يؤطر الكتاب الشعري “تراتيل طيور محنطة” للشاعر مروان عادل رزمة من الأيقونات الثقافية المتصلة التي تشدد على عامية الذوق و الاستعمال العفوي للخيال ، و يخلق ، بوصفه كتلة ثقافية ، وعيا سياسيا من خلال عملية منظمة لتذكر خبرة معيشة ، إعادة معايشتها ، و إعادة تأويلها في سياق جمعي .
“هكذا هم ينضجون مبكرا فتأكلهم المبادئ و يصيرون عرضة للخلود” و هكذا ترفع الكتلة الثقافية أيقونتها الأولى لتقدم إحدى طرق التعبير عن واقع مشفر بقوة يفرض على الانتباه حياة المباديء التي تأكل أهلها فيبدو كما لو انه يخفي مضمون سياسة بكاملها .
“فكن حذرا أيها الميت كثيرا ، فالذين فاتهم أن يطعنوك ينطرون حياتك القادمة ” عبر هذه الأيقونة تلعب الكتلة الثقافية دورها المركزي لتخرج بدليل دامغ تبين فيه أن السياسة ينبغي أن تمارس على منصة ضحايا و ينبغي للتاريخ أن يعاش بوصفه محاولة للتخلص من ذنب لم يقترف أصلا.
و يأتي المورد الرمزي ل” قوانة قديمة ” من خلال التصور الشعبي الجماعي في أننا نحمل التراث باعتباره أزمة لأن توقعاتنا التي تلي كل عاصفة دائما لا تتحقق . ” جرى أن وجهه صار خاتما وأن سلسلة من هموم دائرة علقت قلبه و تدلت من أذنه قوانة قديمة ” و هنا تبرز الكتلة الثقافية عبر تلك القوانة لأناس يعلمون أنهم موجودون بوجود الكارثة ، القوانة التي تمزج بين المشكلات غير المحلولة و الرغبة في الحديث الى الناس ومن اجلهم .
“جرى أنه كلما مر على مقربة من مسمياته بكى ذلك الرجل المتبقي من مزاميره الأولى ” ، في هذه الايقونة يفعل المجاز فعله في توسيع مجال اصطداماتنا مع الحياة فربما لأن الكتلة الثقافية ترفض أن يعاد إنتاجها في عالم من الأوهام و الصور و النفاق ، و ربما ليس لديها من المعالجات سوى البكاء ، الخدعة الذكية و الفعالة ضد الارتباك و الحيرة اللتين تعيشهما .
“المجد لكريات دمه التي تبحر بيضاء في شرايينه الموحشة ، لساعة قلبه و هي تدق طبول الوفاء لإطرافه النائية ” هذا هو رأسمالها الوهمي ، ان هذه الكتلة الثقافية تبحث عن سياسة بعيدة عن المفهوم البطولي ، انها الغائب الذي من خلاله يكتسب الواقع اليومي مشروعيته .
وتكشف الايقونة الثقافية التي تقودنا لفقدان الإحساس بالزمن و البحث عن التأثير الراهني أن ” لا قيمة لأصوات الموتى .. لذلك لا يعلق المرشحون ملصقاتهم في المقابر ” و هنا تصبح الكتلة الثقافية شاهدا على التخلي عن كل حس بالاستمرارية التاريخية و الذاكرة ، تلك القابلية التي لا تصدق لنهب تاريخ الموتى من خلال اعتبار الحياة مجرد لحظات زمن حاضر مجردة و منفصمة ، انها رغبة السياسيين أن يشربوا ماء الهناءة على خبز الفجيعة .
ثم تلتفت الكتلة الثقافية إلى الطرق التي يفسر بها الناس خبراتهم فتتخذ من ” لهادي السيد .. إذ تخلع الأرصفة ضرسا آخر ” كدليل على التاريخ الفعلي دونما اعتبار لما عليه حقيقة التاريخ ، وتقترح نوعا من الكفاح لتحقيق شكل آخر من المواجهة للإبقاء على لوحتنا الاجتماعية غير ملوثة . ان هادي السيد هو العمق الموازي للفقدان .
و عبر أيقونة الحضور و الغياب ” حيث هادي السيد يمضغ هادي السيد ، و حيث وطن مقعد يبيع خرزا للحب و خرزا للحرب ” تبدو الكتلة الثقافية كما لو انها تعكس المجاز الذي يتحكم بالمجتمع و بمنطق حركته . فالغياب هو السعر الذي يجب أن ندفعه مقابل ممارسة الحضور. أما ممارسة بيع خرز الحب و الحرب فهي كمن يكتب صلاحيات جديدة على علب فارغة . ان مجازية التذكر تقتضي امكانية اختزال الحياة برمتها بهادي السيد .
و بذات المورد الرمزي تقدم ” ثلاثية ” نمطا من العيش باحجيات لا حل لها ” فأنا و صديقي و جاري المسكين .. شاعر و شرطي و عامل كهرباء بقينا على قيد العراق ” من أجل أن نكون محصنين ضد المفهوم البطولي للتاريخ .. ” نحاول أن نغني .. و نحمي .. و نضيء ” فلا شيء يمكن أن يكون بديلا لفعل التضحية من اجل ان لا تكون المعايير الجمالية معايير سلطوية ، فنستمر ” بحثا عن أخينا المائة ” بالطريقة التي تشبه إخضاع الحقيقة إلى فحص دائم .
وكما يقول جلال الدين الرومي أن الإنسانية لا تتحمل مثل هذا الواقع ” أقف .. شماعة معصوبة الذكريات .. ألعن بقايا حنانه و اعوي ” إن انعدام المعنى في الألم الشديد الذي لا مفر منه يثير شكوكا في أن عيش الحاضر هو مشهد سري و قمعي لا يسمح لأي شماعة أن تقول ، على الرغم من أن الشماعة رمز عنيد ، لا يصمت أبدا .
و في أدنى مستويات الاحتفال و الانتصار يمكن للكتلة الثقافية في ” مشهد معتاد ” أن تعبر عن نظام رصين تنتجه الحياة العادية ، الحياة التي تعتاش على الكارثة .، “ستة أرجل ممددة ميتة .. تحركها مطبات الشارع .. و ستة أرجل لرجال شرطة منتصرين تجلس متقابلة ” صارت الكتلة الثقافية الضحية التي لا تفهم معالجة النظام إلا من خلال الأزمة .
” وبأني أموت في كل الانفجارات .. مع كل الميتين ” فالكتلة الثقافية ليست مجرد إدراك للواقع بل هي عملية تغذيها التوقعات ، تزودنا بمنفذ مباشر للحقيقة عبر توقع الموت المستديم ” و أزعم اني أضع أذني على قبورهم و أنصت لأغانيهم المدفونة ” فليس من وسيلة لتحديد الخسران الإنساني سوى الإنصات إلى أغاني مدفونة ، سوى مزيد من اللعب و المقاومة في الكلمات ، باعتبار أن اللغة في موقع المشرع للكتلة الثقافية ، تدعمها و تتدعم بها .
” وحيث كان يؤمر بقطع رؤوس النخيل ، و حيث كان يؤخذ بنا في العطل الصيفية .. لنأكل أفاعي و نمزق أرانب ” فلا يمكن أ ن تكون الكتلة الثقافية سوى هذا الذي يكون الإنسان قادرا على تصوره عندما يستدعي منابع معاناته و يخضعها للرقابة و الترميز . هذه الظاهرة تشبه الخميرة التي يتحول بها الواقع الى استعارة .
“وبلمح خمسة آلاف سنة.. تحجزون منابر لكم في متحف الشمع مقابل بضع درجات مئوية تتكبدها مفاصل شعبكم الملتهبة ” و هو تاريخ لكمال صنع الأيقونات ، بمعنى أن متحف الشمع مجموعة معقدة من الإشارات يقصد منها جعل الأفراد عرضة للمعاناة بوساطة تضخيم الأقنعة ، الأقنعة التي يقصد بها أن تعني صيغة المشهد المحزنة . فمتحف الشمع مورد رمزي لمواجهة و إعادة سرد القوى التي جعلت الأفراد يدفعون الثمن .
” و تعبئون دشاديش أطفالكم بما يكفي من الحصى لقدور أمهاتكم الفارغة ” تمثل هذه الأيقونة الثقافية الطريقة التي تستطيع بها أقصوصة قصيرة جدا ان تعيد إنتاج الأفراد ، فقدور الأمهات الفارغة مملوءة بمرويات قصيرة لا تنتهي . كما أن هذه المروية القصيرة جدا تمتلك حساسية تساعد على فهم الوقائع التي لا تفهم داخل تاريخ محكوم بالقوة .
“انا الذي بقيت خالدا .. تحجر كل السلاطين الذين تعاقبوا على جلدي ” . فهو يشعر أن أيقونة خلوده تكمن في مشهد معاناته ، ذلك الذي لا يستسلم ، لاعتقاده أن الإنسانية لو فقدت راوي معاناتها فهي إنما تفقد بذلك حقيقتها ، و على الرغم أن بعض الحكايات قد يكون بشعا ، أكثر قسوة ، إلا أنها مع ذلك يجب أن تروى .
” ليس لهذا .. ليس لذاك .. ليس لشيء إلا لان هذه الصحارى بحاجة لنوارس ” . لتصبح الأيقونة الثقافية سلاحا سياسيا ممكنا ، ظاهرة ثقافية مضادة ، فالنورس يمثل الحنين بوصفه عاملا مهما للتكيف مع الأزمة ، ليس لشيء الا لان الواقع بحاجة الى إعادة تشكيل .
” لا حصان آخر لوتر مقطوع و لا جناح لريشة الحبر الوحيدة ” إنها أيقونة ثقافية تجسد نوعا من التغريب و نزع الأصالة ، و تصور الكتلة الثقافية و هي تهيل التراب على سردياتها ، قيمها و ممارساتها ، إيقاعها و مفردات كفاحها كما لو انها لا تملك مسافة واضحة بين وقائعها و توقعاتها .
” و قل لأولئك الناس .. انك تركت وراءك أناسا .. ماتوا وهم يحلمون بالطيران ” . اذا كانت هذه الأيقونة الثقافية تشير الى شيء ، فهي إنما تشير الى الاستسلام الكامل الى حمى الأحلام ، الى الوعي الذي يفرض على الأفراد نمطا من التضحية المستحيلة من أجل التواصل مع الآخر .