23 ديسمبر، 2024 10:43 ص

قراءة في  (خسوف الضمير) .. فاعليةُ الشعر في استيعاب أبعاد المأساة الإنسانيّة 

قراءة في  (خسوف الضمير) .. فاعليةُ الشعر في استيعاب أبعاد المأساة الإنسانيّة 

يكشفُ لنا الشاعرُ رعدْ زامل في تجربتهِ الشعرية عن قدرةٍ واعيةٍ ومستوعبةٍ لتفاصيلَ صراعاتِ الإنسانْ مع ذاتِهِ أو معَ الوجودِ المحيطِ بهِ، لتكونَ شخصيةُ الشاعرِ وذاتيتُهُ نموذجاً يعبّرُ من خلالِهِ عنْ آلامِ الإنسانِ وهمومِهِ وأسئلتِهِ الوجودية التي تبحثُ عن أجوبةٍ لكلِ تساؤلاتِ الذاتِ الإنسانيةِ في خِضِّمِ آتونِ المأساةِ البشريةِ التي تبدو من فداحةِ كوارثِها كوميديا سوداءَ تقودُ الإنسانَ العارفَ الذي يمتلكُ رؤيةً ثاقبةً وباصرةً أن يطرحَ هذه التساؤلاتْ الغارقةِ بالألمِ والمُثْخَنةِ بالخيبة فالشاعر في تجربته ينقل لنا رؤيته التشريحية لواقعه وتكون نصوصه مرايا تقدم الواقع بما فيه من تناقضات وأحداث ماضية شكلت آثارها ملامح الحاضر فهو يؤكد على الغاية النهائية للفن والتي تصور الواقع بمصداقية وجرأة وتقدمه بصوره القاتمة بلا تدليس أو إخفاء للحقيقة وإن تكن هذه الصور صادمة ومفاجئة لأن هذا الموقف يعكس إلتزام الشاعر تجاه واقعه ليكون شاهداً منصفاً ويحقق الحرية لذاته وللمتلقي من خلال هذا التقديم وتكون نصوصه وثائق إنسانية ذات صدقية في طرحها وتصويرها لصراع الإنسان وعذاباته في دوامات الصراع الوجودي لذلك لم يقدم لنا الشاعر نصوصاً شعرية ذات لغة مكثفة وبناء شكلي اختزالي تدل على معاني بقدر ما جعل الشاعر  المعاني الكبيرة التي نتجت عن رؤاه العرفانية للوجود هي التي تحتوي الكلمات  :

لا قطارَ ينتظرني
ولا محطاتْ
فأنا عابرُ سبيل
أحملُ عمري
 كما لو أنَّهُ
كيسُ نفايات.ص 7
أو في نصِّ قادمٌ من أقصى المياه  :
تُرى ماذا
 بوسعِ الموجةِ أن تفعلَ
 في مثل هذا المستنقعِ الذي يسمّونَهُ الحياة ؟
 وهل بوسعِ موجةٍ نافرةٍ مثلي
 أن تطفئَ :  شجرةُ يومُها احتراق
وغدُها حطب ؟؟ص73
إنّنا أمامَ تجربةٍ شعريةٍ تفتحُ آفاقَها للقارئ الواعي من القراءةِ الأولى ليؤسّسَ في كلِ قراءةٍ آفاقاً عميقةً توحي بها تراكيبُ الشاعرِ الموجزةُ والمكثفةُ والمصاغة بدقّةٍ أسلوبيةٍ وفهمٍ عميقٍ لقدرةِ المفردةِ التي تخرجُ من إطارها القاموسي حينما توضعُ بوعيٍ وحسٍّ جمالي ضمنَ البنيةِ الشعريةِ فتكونَ ذاتَ قدرةٍ هائلةٍ متوهجةٍ بفيوضٍ دلاليةٍ متعدّدةٍ تتجاوزُ المجالَ المضموني القريب للتركيبِ الشعري وتكونَ ذاتَ وظيفةٍ تحفيزيةٍ سواءٌ كانتْ المفردةُ ضمنَ التركيبِ أو منفردة وهذا ما يتجلى في القاموسِ اللغوي لدى الشاعر وبتعبيرٍ أدق (الذاكرةُ الشعريةُ الغنية ) لدى الشاعر رعد زامل كما في قصيدة (نصوص الغياب) :
على شراعٍ غادرَ أبي 
متجهاً إلى حتفِهِ
 بالقطارِ أيضاً
غادرَ الأصحابُ
 كلٌ يحملُ فرّاشتَهُ
على يدِهِ
 وحدي والحقائبُ
 تفوحُ بالذكريات ص20
إنّ الشاعرَ رعد زامل بما يمتلكُهُ من ذاكرةٍ متنوعةٍ (صورية) كانت أم (لغوية) استطاعَ بخيالِهِ الشعري أن يُعيدَ تشكيلَ بُنَىً لغويةً شعرية تجلّتْ فيها مستوياتٌ متعددةٌ  من خلالِ تكثيفِ (ثيمةُ الحرب) وسيميائيتِها العالية في المخيالِ الاجتماعي فكانتْ عمليةَ تشريحٍ عميق لهذه الحوادث الكارثية من خلالِ توظيفِ الكلمة في الجملة الشعرية التي تعكسُ أبعادَ هذهِ الفاجعةِ الإنسانية  فجاءت هذه الكلمة (الحرب ) المعبأة بكم دلالي هائل ذات وظيفة (جيولوجية ) لما لها من جذور ممتدة إلى أعماق الماضي ومختزلة لسنين من الألم والمأساة لا تزال تجلياتها الصورية حاضرة في ذهن المتلقي الذي عاش سنواتها العجاف أو كان مراقباً لها وما نتجت عنها من آثار اجتماعية حاضرة ومتفاعلة في الزمن الراهن  فكانتْ بعض النصوصُ التي تحوي على شفرة (الحرب) تعكس حسَّ الشاعر برثاءِ الزمن أو الأشخاص مع هجائيةٍ قاتمةٍ تجاهَ كلِ ما يجعلُ من الحياةِ البشريةِ جحيماً أرضياً مرعباً :
الأبواقُ والطبول
 ثمَ الغنائمُ والشرارةُ الأولى
 هذا ما جنيناهُ من الحربِ
 ولأنَ الأبواقَ للمنشدين
 والطبولَ للمهرجين
 والغنائمَ للمتخمين
 الذين لا خوفَ عليهم
 ولاهم ينزفون …ص26
أو في هذه اللوحة الشعرية التعبيرية المتوهجة بفيض المعاني الإنسانية العميقة الدلالات :
في كل الحروب
التي هدأت
وظلت رحاها تدور
رأيت الجنود
يخلعون أعمارهم
والحرب تطحن ما يخلعون
وعلى وجوه الأرامل
رأيت القحط ….
ورأيت الأطفال
نطفاً بين الصلب والترائب يذبلون ص45
 
إنّ استيعاب الشاعر للقدرة اللغوية التي تشحن بها الجملة الشعرية والتي تعتمد الإزاحة كقوله ( لاخوف عليهم ولاهم ينزفون ) أو ( منذ متاهة / هل أتاك حديث المياه ) وتخلق تراكيب شعرية تعتمد على أنظمة بلاغية وأسلوبية كالمقابلة بين الأضداد وفعلية الجمل وأسميتها أو بأنسنة الجامد وتحريك الساكن وتجسيد المعاني المجردة  بهيئة الملموس  والتي تجعل المتلقي متفاعلاً  مع النص الذي يتكون من بنى ترتبط فيما بينها بوشائج ظاهرة أو كامنة ويكون ممتصاً للكثير من السياقات المعرفية المختزلة في بنية النص والذي يجعل القارئ الواعي وكل ما يملك من ذخيرة معرفية في مواجهة نصوص الشاعر المكثفة لكي يحلل الشفرات المركزية  والفرعية والتي تكون ذات دور ثقافي يمنح القارئ معرفة فهي معبأة بالمستويات الدلالية وتعكس دراية الشاعر بدور المفردة الرمزية في إثارة الخزين المعرفي للقارئ :
قادمٌ من أقصى المياه
أجرّ أذيال العطش
وكسهم بلا هدف
أدور حول نفسي
صارخاً في الأهوار
كلكامش: لماذا أيها الجدُّ
تركت الحمير
يخضمون عشبة الخلود ص70
أو في نص ( نصوص الرماد) :
وسبحانك
إذ جعلتني على المقابر
أكيل الدموع
والنعوش
والنكبات..
ثم سبحانك قبل الحرائق
إذ نسيتني
ولما اشتعل الرأس شيبا
تذكرتني
فجعلت حصتي من ميراثك
هذا الرماد! ص 53/54
يضافُ أيضاً للشاعرِ هو استيعابُهُ الدقيق للتراثِ وبما فيه من إشاراتٍ موحيةٍ تتجاوزُ حدودَ ذاتيةِ النصِّ لتكونَ نقطةً متوهجةً تضيءُ الكثيرَ من المساحاتِ المعتمةِ وتجعلَ القارئَ مندمجاً مع مجرى النصِّ لمرجعيةِ الحادثةِ التاريخية فالشاعرُ ليس كما المؤرخَ ينقلُ لنا الحادثةَ بتفاصيلها المرويّةِ بلْ هو يتفاعلُ نصيّاً معها و هو يمنتجُ الحادثةَ التاريخيةَ وفقَ المتطلباتِ التعبيريةِ والمقتضياتِ الواقعيةِ الآنيةِ التي يريدُ الشاعرُ أن يوصلَها إلى المتلقي كما في نص  (خسوفِ الضمير) إلى روح أبي ذر الغفاري والتي فيها استفادةٌ من شخصية الصحابي الثائر أبي ذر الغفاري وما يحمله هذا الاسم من سميولوجيا  دلالية ذات إشارات متعددة :
عندما نصلُ إلى الينابيع 
 سيفرشُ لنا الملائكةُ الأرضَ بالعشب
ويسألوننا عن الحياةِ 
 كيفَ طويناها تلكَ الصحراءَ التي
 لاخيمةَ لنا فيها ولاجملَ
 وعندما نصمتُ سيجيبهم أبوذرٍّ
 قائلاً :  كان الجفافُ يخيّمُ على الأزمنةِ
 وكان الخريفُ  يُسَلّمُنا إلى الخريف …ص 49/50
أو توليفٍ إشاري إلى قصةِ النبي يوسفَ وحالِ أبيه يعقوبَ فيتناسخَ والد الشاعر بشخصِ النبي يعقوب :
أتبادلُ أطرافَ الدموع
 معَ الرجلِ الذي
 يقابلني فيها والذي كلما سألتُهُ : كيفَ إبيضّتْ
عيناكَ من الحزن 
 يردُّ عليَّ :  مثلمَا جفّتْ عيناك من  الذهول
 وأنت تحدقُ في بئرِ الغياب ….ص21/22

لقد جعلَ الشاعرُ معماريةَ قصيدتِهِ في الديوان ذاتَ شكلٍ مقطعي مرتبطٍ بوحدةٍ عضويةٍ ومشتركٍ بثيمةٍ واحدةٍ تكوّنُ بؤرةً مركزيةً مما يكسبُ النصَ الشعري تماسكاً موضوعياً وتعدداً مضمونياً لكلِ مقطعٍ تجلياتُه ويشتركَ مع المقاطعِ الأخرى بعلاقةٍ تفاعلية يتعددُ من خلالها الحدثُ ويشكّلُ أحداثاً متداخلة ومتوازية أحياناً ففي قصيدة (عن الخرابِ وظلامِهِ المر) نجدُ القصيدةَ ذاتَ المقاطعِ الستة تشتركُ بثيمةٍ مركزية أَلا وهي مفردةُ ( الخراب) فتأتي هذه المفردةُ في كلِ مقطعٍ شعري بتركيبٍ شعري تكون هذه المفردةُ مركزيةً فيه وتربطَ أجزاءَ القصيدة وتكوّنُ بؤرةً مركزيةً تمسكُ بالبُنى النصيةِ وتؤدي كلُ جملةٍ وظيفةً تحفيزية تنقلُ تنوعَ صورِ الخرابِ   ففي المقطعِ الأوّل كانتْ الجملةُ الشعرية الأخيرة هي ( لكنها جميعاً تؤدي إلى ذاتِ الخراب ) وفي المقطع الثاني كانتْ الجملة الأخيرة أيضاً ( تغدو وصمةَ عارٍ على جبينٍ أسمُهُ الأرضُ الخراب ) وفي المقطع الثالث الجملة الأخيرة فيه ( واكتفي بالنعيبِ شاهداً كالبومِ على هذا الخراب ) وفي المقطع الرابع الجملة الأخيرة  ( وقلتُ له كنْ نديمي في هذا الخراب ) وفي المقطع الخامس الجملة الأخيرة ( ريشةٌ لا تكفي لتدوين هذا الخراب ) وفي المقطع السادس كانت الجملة الشعرية الأخيرة  ( كأعلى صرخة في وجه هذا الخراب ) .
لقد كانتْ تجربةِ الشاعر رعد زامل في ديوانه ( خسوف الضمير ) تجربةً شعرية عكستْ عن وعيٍ عميقٍ بتفاصيلِ الأزمةِ الإنسانية في خضّمِ الصراعِ الوجودي الحاد بينَ الإنسانِ وذاتهِ أو بين محيطِهِ وما يترتبُ على هذا الصراعِ من معاناةٍ وآلامٍ أو ما ينقلُهُ الشاعرُ من مأساةٍ إنسانيةٍ يفرضها عليه التزامه الوجودي تجاهَ قضايا واقعه فكانتْ قصائدُهُ انعكاسات لما يمرُّ به الشاعرُ والمجتمعُ فجاءتْ هذه القصائدُ ذات مضامينَ إنسانيةٍ بنزعةٍ إبداعيةٍ أمتلكَها الشاعرُ من جعلِ قصائدهِ وثائقَ تحملُ كثيراً من الأسئلةِ التي تصبو إلى تغييرِ الواقع وانتشالِ الإنسانِ من الواقعِ المرِّ الذي أصيبتْ به بعضَ الضمائرَ بالخسوفِ إلى  واقعٍ تضيئهُ أنوارُ المعرفةِ والحب وتشع في أرجاء الضمير أقمار الحقيقة  ….
ديوان خسوف الضمير الطبعة الأولى 2014 يتكون من 14 نص شعري في  96صفحة من الحجم المتوسط صادر عن دار الروسم للصحافة والنشر /بغداد