باريس)وبين حادث حلم البطل في منامه مع وقوع فعل سرقة ابنته امل.ان شفافية التأليف لدى امجد توفيق في فقرات هذه المشاهد تحديداً قد بلغت بالقارىء حدا للولوج إلى مرحلة صعبة من ابعاد دلالة رسم الحدث الروائي داخل افق مخيالية ساحرة في صنع منظومة افعال(الرمز المباغت) 🙁 قد يكون الحلم محطة راحة او تحقيق توازن نفسي او فسحة يمارس العقل الباطن حريته في الاعلام عن نفسه /كان نائماً متمعاً ببراءة كاملة عن موعد مسبق مع الحلم او معرفة بما يخبىء سلطان النوم / بشقاوة ومكر تقدمت ابنته امل وسألت :ايه قصة :انها لوحة جميلة تستحق ان نعلقها في الصالة وانا مستغربة من حكاية السرقة / وكمن كان يدرك وجود اللوحة اخبر ابنته بأن تستبقي اللوحة في غرفتها كي لاتفسد المفاجأة التي يعدها /عادت امل راكضة بأتجاه غرفتها فشعر بشار بالراحة لان امل لاتعرف ايزابيل وليس ثمة احتمال بمعرفة ايزابيل بموقع اللوحة :ص 165)
الى هذا الحد من الدقة والحرفية راح امجد توفيق في متابعة صنع توصيف و توظيف حلم بطله بشار الصعب,بيد ان القارىء بدأ يلاحظ مدى حرص القاص على مزج خطوط الاحداث ومصائر الشخوص,اي بين فصل المومس انتصار وفصل بشار السياسي داخل شريط زمني سردي محبوك بالحقيقي والوهمي حيث تلفت انتباهنا مجموعة مفارقات تتلخص بفعل احتجاز المومس انتصار لتلك المجندة الامريكية جاكلين دون اي غرض او مبرر من وراء ذلك الاحتجاز,سوى علمنا بأنها استعانة بشخصية بشار لترجمة ماتقوله من سذاجة الى تلك المجندة 🙁 سألت انتصار الملقبة بالخاتون عن حياة الامريكية وطلبت وصفاً لبيتها في امريكا / طلبت الحديث عن اصدقائها وصديقاتها / كانت الخاتون تستمع الى حديث الامريكية التفتت الخاتون الى بشار وقالت قل لها انني مستعدة لأرسال رجل يمتعها في الليل ان هي رغبت في ذلك :ص 178).
ان هذا لايعني ان وجهة نظر القاص الحتمية والبنيوية الاجتماعية لاتزال غير ملائمة لوضع الظواهر الشخوصية لديه ضمن حدود(نقطة دالة)او هو لربما لايستطيع وضع تراسيم حبكوية كالتي وضعها (ليفي شتراوس) بين الاسطورة واشكالها المحنطة ,وعلى هذا فأننا ربما نلاحظ او نفتقد موصوفية دقة الادب الروائي في رواية امجد توفيق مع حيز التوصيف الاجتماعي المخطط له بين الرغبات الشخصية وآلية المجتمع التي هي اشبه بما تكون عليه النماذج المزيفة وفق ادلجه مفتعله من معقولية العلاقات اللاطبيعية.وان بدأنا هنا بالمقارنة بين رواية لنجيب محفوظ وبين رواية(الظلال الطويلة) فأننا لربما سوف نصاب بالخيبة,على اساس ان هناك تصوير شبه متباعد بين الخطين من التطور,لكن في الوقت نفسه ومن جهة غاية في المعاينة,نجد ان حالة ابراز نقص او تقويض شواذ؟ تتطلب منا ومن القارىء ايجاد فسحة من المقاربة بين رواية امجد توفيق وبين رواية الخطاب الاجتماعي,وعلى هكذا مقاربه لربما لانجد ثمة فوارق بين نجيب محفوظ وامجد توفيق الا من ناحية شكلية في المعالجة وناحية شرطية خاصة في توجهات شخوص الدراما المأساتية,وذلك نظراً لأختلاف القوانين والاعراف في نسقية المكتوب:وفي الختام اود ان اشير على ان رواية امجد توفيق هي عمل من اعمال الوضع المخيالي المهيمن في السرد,والتي لربما يجدها القارىء شكلا بوحياً ذات مؤشرات ومداليل تسعى الى الانتماء لمجتمع ناقص واحادي الجانب ,منحته الظروف البوليسية في العراق(عالم خيالي)بلا ادنى شرط للثقافة والتربية الخلقية الحقيقة.وعلى هذا اجدني أضيف لما سبق قوله لأقول مجدداً:ان حالة تسجيل وجهة نظري ارجو ان يسامحني بشأنها المبدع امجد توفيق وهذه وجهة النظر مني تحمل عنونة مصالحة مع عالم رواية القاص,وليست اشارة مني من شأنها مخالفة مستوى بناء اداة النص الروائي:اقول هنا بأن الرغبة في عملية تحريك منطقة المخيالية في صنع الحدث الروائي واجب وحتمية محفزة لتقويم كل حقيقة وواقعةادبية معطاة,لا ان ماهو غير متفق عليه من جهة,هو تحويل فعل المخيالية الى شبه تحريك وفبركة للواقع المعاين في النص وخطاب الواقعة المرصودة كحدث احتلال العراق من قبل الامريكان نموذجاً,ان ماقد اصبح شبه مفتعل في انتاج الحدث في رواية القاص,هو ذلك النوع من التحليق الموهوم مابين عملية ادلجة الواقع وبين عملية مسايرة الانتاج المخيالي في رصد وتسجيل الواقعة الحياتية,مما جعل امجد توفيق يغاير كل مفردات الواقع الحقيقي داخل فئة مسميات حلمية وغرائبية,من شأنها جعل من الفعل الخيالي داخل الانتاج النصي يبدو عملا مستحيلا لدرجة تحول الرواية مع شخوصها الى مجرد اشعاع مخيالي يقترب لحد المبالغة من خطاب وتفاصيل واقع يتداخل مابين المقروء المتحول والتماسية الواقع البعيد عن مفردة العيش الحقيقي والقراءة الحقيقية التي تركزت داخل ثيمة ومحور(فتنة المخيلة لاتؤول إلى إلتماسية جوهر الواقع).