22 نوفمبر، 2024 5:03 م
Search
Close this search box.

قراءة في (رماد السنين) .. التفرّد بالأسلوب وتنوّع الموضوعات

قراءة في (رماد السنين) .. التفرّد بالأسلوب وتنوّع الموضوعات

ينتمي الشاعر عدنان عزيز دفّار في تجربته الشعرية والتي سطعت تجلياتها في مجموعته (رماد السنين ) إلى فئة الشعراء الذين كسروا بتجاربهم الشعرية القيود الصارمة التي فرضتها قواعد الشعر المطبوع الغارق في الوجدانية لذا أعيد تشكيل الشعر ليكون أكثر جرأة في طرح القضايا الوجودية المهمة فلم يعد الشاعر يقف على بركة الخليفة إن صح التعبير ويصفها بل أصبح الشاعر الحديث هو من يرمي حجراً ليسجل التأثيرات الحاصلة على سطح الماء ويجد تفسيراً لكل صراعاته الحياتية سواءٌ كانت جوانية نفسية أو برانية مع محيطه ومنظومة العادات والقيم المتوارثة ، يقول الناقد الثوري بيلنسكي في كتابه (الممارسة النقدية ) : ( ليس فنّاناً من يدمدمُ بالشعر ، ويشيحُ عن نثر الحياة ، ليس فنّاناً من لا يستشعر الإلهام إلا في الموضوعات الرفيعة ، الفنان الحقيقي هو الذي يرى الشعر حيث توجد الحياة)* لذلك كانت مجمل القصائد في تجربة الشاعر الأخيرة تحمل في هيكلها العرفاني فلسفة الصراع الوجودي بين الشاعر وذاته وبين الشاعر ومحيطه من جهة أخرى فلم تعد القصيدة مجرد نفثات ذاتية بل منظومة معرفية من خلال ترجمة شفراتها نجد الكثير من المغازي والدلالات الخبيئة وراء إلتماعات المعاني القريبة الأولى التي تتشكل في أذهاننا بل في القصيدة وفي تراكيبها المكثفة والمختزلة نلمس معانٍ قصية تكوّن في مجملها قراءة شعرية لأحجيات وطلاسم الوجود:

التربة التي صُيّر منها وجهي

كانت أباريق فخار …

تمتلئُ بخمر التجاعيد

تترنّح السنون بعيداً

أسقط

أعاقر قدري ص64

أو النظرة العميقة التشريحية لمظاهر الوجود من خلال جعل المشهد المألوف متفجراً بفيض دلالي عندما تغادر المفردة الحياتية مرجعيتها القاموسية لتتحول في قصيدة الشاعر إلى رمز متوهج مكثف يختزل حقباً زمنية راسخة في المخيال الجمعي ليكون الرمز في أبعاده الدلالية متجاوزاً لمجالات التركيب الشعري ودلالته الحالية و يكون مفردة (الحفرة) نقطة ارتكاز لومضة الشاعر المكثفة والتي هي قصيدة مطوّلة ضغطت من حيث الحجم وبقيت من حيث الكم كما في ومضة (خنادق) :

كل الحفر…

الحفر التي اردتها قبورا للطغاة

صارت خنادق للثائرين ..ص57

لقد نجح الشاعر في تركيب الألفاظ ، ضمن النسيج الشعري فكانت التراكيب قصيرة ، مهدرجة وبعيدة عن الحشو والتكرار ، وكانت الجمل الشعرية توحي بقدرة الشاعر على توظيف مثل هذه التراكيب ، مستخدماً ألفاظاً سهلة الاستعمال ولا تحتاج إلى الشرح بل كان قاموس الشاعر اللغوي ينتمي إلى المألوف اللغوي لكنه ضمن معمارية نصّه الشعرية يرتبط بعلائق معقدة ضمن الوحدة الموضوعية للقصيدة فكل مفردة تؤدي وظيفة محفّزة في بنية النص ولها دورها المحوري خصوصاً المفردات التي تؤدي وظيفة رمزية وتكون مرتكزاً في نص الشاعر وتمتد في أبعادها الدلالية إلى خارج نطاق النص بما تحمله من طاقة إيحائية حاثّة وتكون بعض الألفاظ مراكز توليد للفيض الدلالي الذي ينبثق من النسيج المختزل والمكثف للتراكيب الشعرية كما نتلمّسه في قصيدة (الليل):

لليل رائحة الهزيمة ورطوبة القبو للنهر طعم المجرى ونكسة الهزال للملح زهد البحر للنهار احتضار النوايا للساحات عثرة الجسد للبيت قلق المداهمة للامس طعم اليوم للغد ضباب كثيف ونافذة معتمة ص7

أكد الشاعر عدنان عزيز في مجموعته (رماد السنين) بأن الأدب ما هو إلا تواصل واكتشاف مستمر يعبر عن قضايا الإنسان الوجودية وصراعاته الذاتية والمجتمعية فتخرج قصيدته من تأطير الذاتية وتتخذ تموضع جمعي لتكون القصيدة ذات مستويات متعددة من حيث القراءة وتنصهر فيها الكثير من التجارب المشتركة بين الجنس البشري وتتعالق مع ذاكرتنا وما فيها من خزين لتكون ذات أثر تحفيزي لتشكيل وجود ملموس خارج نطاق الحيز الشعري وتكوين علاقة حميمية بين المتلقي والنص لأنه يجد القصيدة ترجمة لما مرّ به فتكون المفردات مستحثات تنشط الذاكرة وتربطها بالدالة الماضية للمفردة وما تشكله التراكيب الشعرية من صور إيحائية كامنة في الذاكرة متخذا أسلوبا مميزا بالصراحة والوضوح ، فكانت اغلب قصائده ذات رؤيا رومانسية شفافة تتماشى والمرحلة الشعرية وبراءتها تدل بأن شاعرنا معبأ بخزين ثقافي واسع شكّل ذاكرته الشعرية وجعله يمنح للمفردة مضموناً دلالياً عميقاً وليس مجرد تأثيث شكلي تقتضيه الضرورات القاهرة للقواعد الصارمة للشكل الكلاسيكي بل بما تعنيه قيمة المفردة وخزينها المضموني وفق مفهوم الحداثة :

مقطع من قصيدة أشرعة الرغبة في ممرات جسدي العابثون المنكفئون يعرون الضريح الشمس تدق أجراس الصباح تتركني .. نميمة فراش أقضم الشهوة .. بكسل الأشرعة منتصبة والرحيل يدق الخطوات بمسامير أحذية ينهض الحزن المسن يحمل أسراره كفن ص14

في فن الأدب هناك مقاييس جمالية ، الانسجام ، الخيال ، الصورة البيانية ، تركيب الألفاظ ، وهذا ما يشكّل معمارية النص الشعري فلم يعد الشكل مجرّد وعاء يحمل الأفكار بل أصبح الشكل الشعري منظومة تراكيب ترتبط فيما بينها بعرى ووشائج تجعل منه هندسة تتكون وفق نتائج الفيض الفكري والرؤية للكينونات المحسوسة والملموسة وجعلها وجوداً ملموساً تعطي للعمل متعة وتأثيراً لدى المتلقي فالبعد الجمالي للنص يتجلى أول وهلة في بنائه الشكلي ومدى الانسجام الهارموني سواء كان وفق مفهوم التضاد أو الترادف وما تؤديه من وظائف تحفيزية

كما جاء في القصيدة ( لذة الاكتواء ):

دع لذة الاكتواء رغبة تقبيل الصفيح وحبالها تشد المراكب في ليل العاصفة عيناك فراشتان يطاردهما الضوء في حجرة الفانوس التي تصنع من بقايا أظافرها توابيت ورقية الضفاف المترامية كانت حلتها ص18

على الرغم من حضور الوعي الدائم للشاعر بقضاياه الوجودية وتفاعله مع واقعه لكنّ ذاته وأناه كانت تتجلى في بعض قصائده فقد جعل القصيدة مرآة لذاته ( الأنا ) كقضية وجودية فردية يتجسد فيها بحث الإنسان الدائم عن علل وجوده وصراعاته والأسئلة التي تحتشد في عقله الواعي والباطن كما جاء في قصيدة ( الأنا ):

قبل أعوام .. كنت أنا وبعد أعوام أصبحت أنا ولمّا رغبتُ أن أعرف من أنا لم أجد وجهي في المرآة ص30

وأيضاً هناك جهد واضح يبذله الشاعر لتأكيد الذات وصراعاتها بما يجعل التهديدات الوجودية التي تتوعد هذه الذات بالمطاردة والموت وهو ما يجسد صراع الإنسان مع المجهول الغائب وهذا ما نلمسه في قصيدة ( اغتيال ):

احدهم يصوب نحوي يقتفي اثري ! يطاردني .. يقتادني نحو الظلمة ثم يختفي فجأة ! انه ظلي ؟! ص26

مما يلفت الانتباه سواء كان نابعاً من قصديّة الشاعر أو من الاحتشاد التراكمي في ذاكرته الشعرية التي تكوّنت من تراكم الكثير من المشاهد والمفردات التي اختزنت في أعماق الذاكرة ليغلف الشاعر تفاصيل حياته اليومية (بمعادلات موضوعية ) لا يصرح بها بل يضع إشارات رمزية تكون مدركة ي الوعي الجمعي كـ ( السرير والتفاحة والحجرة ) وهذا يجسّد خيالا خصباً عن طريق انفتاح القصيدة فنيا ونفسيا لا تحدها قوالب جاهزة ، كما يتجه الشاعر إلى التعبير عن قضية الإنسان متخذاً في ذلك أسلوبا منغمسا بالوضوح معوّلاً على الرمز كمنبع لإرواء قصائده بأبعاد فنية ودلالية تعبر عن كم دلالي يقود له الرمز ويوحي به كما تجلى ذلك في قصيدة ( أحلام زوجتي):

بعد كل تفاحة نقضمها على السرير كانت تروي لي حلما كلب ضخم بحجم ثديها يجول في الدار يطارد أبننا الأصغر تبكي وتصرخ لا احد يسمع استغاثتها في الصباح كانت تلومني وتضرب على صدري .. تلومني لأنني لم أكن الفارس الذي هب لنجدتها ويمضي اليوم يطوي خطواته ليلحق بالمساء

كما تفعل الريفيات بطي بساط المضيف ونحن نفتش الغرف بحثا عن الكلب الذي أزعجها همست أمي .. تنصحني ابحث تحت السرير عن عاشق داهمنا فجرا .. وعدت اضحك في سري لأننا قبل برهة قضمنا التفاحة الأخرى على أرضية الحجرة .. ص73/74

لقد تجلّى في بعض قصائد الديوان تفاعل الشاعر مع الموروث سواءٌ كان دينياً أم شعبياً من خلال ما اختزن في ذاكرته الشعرية فالتفاعل النصي (التناص) الذي يجعل النص الشعري يحمل بعض الإشارات السيميائية المتوهجة التي تضيف دفقاً للقصيدة وتكون بمثابة خلايا مركزية تختزل الكثير من الترهل والإسهاب وتجعل النص متعدد المستويات القرائية وترتبط هذه الإشارات بقنوات إيحائية في ذهن المتلقي كـ( الذئب في قصة يوسف / وقميص يوسف ) وما تعكسه هذه القصة من تجليات تشترك مع تجربة الشاعر ليكون النص فسيفساء شعرية ترتبط جذوره بجيلوجيا المفردة وانتمائها للماضي وكذلك تجليات قصة النبي موسى وتوهج إشاراتها السيميائية لتفتح فضاءات إيحائية تتجاوز المجال الدلالي للنص فالشاعر في قصيدة ( عقرت قلبي ) استثمر رمزية قميص يوسف وعصا موسى لإنتاج دلالات شعرية ، بمعنى آخر ان الشاعر استثمر مثل هذه المناسبة خدمة لاسترجاع شعري خطط له دلالات على ان تنطوي على وعي شعري خاص جاء فيها:

عقرت قلبي .. فعوى الذئب .. وبكى أخوة غدروا ومضى يبكي قميص قد بالهوى فما شعروا ص19

إن الإبداع هو عملية خلق هادفة للخامات التي يتفاعل الشاعر معها ويجتلبها من خزين ذاكرته الشعرية ويعيد صياغة موادها الأولية النثرية في صور لفظية تتوافق مع الحالة الانفعالية الآنية للشاعر و لمّا تحمله بعض المسميات التاريخية من سيميائية عالية وما تمنحه الحادثة من مستويات دلالية على طول امتداد النص وإن لم تكن تتطابق مع القصة التراثية لأن الشاعر يجعل من المادة الخام للحدث التاريخي تشكيلاً يتوافق مع حالة الشاعر من خلال كسر التوقّع لدى المتلقي بتقابلية بين ماضي الفعل الحاصل (الأفعال الماضية ) في بداية التراكيب الشعرية والناتج المخيب بـ(الأفعال المضارعة) التي تعكس آنية الحدث في حياة الشاعر وصورة لواقعه :

اقتفوا اثر نبي شاء الرب ألّا يعثروا… فمضوا في أثر المحب فرعون فكان البحر قد خيب الأمل ضرب بالسيف فلم ينبلج البحر

وتذكروا انه ليس موسى ذلك الأمر يفعل ومضوا يستعيرون كل أعجوبة فما كان منهم نبي ولأقدر ص19/20

لقد كانت بعض قصائد الشاعر تعجّ كما يصطلح عليها النقاد ( ضوضاء الحياة ) ليكون الشاعر من خلال بعض تجاربه الشعرية في الديوان متفاعلاً مع واقعه وحاملاً لهمومه وغير منفصل عنه بل يتصدى الشاعر للكثير من قضاياه الاجتماعية وينقل لنا بموشور الشعر الذي يعطي لتفاصيل الحياة ألوانها المتعدّدة ويكون هو كما هو كتجسيد لمقولة أرسطو في كتابه (فن الشعر ) (( الشاعر هو الشاعر )) فعدنان عزيز دفّار كان متماهياً مع قضايا أمته وانعكاساتها عليه فهو موجود ضمن هذا الكم الجمعي مؤثّراً ومتأثّراً بما يحيط به ولعل ذلك تجسد في بعض القصائد كقصيدة ( الفم ) التي جاءت بخاصية مميزة في عملية الصياغة الفنية للقصيدة .. اعلان العجز وعدم القدرة على استيعاب هموم الإنسان المعاصر:

تقلقه دحرجة العملات المعدنية نحو جيبه المفلس

مطارداً ينتظر هدنة الرصيف المتوحّش

الذي قضم أطراف ثوبه

توحشاً .. يطارده في غمرة الهذيان كلبه

الذي يختفي تحت جلده

يمسح نعليه بالخطى هرباً

ممزقاً يفترش الصفيح كسرير عاشق

تلفه رايات اليأس كطريد ص60

أو كما تجلّى في قصيدة الشاعر (أطراف الليل ) التي عكست مدى تفاعل الشاعر مع حالات أبناء مجتمعه وصراعاتهم وتكون تراكيبه انعكاس لواقع يعيد تشكيله الشاعر وفق مقتضيات إحساسه بالحالة الوجودية وانفعاله معها وما تركت فيه من أثر من ثمّ تكون الحالة المجسدة في القصيدة ذات تأثير بالمتلقي :

اطراف الليل

على اطراف الليل المتشح بالسواد

رجل … يداعب مسبحة

واقف على مدخل مدينة ..

يتامل نجمة الصباح الفضية المتلألئة

بانتظار من يدعوه للحب ..ص89

عندما يستطيع الشاعر من إيصال مشاعره وانفعالاته أزاء قضاياه الذاتية والإنسانية ويتفاعل معه المتلقي هنا تكمن سطوة الشعر الوجداني من كون القصيدة تنطلق أو تتولد من تجربة ذاتية لتصبح ذات بعد جمعي يتشاكل معها تيار الوعي عند القراء الذين يفهمون لغة الشعر المكثفة ويبصرون توهج رموزه المأتلقة في فضاءات القصيدة فالشاعر هو من يبحث عن شكل أمثل ليحتوي المضامين الإنسانية والفردية بما تتكون من جزيئات ألا وهي المعاني التي

تحدث في المتلقي انفعالاً ينتج منه موقفاً تجاه النص وما يحمله من مضامين تلوح في تجلياتها مفردات الواقع وترابطه الزمني بالسابق واللاحق كما تجلّى في قصيدة (ذاكرة الطين) :

حائط مغطّى بشخابيط كتبت بلغة الأمس

نافذةٌ يحيط بها لون أزرق كلون البحر

ينظر من خلالها

يترك أشياءه الصغيرة مبعثرة على التلة

المطلة على ساحل طفولته

يترنم بأغنية قديمة لا أحد يفهمها

صغاره الذين يلتفون حوله

في محاولة لاصطياد دراهم

تغذي مصروفهم اليومي

يهرعون إلى الدكان الذي يشق جيب حائطهم ص75/76

لقد كانت المجموعة الشعرية (رماد السنين) تجربة شعرية لنقل رؤى وتساؤلات الشاعر حول قضايا وجوده المصيرية وتشريح عميق لتفاصيل الذات البشرية حيث الشعر يسبر أغوار الذات الشاعرة والمستشعرة لدبيب إيقاع الحياة ويعيد تشكيل هواجسها وانفعالاتها ومواقفها أزاء وجودها الجواني والبراني وما ينتج عن هذا التفاعل من حلقات صراع تسبق النص وتنفث وهج الشعر المقدس في هياكل منحوتات اللغة الساكنة مفرداتها قاموسياً لتنبعث بوجود شعري جديد وبعلائق ودلالات ضمن فضاء النص الشعري فيكون الشعر مرآة عاكسة لتنوّع موضوعات حياتنا وتفاصيلها بمعمارية نص شعري يكون الشكل فيه ليس وعاء للمضمون بل عنصراً فاعلاً في صياغة فضاءات الإيحاء بأسلوبية تنم عن وعي عالٍ بقدرة الرمز والمفردة في أداء وظائف إيصال المعاني والتي تخرج عن إطار النص الشعر لفضاءات دلالية متعددة …

ديوان (رماد السنين ) يقع في 103 صفحة من الحجم المتوسط صادر عن دار الينابيع في سورية

أحدث المقالات