23 ديسمبر، 2024 9:08 ص

قراءة في ديوان الشاعر : فاضل ضامد – المعنون (( وشمٌ في ذاكرة الملح )) .

قراءة في ديوان الشاعر : فاضل ضامد – المعنون (( وشمٌ في ذاكرة الملح )) .

المقدمة :

يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنا بدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ ما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصور أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصد الأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّد الأبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث والأشياء في الذات الأنسانيّة . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .

تجلّيات اللغة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

1- الخيال في القصيدة السردية التعبيرية

اعتقد قد آن الاوان ان نتحدث عن القصيدة السردية التعبيرية , هذه القصيدة التي تحاول الانفلات من تبعية قصيدة النثر والانعتاق من ارثها والانطلاق في محيط خاص بها وبعيدا والتحليق عاليا في سماوات مشرقة .نحن نعلم جيدا بان اول المرجفين والمشككين بالقصيدة السردية التعبيرية سيكون اصحاب القصيدة العمودية , سيتهمونها بتشويه الذائقة وما اعتادت عليه الاذن من موسيقى ووزن وبحور الخ . ونعلم جيدا للآن هناك صراع ما بين قصيدة النثر والقصيدة العمودية , ونعلم ايضا بان هذا الصراح سيستمر , فكيف اذا جئنا بالقصيدة السردية التعبيرية !! .

ان ما حققته قصيدة النثر عجزت قصيدة العمود عن تحقيقه , فلقد جاءت بلغة مغايرة جعلت الكثير من شعراءها يغادرونها الى قصيدة النثر والابداع في كتابتها بطرقة مذهلة . واليوم ظهرت القصيدة السردية التعبيرية بلغة العاطفة القويّة وخصوبتها وحسن عرضها وتجانسها , والمشاعر العميقة الصادرة من القلب والغازية له من اوسع الابواب . هذه اللغة المشحونة بالعواطف القويّة تحرّك الاحاسيس لدى المتلقي وتحيّ شعوره بالجمال وتغذي النفس بالمتعة والدهشة . هذا الكمّ الهائل من المشاعر والاحاسيس والعواطف مصدره الشاعر , لذا فعليه ان يبثّ عاطفته العميقة وشعوره الفيّاض في اسلوبه وفي نفس القارىء والمستمع , وكلما كان صادقا في مشاعره وعواطفه كان اكثر قربا من الجمهور . يقول ( انيشتاين ) انّ الخيال اهم من المعرفة وهذا يعني بان الخيال بالنسبة للادب هو مفتاح العاطفة وانه اشبه بالمستودع الذي تستمد منه قوى النفس مادتها الاولية . لذا على الشاعر ان يمتلك خيالا خضبا منتجا يجعلنا نتلمس المشاعر ونتصورها شاخصة ملموسة نتحسسها ونتشمم عطرها :

فهناك خيال بسيط وهو ما تدركه الابصار وحاسة البصر , وهناك الخيال المركّب عند الشاعر الذي يستطيع خلق صور عما يشاهده او يقرؤه او يحسّه صورا لا عهد لنا بمثلها نقف عندها تصيبنا الدهشة , تعمل على اثارة العواطف وتمنح القصيدة حياة متجددة , وتشويقا يجتذب المتلقي اليها , وكلّما كان الخيال خصباً كلّما كانت صور الشاعر برّاقة ومشوّقة . وبالعودة الى ديوان الشاعر , سنجده يطفح بهذا الكمّ الهائل من الخيال الخصب والذي يجعل المتلقي يقف بخشوع أمام أمواجه الهادرة , والدليل عنوان الديوان / وشمٌ في ذاكرة الملح / هذا العنوان الذي أختزل كلّ جماليات اللغة السردية التعبيرية , هذا الباب الذي من خلاله سندخل عوالم الشاعر الزاهرة على الدوام بابداع فذّ ومقدرة عالية على تطويع اللغة وإعادة صياغتها بطريقة ابداعية جديدة وإلباسها لباس الواقع وأنصهارها عبر تشكيلات فنيّة تجعلنا نقف بخشوع وبـتأمّل عميق لما جاء به الشاعر . ففي نصّ / سخام في الأروقة / نجد حرص الشاعر على رسم لوحاته الشعرية بطريقة فذّة مستعيناً بما يمتلكه من خيال منتج , / في الخزعبلات تجد الخيول بلا ظلال النساء يرسمن وشماً على أحلامهن الصغيرة يضفرّنَ السنابلَ للقيامة
يحرقّنَ البخورَ على السواقي للحراسة من الماء الاسود / . وفي قصيدة / دقيق مترف الاخضرار / نجد هذا الخيال كيف شكّل لنا هذه اللوحة الزاخرة بكلّ هذا الجمال / أنتفُ عقاربَ الوقتِ من ريشِها حتى يظلُ اللدغُ مرهوناً بعددِ الاصابعِ أحركُ محراثَ الزمنِ على أرغفةِ المكانِ لينبشَ في داخلِها دقيقاً مترفاً لقمحِ البقاءِ أنضجُ مع الحصادِ سنبلةً بغرتِها العجوز ليبقيها المنجلُ تحت اظافرِه ألماً يحزُ اسنانَه المُهلِكَة / . انّ المتلقي سيجد في هذا الديوان وعياً مارسه الشاعر اشبه بالحلم في لحظات الواقع , فلقد استطاع أن يحرّك كلّ كائناته وإدخالها في علاقات غريبة لم نألفها في واقعنا , لقد أستطاع الشاعر أن يسخّر كلّ طاقات خياله معبّراً عن مواقفه وعن الذات الشاعرة وبثّ الروح في نسيجه الشعري .

2- البناء الهندسي في القصيدة السردية التعبيرية

جميعنا يعلم بانّ هناك أربعة أشكال من الشعر وتكون هندسة القصيدة فيها كما يلي :

أولاً : القصيدة التقليدية ( العمودية ) وهي تعتمد على الوزن والقافية وبقية تقنياتها وتكتب بالطريقة العمودية .

ثانياً : قصيدة التفعيلة وهي التي تعتمد على عدد من التفعيلات في السطر الواحد ولا يلتزم بقافية واحدة .

ثالثاً : القصيدة الحرّة وهي التي تتخلّى عن الوزن والقافية الموحّدة الا انها تشترك مع القصيدة العمودية شكليا من حيث التشطير وتوزيع الكلمات بطريقة معينة وترك الفراغات والنقاط والفواصل والتوقفات فيما بين فقراتها .

رابعاً : القصيدة السردية التعبيرية وهي التي تكتب بطريقة النثر الواضح حيث لا تشطير ولا وزن ولا قافية موحّدة ولا فراغات ولا فواصل او سكتات بين فقراتها , تكتب على شكل فقرات متواصلة وربما متداخلة مع بعضها البعض ومن خلالها ينبثق الشعر وتتفجّر طاقات اللغة وهذا مايسمى بـ ( النثروشعرية ) حيث ينبثق الشعر الكثير من النثر . تعتمد على بناء جملي متواصل كما هو في النثر , من دون سكتات و لا ايقاعات و لا فراغات و لا تشطير و لا تسطير, و هي جمل متداخلة ، الا انها متداخلة بطريقة متوحدة ، فهي تقع بين الفقرة و الجملة , ان هندسة القصيدة السردية تتخلّل فقراتها ( الفارزة الواحدة او النقطة الواحدة فقط – , / . ) . انّ جميع النصوص في هذا الديوان جاءت نموذجية وعلى شكل كتلة واحدة متماسكة , وهذا نموذج واحد يبرّهن لنا على ذلك / أنَّ …عصفور الجنان / تصور ان هذا الامتلاء يمنعنك أن تضع كلماتك الحزينة وأن كل هذا العنف يمنعك أن تسطر جملة واحدة على الارصفة العتيقة مثل شمعة شاردة بنورها لشهيد تذوب ولا تنتهي هكذا علمتنا الشوارع أن اكتنازها بالرياحين أكبر من أن تقال بقصيدة وأي خيال يتوقف عند رصاصة غانية لتقتله يالبأسه العجيب لايبرد طاحونة قمح للعصافير والنحل والارض حتى السماوات تخلت عن مذهب الغيم فأنجبت مطرا من دم. / .

3- الرساليّة في القصيدة السرديّة التعبيريّة

الأدب رسالة انسانيّة , والرساليّة مهمة في الشعر وقد تكون رسالة جماليّة فنيّة أو رسالة اجتماعية , فالرسالة الجمالية الفنية تعني الغوص في تجربة الشاعر عميقا بينما الرسالية الأجتماعية تعني كل ما يكون خلف النصّ من رسائل وبوح . وتظهر ملامح الرساليّة الأجتماعية بأشكال مختلفة كـ / البوح التوصيلي / والبوح الأقصى / والبوح التعبيري /.

انّ البوح التوصيلي نعني به التوصيلية الأمينة وطلب الخلاص وذات رسالة واضحة , ونجد ذلك في هذا النصّ / نريد وطن.. ألواني تهتف / حين خبأت اللون عن لوحة دون أخرى تزاحمت كل الخيالات للوصول الى الفرشاة كي أبذر ألواني على القماش الأبيض كان الطريق موحلا بالأفكار وأن كل الشجيرات يندبن حظهن هذه المرة فلا مناظر طبيعية فالمزاج غائم وأبليس الأهمال يتراقص على الغواية كي<span lang=”AR-SA” dir