23 ديسمبر، 2024 7:56 م

قراءة في “تراتيل طيور محنطة  للشاعر مروان عادل”

قراءة في “تراتيل طيور محنطة  للشاعر مروان عادل”

يؤطر الكتاب الشعري “تراتيل طيور محنطة” للشاعر مروان عادل  رزمة من الأيقونات الثقافية المتصلة التي تشدد على عامية الذوق و الاستعمال العفوي للخيال ، و يخلق ، بوصفه كتلة ثقافية ، وعيا سياسيا  من خلال  عملية منظمة لتذكر خبرة معيشة ،  إعادة معايشتها ، و إعادة تأويلها في سياق جمعي .

     “هكذا هم ينضجون مبكرا فتأكلهم المبادئ و يصيرون عرضة للخلود” و هكذا ترفع الكتلة الثقافية أيقونتها الأولى لتقدم  إحدى طرق التعبير عن واقع مشفر بقوة يفرض على الانتباه حياة المباديء التي تأكل أهلها  فيبدو كما لو انه  يخفي مضمون سياسة بكاملها .
     “فكن حذرا أيها الميت كثيرا ، فالذين فاتهم أن يطعنوك ينطرون حياتك القادمة ” عبر هذه الأيقونة تلعب الكتلة الثقافية دورها المركزي لتخرج بدليل دامغ تبين فيه أن السياسة ينبغي أن تمارس على منصة ضحايا و ينبغي للتاريخ أن يعاش  بوصفه محاولة للتخلص من ذنب لم يقترف أصلا.
      و يأتي المورد الرمزي  ل” قوانة قديمة ” من خلال التصور الشعبي الجماعي في أننا نحمل التراث باعتباره أزمة لأن توقعاتنا التي تلي كل عاصفة دائما لا تتحقق . ” جرى أن وجهه صار خاتما وأن سلسلة من هموم دائرة علقت قلبه و تدلت من أذنه قوانة قديمة ” و هنا تبرز الكتلة الثقافية عبر تلك القوانة لأناس يعلمون أنهم موجودون  بوجود الكارثة ، القوانة التي تمزج بين المشكلات غير المحلولة و الرغبة في الحديث الى الناس ومن اجلهم .
       “جرى أنه كلما مر على مقربة من مسمياته بكى ذلك الرجل المتبقي من مزاميره الأولى ” ، في هذه الايقونة  يفعل المجاز فعله في توسيع مجال اصطداماتنا مع الحياة  فربما لأن الكتلة الثقافية  ترفض أن يعاد إنتاجها في عالم من الأوهام و الصور و النفاق ، و ربما ليس لديها من المعالجات سوى البكاء ، الخدعة الذكية و الفعالة ضد الارتباك و الحيرة اللتين تعيشهما .
    “المجد لكريات دمه التي تبحر بيضاء في شرايينه الموحشة ، لساعة قلبه و هي تدق طبول الوفاء لإطرافه النائية ” هذا هو رأسمالها الوهمي ،  ان هذه الكتلة الثقافية  تبحث عن سياسة بعيدة عن المفهوم البطولي  ، انها الغائب الذي من خلاله يكتسب الواقع اليومي مشروعيته .
وتكشف الايقونة الثقافية التي تقودنا  لفقدان الإحساس بالزمن و البحث عن التأثير الراهني  أن  ” لا قيمة لأصوات الموتى .. لذلك  لا يعلق المرشحون ملصقاتهم في المقابر ” و هنا تصبح الكتلة الثقافية شاهدا على التخلي عن كل حس بالاستمرارية التاريخية و الذاكرة ، تلك القابلية التي لا تصدق لنهب تاريخ الموتى من خلال اعتبار الحياة مجرد لحظات زمن حاضر مجردة و منفصمة   ، انها  رغبة السياسيين أن يشربوا  ماء الهناءة على خبز الفجيعة .
      ثم تلتفت الكتلة الثقافية إلى الطرق التي يفسر بها الناس خبراتهم فتتخذ من ” لهادي السيد .. إذ تخلع الأرصفة ضرسا آخر ”  كدليل على التاريخ الفعلي دونما اعتبار لما عليه حقيقة التاريخ  ، وتقترح نوعا من الكفاح لتحقيق شكل آخر من المواجهة للإبقاء على لوحتنا الاجتماعية غير ملوثة .  ان هادي السيد هو العمق الموازي للفقدان .
        و عبر أيقونة الحضور و الغياب ” حيث هادي السيد يمضغ هادي السيد ، و حيث وطن مقعد يبيع خرزا للحب و خرزا للحرب ”  تبدو الكتلة الثقافية كما لو انها تعكس المجاز الذي يتحكم بالمجتمع و بمنطق حركته . فالغياب هو السعر الذي يجب أن ندفعه مقابل ممارسة  الحضور. أما  ممارسة بيع خرز الحب و الحرب  فهي كمن يكتب صلاحيات جديدة على علب فارغة . ان مجازية التذكر تقتضي امكانية اختزال الحياة برمتها بهادي السيد .
        و بذات المورد الرمزي تقدم ” ثلاثية ” نمطا من العيش باحجيات لا حل لها  ” فأنا و صديقي و جاري المسكين .. شاعر و شرطي و عامل كهرباء بقينا على قيد العراق ” من أجل أن نكون محصنين ضد المفهوم البطولي للتاريخ .. ” نحاول أن نغني  .. و نحمي .. و نضيء ” فلا شيء يمكن أن يكون بديلا لفعل التضحية  من اجل ان لا تكون المعايير الجمالية معايير سلطوية ،  فنستمر  ”  بحثا عن أخينا المائة ” بالطريقة التي تشبه إخضاع الحقيقة إلى فحص دائم .
   وكما  يقول جلال الدين الرومي أن الإنسانية لا تتحمل مثل هذا الواقع ” أقف .. شماعة معصوبة الذكريات .. ألعن بقايا حنانه و  اعوي ” إن انعدام المعنى في الألم الشديد الذي لا مفر منه يثير شكوكا في أن  عيش الحاضر هو مشهد سري و قمعي لا يسمح لأي شماعة أن تقول ، على الرغم من أن الشماعة رمز عنيد ،  لا يصمت أبدا .
     و في أدنى مستويات الاحتفال و الانتصار يمكن للكتلة الثقافية في ” مشهد معتاد ” أن تعبر عن نظام رصين تنتجه الحياة العادية ،  الحياة التي تعتاش على الكارثة .، “ستة أرجل ممددة ميتة .. تحركها مطبات  الشارع  .. و ستة أرجل لرجال شرطة منتصرين تجلس متقابلة ” صارت الكتلة الثقافية  الضحية التي  لا تفهم معالجة النظام إلا من خلال الأزمة .
       ” وبأني أموت في كل الانفجارات .. مع كل الميتين ” فالكتلة الثقافية ليست مجرد إدراك للواقع بل هي عملية تغذيها التوقعات ،  تزودنا بمنفذ مباشر للحقيقة عبر توقع الموت المستديم ” و أزعم اني أضع أذني على قبورهم و أنصت لأغانيهم المدفونة ” فليس من وسيلة لتحديد الخسران الإنساني سوى الإنصات إلى أغاني مدفونة ، سوى  مزيد من اللعب و المقاومة في الكلمات ، باعتبار أن اللغة في موقع المشرع للكتلة الثقافية ، تدعمها و  تتدعم  بها .
    ” وحيث كان يؤمر بقطع رؤوس النخيل ، و حيث كان يؤخذ بنا في العطل الصيفية .. لنأكل أفاعي و نمزق أرانب ” فلا يمكن أ ن تكون الكتلة الثقافية سوى هذا الذي يكون الإنسان قادرا على تصوره عندما  يستدعي منابع معاناته و يخضعها للرقابة و الترميز . هذه الظاهرة تشبه الخميرة التي يتحول بها الواقع الى استعارة .
     “وبلمح خمسة آلاف سنة.. تحجزون منابر لكم في متحف الشمع  مقابل بضع درجات مئوية تتكبدها مفاصل شعبكم الملتهبة ” و هو تاريخ لكمال صنع الأيقونات ، بمعنى أن  متحف الشمع  مجموعة معقدة من الإشارات يقصد منها جعل الأفراد عرضة للمعاناة بوساطة تضخيم الأقنعة ، الأقنعة التي يقصد بها أن تعني صيغة المشهد المحزنة  .  فمتحف الشمع   مورد رمزي لمواجهة و إعادة سرد القوى التي جعلت الأفراد يدفعون الثمن .
        ” و تعبئون دشاديش  أطفالكم  بما يكفي  من الحصى لقدور أمهاتكم  الفارغة ” تمثل هذه الأيقونة الثقافية الطريقة التي  تستطيع بها أقصوصة قصيرة جدا ان تعيد إنتاج الأفراد ، فقدور الأمهات الفارغة مملوءة بمرويات قصيرة لا تنتهي . كما أن هذه المروية القصيرة جدا تمتلك حساسية تساعد على فهم الوقائع التي لا تفهم داخل تاريخ محكوم بالقوة .
       “انا الذي بقيت خالدا .. تحجر كل السلاطين الذين تعاقبوا على جلدي ” . فهو يشعر أن أيقونة خلوده تكمن في مشهد معاناته ، ذلك الذي لا يستسلم ، لاعتقاده أن الإنسانية لو فقدت راوي معاناتها فهي إنما تفقد بذلك حقيقتها ، و على الرغم أن بعض الحكايات قد يكون بشعا ، أكثر قسوة ، إلا أنها مع ذلك يجب أن تروى .
” ليس لهذا .. ليس لذاك .. ليس لشيء إلا لان هذه الصحارى بحاجة  لنوارس ” . لتصبح الأيقونة الثقافية سلاحا سياسيا ممكنا ، ظاهرة ثقافية مضادة ، فالنورس يمثل الحنين بوصفه عاملا مهما للتكيف مع الأزمة ، ليس  لشيء الا لان الواقع  بحاجة الى إعادة تشكيل .
” لا حصان آخر لوتر مقطوع و لا جناح لريشة الحبر الوحيدة ” إنها أيقونة ثقافية  تجسد نوعا من التغريب و نزع الأصالة ، و تصور الكتلة الثقافية و هي تهيل التراب على سردياتها ، قيمها و ممارساتها  ، إيقاعها  و مفردات كفاحها  كما لو انها  لا تملك مسافة واضحة بين وقائعها و توقعاتها .
” و قل لأولئك الناس .. انك تركت وراءك أناسا .. ماتوا وهم يحلمون بالطيران ” . اذا كانت هذه الأيقونة الثقافية تشير الى شيء ، فهي إنما تشير الى  الاستسلام الكامل الى حمى الأحلام ، الى الوعي الذي يفرض على الأفراد نمطا  من التضحية المستحيلة من أجل التواصل مع الآخر .