إستبشر الشعب الايراني خيراً بالاتفاق النووي الايراني مع امريكا والغرب عام 2015 وكما سوَّق وروج له نظام الملالي حينها, والذي تضمن رفع العقوبات الاقتصادية وحظر تصدير النفط مما سينعكس بالإيجاب على تحسن الوضع الاقتصادي وعلى حياة المواطن البسيط والذي كان يشكو الأمرين من الحالة المعاشية المتدنية كأولوية انسانية للعيش بكرامة, وايضا من خلال رفع الحظر عن الأرصدة الايرانية المجمدة لدى البنوك الامريكية والغربية, وقد كان, والتي ستصب في نفس الهدف . وانتظر الشعب ولم يطل به الإنتظار ولم تتحسن الحالة الإقتصادية وكما وعد النظام بل صارت أسوا مما كانت عليه قبل الاتفاق .
إكتشف الشعب الايراني ان سعي النظام لإحياء حلمه التاريخي المريض لإعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية قد أتى على الاخضر واليابس من قوت الشعب وإقتصاده . وهنا ثار الشعب وإنتفض ضد النظام نهاية العام الماضي ولايزال, وجوبه ولايزال وكالعادة بالقمع ومصادرة الحياة والحريات .
الفساد المستشري والذي يصب في صالح الطبقة السياسية الدينية الحاكمة هو جانب اخر من المعادلة والتي قسمت المجتمع الايراني الى ملاك وإقطاعيين وتجار وسماسرة ومتنفذين, والى غالبية شعب مقهور ومطحون تحت رحى الفقر والعوز, ناهيك عن حق الحرية والتعبير والتي صودرت منذ قيام الثورة, وهو واقع قريب االشبه لسلطة حكم الكنيسة ورجال الدين في أوروبا قبل قرنين واكثر .
ترامب ولحد الان حقق كل وعوده الانتخابية للشعب الامريكي وللعالم, ومن بينها الإنسحاب من الإتفاق النووي والذي كان يعتبره كارثة حقيقية ككارثة غزو العراق, والسؤال الآن ماذا سيفعل نظام الملالي بصقوره وحمائمه أو بجناحيه المحافظ والمعتدل كما يطلقون عليه ؟
المعتدلون وعلى رأسهم رئيس الجمهورية حائرون وينتظرون الموقف الاقوى وصاحب القرار الاعلى ” المرشد الأعلى, ولكنهم ان تحركوا فسيتحركون صوب ديبلوماسية ناعمة, صوب المجتمع الدولي لكسب الوقت ولإعطاء فسحة من الوقت للجناح المتشدد ليلملم شتات نفسه من أثر الصدمة, من خلال الذهاب الى لجنة الشكاوى الخاصة بالإتفاق وهي تضم نواب الوزراء الذين وقعوا على الاتفاق ومهما سيحصل سترفع تقريرها الى مجلس الامن حسب القرار 2231 والمتعلق بالإتفاق النووي, وطبعا سيكون الفيتو حاضرا . وهذا كله في حقيقته هو كسب للوقت من الجانب الايراني وربما سيكون من دون طائل في ظل التعنت الايراني إن إستمر, الموقف الايراني بجناحيه متشددين ومعتدلين ماهو إلا تبادل للأدوار عقيم .
أيران لم تقترب يوما من مصالح إسرائيل وامريكا في المنطقة وبطريق مباشر وهي حقيقة ولكن اسرائيل تبدي تخوفها المزمن من قدرات ايران الصاروخية والنووية رغم ذلك ورغم كل التفاهمات بينهما خلال العقود السباقة والشواهد كثيرة .
خيالات المتشددون المهيمنون على مقاليد الحكم في ايران محدودة, فهم يهددون بمتابعة عمليات التخصيب لإمتلاك أسلحة نووية في أقرب وقت, أو ربما سيذهبون الى التفاوض بعد أن ترك لهم ترامب الباب مواربا للتفاوض بشان تعديلات على الإتفاق تمنعهم من إمتلاك سلاح نووي وبشكل قاطع لا لبس فيه, وكذلك الحد من تطوير قدراتهم الصاروخية والتي تهدد جيرانهم, هذا على الجانب العسكري أما على الجانب السياسي فلا بد لهم من تغيير سياستهم التوسعية خارج حدودهم الجغرافية وإيقاف التدخل والتمد نحو جوارهم العربي, والتي تمثل تهديدا مباشرا على الحلفاء في منطقة الخليج العربي, وكلا من الأمرين يحتاج الى جهد ووقت لتنفيذه, وهو أمر يتطلب تنازلات جوهرية في توجهاتهم الآيدلوجية وهي نفسها التي تعطي النظام ديموته حسب نهجهم .
وربما لن تتنازل ايران ورغم كل المخاطر التي توواجهها وستستمر في سياستها التوسعية وتتابع مواصلة العمل في مفاعلاتها وعمليات التخصيب وهو أمر ليس ببعيد عن التعنت وقصر النظر الذي سيطغى على هذا المسار وسط هذه الظروف القياسية والخطيرة , وهنا قد يتسائل البعض ربما يكون هذا هو الهدف الذي تبغيه أمريكا ليكون سببا مباشرا في دفع قوى إقليمية لامتلاك سلاح نووي وهو ما صرح به ولي العهد السعودي مؤخرا خلال زيارته لامريكا وقال انه في الوقت الذي ستمتلك ابران سلاحا نوويا سنسعى لمثل ذلك وفي اسرع وقت, وهو أمر منطقي لخلق توازن القوى في المنطقة, المملكة العربية السعودية كما نعلم تمتلك كل الامكانات اللازمة لتحقيق مثل هذا الهدف, ربما يرى البعض هذا السيناريو ليس ببعيد عن عقلية التاجر المتجول التي يعالج بها ترامب سياسة بلاده الخارجية .
ولكن هل ستقف اسرائيل امام هذا السيناريو الذي يهدد وجودها من خلال تفردها النووي في المنظقة موقف المتفرج ؟ وهل ستبادر الى ضرب المفاعلات الايرانية وكما صدعت رؤوسنا من خلال تهديداتها المتكررة طوال العقدين الماضيين ؟ هنا لابد لنا من وقفة للنتامل الموقف, فالتكنولوجيا النووية الايرانية هي تكنلوجيا روسية وبمساعدة كوريا الشمالية وربما الصين, فهل ستقف روسيا موقف المتفرج امام رغبة او محاولة اسرائيل تدميرها, وكما فعلت فرنسا في مفاعل تموز العراقي, لابد ان نتذكر الموقف الفرنسي “المتفرج” بل وربما المساعد لاسرائيل من خلال المعلومات والخرائظ الفنية والجيوسياسية التي زودت بها اسرائيل لتسهل عليها عملية تدمير مفاعل تموز العراقي دون ادنى خسائر, ربما لن تقف روسيا مثل هذا الموقف! رغم تصريحات وزير خارجيتها لافروف انها ستلتزم بالاتفاق مع ايران رغم الانسحاب الامريكي, ولكنه ربما موقف إعلامي ديبلوماسي مراعاة للشريك الاول لها في سوريا, ولحين تتضح حقيقة الامر على أرض الواقع, ولكنها وربما من خلال ضغط أمريكي وعالمي او من خلال تفاهمات معينة على واقع الحال في سوريا قد تعيد النظر في دعم ايران في هذا الملف وهو ماستبينه الاحداث لاحقا, وإن حصل ذلك فسيكون بضغط إسرائيلي بالدرجة الاولى, امر آخر مهم وهو خروج كوريا الشمالية من المعادلة بعد الصلح التاريخي مع جارتها الجنوبية والعبور الى حالة من التفاوض مع أمريكا والغرب وبوجهود صينية ومباركة روسية , وربما كان هذا من بين الامور التي مهدت وسهلت على ترامب قرار الإنسحاب من الإتفاق النووي .
الأمور متشابكة جدا وبشكل يزداد تعقيدا ولكن , إن لم تعمد اسرائيل الى ضرب العمق الايراني لتحقيق أهدافها المزعومة فان المنطقة ستتجنب المزيد من التصعيد من جانب ايران, ولكن تبقى كل الخيارات مفتوحة وربما نشهد الكثير من المفاجئات والتي أصبحت أمرا ليس غريبا وسط هذا الكم الهائل من الفوضى .
المثير للانتباه في كلام ترامب انه بدا مشمئزا من النظام الايراني وحريصا في إختيار وطريقة نطق عباراته بتأن وعناية تعبر عن مدى جديته من عدم السماح لها او لأي دولة تفكر في مساعدتها على امتلاك سلاح نووي تهدد به به جيرانها, لتكون الدولة الاولى التي ترعى الإرهاب وخطرا على السلم والسام, والذي احتلته بعد خروج كوريا الشمالية من القائمة وتخليها عن ترسانتها النووية , وهو أمر يدعو لشيء من الدهشة, فما من مصلحة لأمريكا في ذلك أكثر من حماية مصالحها وجلفاءها التاريخيين في المنطقة وفي مقدمتهم السعودية ودول الخليج , وهو أمر يبدو منطقيا بعد إبتعاد الادارات السابقة عن حلفائها وتفضيلهم الجانب الايراني, ورغم كل التقولات والتشكيك, فكما يبدو أن دول الخليج وفي مقدمتها السعودية والإمارات تسير بعزم وثبات في سياساتها الخارجية وهو نجاح يحسب لها وخلال فترة قياسية نظرا للظروف المحيطة.
خلاصة القول الايرانيون سيلجأون الى الاوربيين لكسب الوقت ولكن العقوبات والتي ستظالهم ربما ستقف عائقا أمامهم لمد يد المساعدة لايران للخروج من هذا المأزق, رغم تعنت موغريني وغيرها, وهي ممثلة السياسة الخارجية للاتحاد الاوروبي وغضبها ودفاعها الغريب عن الاتفاق , ولكن واقع العقوبات والتي ستطبق تدريجيا خلال الستة اشهر القادمة ” إن صح العزم” ستكون أمرا واقعا لا مناص منه, فالاوربيون لن يستطيعوا معاداة أمريكا لأجل منافع غير مضمونة, فأمريكا تمثل العمود الفقري للإتفاق, وهي في نفس الوقت الشريك التاريخي لكل حكومات أوروبا دون إستثناء .
هنا لابد من الاقرار بحقيقة واضحة وهي أن تلكم العقوبات وفي حال عدم موافقة نظام الملالي للقبول بتغيير جوهري في بنود الاتفاق, وحسب رؤية امريكية وفرنسية مشتركة, ستكون انعكاسهاتها كارثية على الوضع الإقتصادي في ايران, وسيكون النظام في مواجهة حقيقية أمام شعبه في الداخل والعالم في والخارج فهو مطالب بتحسين الأوضاع المعيشية للشعوب الايرانية وهذا أمر مستحيل في ظل عودة العقوبات, ناهيك الى الأكلاف الباهضة لإستمرار عملية الغزو والتمدد الممنهج لبلاد عربية مجاورة منذ سنوات, النظام الايراني سيكون في مواجهة ثورة شعبية ومن جديد ولكن بشكل اقوى وأقسى, وهو الطريق الوحيد والمتاح نحو التغيير لهذا النظام, وبشكل جذري, ومهما كانت خيارات النظام .