(بين انتخاب الذات وتضخيم الانفعال )
لم تعد مسألة الكتابة الشعرية تقتصر في كونها قضية علاقة لغوية بقدر ما ترتكز في كونها اشكالية علائقية وعضوية بين جملة مستويات استجابية رؤية وابداعاً وتلقياً ، او على مستويات الاستجابة رفضاً اوقبولاً ، وذلك لكون الكتابة في القصيدة اضحت للنقد اليوم كمفهوم انفصلت من خلاله حدود الوقت وافاق الجزئية ومنظومة المرحلي مما جعل القصيدة خطاباً كلياً وشمولياً يتساوى من خلالها الماضي مع المستقبل والعلاقات مع التوقفات والانفصالات ، وهذا امر ليس بالصعب تقريره، لا سيما ونحن نطالع ديوان قصائد ( قربان الشمس ) للشاعر عبد الرزاق صالح ومن ثم فأن قبول هذا الديوان لربما يعد معضلة مفهومية خاصة وان ما فيه من قصائد قد اتسمت بطابع من المصادرة ونمو وانتقال الزمن دون نمو الدلالة العضوية ثم عدم رسم الاشياء داخل رؤية وحدوية في الغالب ، ولعل من يقرا منا مثل هذا الكلام يقول ان من شروط كتابة القصيدة هي اولاً الذاتية وبعدها المفهومي ، وعلى هذا فاننا بدورنا نجيب على مثل هكذا مساءلة وبالقول العريض ( نعم هذا صحيح ؟) من ناحية اذ كان النص ذات توجهات تقترب من اتون المشترك الملفوظي البحت ، اما اذا كان هذا النص من ناحية اخرى شكلاً على درجة من درجات التقلب الخطابي فأن هذا النص يكون عرضه لحالات عديدة من ذاتية الشاعر نفسه ، هذه اولى تجلياتنا مع ديوان ( قربان الشمس ) من حيث واقع المفهوم كواقع نصي وفردي ، وعند الدخول لقصائد الديوان نجد بان هناك ثمة تحولات يمر بها النص تتطلب من الشاعر مهارات تفوق مستوى ما عند الشاعر حالياً ، وذلك لان ادوات ورؤى القصيدة في هذا الديوان تتطلب من الشاعر اقتناصاً مديداً الى تقنية انتخاب الاقنعة والاصوات والشفرات – فمثلاً – نقرأ ماجاء في قصيدة ( غرناطة الداء والدواء ) :
هل ظمأ القمر في ليلك يا غرناطة ؟
فالجياد العربية كبت تحت قصورك الحمراء
في ليلة حالكة السواد
هل ظمأ القمر ؟
اعرف ان القمر في ليل المحرومين
يتكلم لغة غير لغة الحب : ص74
ان عبد الرزاق هنا اقرب الى حالة الذي لا يعرف الوصول الى مكان كان قد تصوره ودرسة وعند التقرير في الذهاب اليه اضحى ضالا في شوارع التيه ، ان الشاعر لربما هنا قد اساء استخدام مدلولاته فرسم دواله خطوطاً مهجورة بلا رؤية او مفهوم – فأنا لا اعرف – ما مدى التقارب بين ( الجياد العربية ) وبين عبارة ( ليلك يا غرناطة ؟) ولعل الشاعر من جهة ما اراد ان يصور للقارىء مكنونات قناعة ذاتية وشخصية فقط
مبعثها محيط الشاعر وحده ، كان على الشاعر حتى يبلغ مراده لا بد من ان يستعين بروى تناصية ما ، حتى يكون له كل الثقة في انجاح تصورات مشروع قصيدته :
لا تستقري فحياتك ارجوحة
للبقاء
ثمة قلب صغير يدق دقات رقيقة
وعندما تحملين يتطاير الفرح
لا تحزني بل لا تكذبي
حين تكون هناك فرصة : ص30
ان القصيدة احياناً لدى عبد الرزاق اشبه ما تكون بمعادلات بحاجة الى تعاريف جديدة واشكال توزيع جديدة ، كما وان هناك حاجة كبيرة الى سبر اغوار افكار القصائد التي طالما اخذه يكتبها الشاعر بحس واجواء شبه متوحدة داخل غياباتها واوجاعها ، الا انني وانا اطالع بعض قصائد الديوان لاقت اهتمامي قصيدة ( الفتى المجهول ) :
عارية كالخيول
عائلة تسبح في فلك مجنون
تبحث عن اب غطى كل خروقات التاريخ
وحرق قلباً وكتباً في تنور البيت المهجور
فيا ايتها السحب الداكنة
هل مر بين اطيافك فتى
غادر من زمن نحو نجوم تشظت
قرب الشمس السكرى ؟ : ص64
وتتوالى عناصر التفريع لهذا المعنى عبر جملة قصائد الديون والتي تراوحت بحس ملحمي مجرد ، بيد اننا نرى التكثيف الشعري في قصائد الديوان قد لاح متوخياً مساحه تتيح لحشد صور القصائد انفعالات بعناصر دالة ومعبرة ، فيما نجد بأن التناغم الكمي بين نصوص الديوان قد امتلكته مساحات قلقة في تشييد معالم الدلالة الشعرية ، واعطاء ملامح واضحه لتفاصيلها وعمقها بحيث تند عن خطابية الصوت الواحد ازاء مواقف شعرية تأخذ نتائجها صفة الثبات الدلالي احياناً ، وعلى هذا فأن محورية قصائد ( قربان الشمس ) تبقى وفق مسار يوائم بين اجزائها لتكون بمجملها معبرة عن تجربة واحدة تمتلك خصائص انتمائها للزمن والمكان والى ذات الشاعر :
كطفل ينمو في احشاء الليل
هذا كانون الاول
يسري في جسدي برداً
تتجمد فوق جدران الصوت
الكلمات والناس حولي قامات : ص80
اننا نلاحظ من خلال هذه الاسطر من القصيدة ، كما لو كنا ازاء لغة شعرية اختارت بين ( انتخاب الذات ) وبين مكابدة ( تضخيم الانفعال ) انها لغة طافحه بالعواطف المكبوتة والمعانات الدفينة المشوبة بشيء من
اعماق شعرية ( التصايح : الظمأ : السجان : الاسلاك المكهربة : والنواح : وتناثر الموتى ) فأي صورة اشد قتامة مما تصوره هذه اللغة الشعرية التي تقطر يأساً وتكتظ حزنً : غير ان ما ينقص شعرية عوالم عبد الرزاق صالح فيجعلها تلامس الشعرية في ادنى تجلياتها ، هو غياب وجود مدلولات تبهر القارىء وتشده اليها شداً وتسر ذوقا ، غير اننا في الوقت نفسه نعترف للامانة الادبية ، بأن لهذا الشاعر منتج شعري وثقافي مما يجعله متفرداً في وجوده الانتاجي ، فهوا ايضاً متواصل ثقافياً وصحفياً ، رقيق اللغة ، فائض الاحساس كما ويحمل في قريحته بركاناً شعرياً لو ادرك كيفية كتابته وتوظيفة ، لاصبح بهذا عبد الرزاق على تماس مع اكبر التجارب الشعرية في الساحة الثقافية البصرية ، من هنا نعود الى ماقلناه قبل قليل من ان عبد الرزاق صالح شاعراً يزداد عناية لقصائد ( قربان الشمس ) على اساس من اسلوب ( تضخيم الانفعال واتنتخاب الذات ) وهذه الطريقة بدورها هي ما جعل اساليب الكتابة في هذا الديوان تبدو على اساس من جملة فواجع وتحولات وكيفيات ذاتية : وختاماً اود توجيه خطاباً ما للصديق عبد الرزاق صالح من باب الود والمحبة التي بيننا : ان كتابة القصيدة وانجاز العديد من الاعمال الشعرية المطبوعة في ارقى دور النشر ، لربما لا تصنع نصاً ابداعياً بالضروره ، فأنا شخصياً أميل الى قصيدة قد نشرتها ايام الشاعر ( محمد تركي النصار ) في مجلة اسفار اكثر مما اجده في نفسي من اهتمام ورغبة واعجاب بكل ما قد انجزته من اعمال شعرية مطبوعة موخراً ( فيا صديقي العزيز ؟ ) هذه الشاعرية في اعمالك الاخيرة ما هي الا امكانية دوال عائمة وسياقات جنينية افرغتها ثمرات وخلوات عصور ولحظات الحرمانات المادية والعاطفية والقيمية ومستويات اهات الجوع الادبي لديك ، اذن نحن اليوم امام ثقافة غياب النص وحضور المطبوع الذي فرضته مكتسباتنا الانفعالية وليس مكتسباتنا المدروسة او الموهوبة ، ومن هنا اتمنى فقط ؟ ان لا يؤخذ كلامي هذا تطاولاً او حسداً بالاخرين ؟ بل ان كل ما اود قوله للشاعر الصديق والى غيره من الاصدقاء الادباء ، من ان حالة ترقي تلك النصوص داخل تنضيدات تلك المطبوعات قد لا يتيح لهم في الاخير سوى ثقافة البومية تفيدهم لدعم وتدوين امجاد يومياتهم الشخصية داخل المقاهي وصالة مبنى اتحاد الادباء . وعلى هذا فانا ملزم بتذكير
الصديق عبد الرزاق على مراجعة ما قد ضمته طيات تلك الدواوين الشعرية المطبوعة كما وان يقارن بين ماقد كتبه سابقا وبين ما تضمه رفوف المكتبات البصرية من تراكم طباعي . فانا شخصيا ارغب في مساءلة هذا الصديق مثلا ؟ هل يستطيع بعد كل هذا الانتاج فرز وانتخاب النص الابداعي عن النص اللابداعي في تلك الاعمال الشعرية لديه ؟ ثم هل كل ما قد كتب هنا او هناك هو فعلا من الشعر او اللاشعر ؟ وعلى اية حال انا اعرف بان هذا الكلام سوف يؤخذ بمحامل شتى وتعاريف عديدة وتفاسير تصل الى حد العهر باسمي الشخصي ووضعي المقالي هذا ، الا انني مع وجود احتمال كهذا ، اقول للشاعر الصديق ، بان كل ما قد اصدره من اعمال شعرية وثقافية لربما سوف تشكل مدخلا ونموذجا يحمل امكانات قوالب نصوصية تساعد في اقامة دلالات القصيدة وليس الشعر فيما سوف يظل القارئ لقصيدته يتلقاها لينفعل من خلالها ثم يرتكز على الانفعال لمحاولة كتابة وقراءة وتنمية الوجدان الذاتي في صناعة القصيدة .