تتجلى الصورة الناصعة للعلاقة العضوية التاريخية بين العروبة والإسلام، في دور العرب التاريخي الرائد في قيادة ركب مسيرة الدين الاسلامي،ونشر نوره في كافة بقاع الارض،اضافة الى انهم كانوا البيئة الحاضنة له عند نزوله. فلا شك أن الله – تعالى -عندما اختار النبي العربي محمدا بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم- من بينهم لتبليغ رسالته إلى الناس أجمعين، قد من على العرب بهذا الاختيار بقوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
وفي حدود ما يتبادر إلى الذهن من فهم لمراد الله وحكمته من هذا الاختيار،يتراءى للباحث في جدلية العلاقة بين العروبة والإسلام، أن هذا الاختيار الإلهي، إنما هو في جانب منه، قد جاء استجابة من الله لدعوة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- لربه، أن يبعث الله – تعالى-في العرب رسولاً منهم، كما اخبرنا بذلك القران الكريم، إذ قال – تعالى-على لسان أبي الأنبياء إبراهيم في هذا السياق: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) فكان العرب ابتداء، هم المعنيون بالخطاب الإلهي (وأنذر عشيرتك الأقربين)، بعد أن خصهم الله بحكمته البالغة بهذا الشرف العظيم، ليكونوا مشروع الهداية الربانية على الأرض، عندما استجابوا لهذا الاختيار الرباني لهم، وناؤا بحمل رسالة الإسلام، وقاموا بأداء واجب هذا التشريف على أحسن وجه، حتى امتدحهم من شرفهم بهذا التكليف بقوله عن الجيل الرباني الاول منهم (رضي الله عنهم ورضوا عنه). وإيضاحاً لهذا الاستنتاج من بين مرادات الله في هذا الاختيار، فقد بين النبي – صلى الله عليه وسلم- سر شرف هذه المكانة الرفيعة، التي كرم الله بها العرب، إكراماً لنبيه محمداً المختار من بينهم عندما قال:(إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) فكان بهذا الاصطفاء الإلهي (خيارا من خيار من خيار)، ما لبث أن أكده – صلى الله عليه وسلم – بانتخائه لذاته، يوم حمي الوطيس في معركة بدر الكبرى، بهتافه الشهير: ( أنا النبي لا كذب..أنا ابن عبد المطلب).
على انه يجدر بالملاحظة الاشارة الى انه كما اختار الله – تعالى -خاتم الرسل محمدا من امة العرب، فقد اختار اللسان العربي أيضا ليكون لغة الوحي، ولغة الخطاب الإلهي في الدين الجديد، فقال تعالى:(إنا أنزلناه قرانا عربيا لعلكم تعقلون)،وهذا بلا شك شرف إضافي للعرب، ليضاعف مسؤوليتهم الدينية في حمل لواء الرسالة، وليكونوا حاضنة الإسلام البشرية، ووعاءه المادي،ومصدر امداده بالكادر،والعدة،ومهده المكاني الرحب، قاعدة للانطلاق المتطلع، إذ طالما انه نزل بلغتهم، فهم سيكونون بلا ريب، أفهم الناس بمراداته، وأقوم للعمل بمقتضاه، وإذا كانت لغة العرب بأساليبها المعروفة، هي لغة نص الخطاب الإلهي للعالمين من خلال القران الكريم، فلا عجب إذن أن يكون للقرآن الكريم الفضل الكبير، في حفظ اللغة العربية، ونشرها بين الناس، لتكون لغة عالمية، محددة المفاهيم والقواعد، وبذلك حفظ القران اللسان العربي، وصانه من العجمة واللحن،والانقراض،فصار مرجعاً أساسياً لنحوها، وعلومها على مر العصور، إذ قد تكفل الله بحفظه مطلقا حيث: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه)، وبالإضافة إلى ما تقدم من فضيلة تبادلية بين الإسلام والعروبة، فإنه لابد من الإشارة إلى فضل الإسلام على العرب، ودوره في توحيد أمتهم، وكيف انتقلوا في ظله من رابطة العصبية القبيلة والولاء لها، إلى رابطة العقيدة الإسلامية والولاء المطلق لها، على مبدأ: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله)، فكان منهج الله هو إطار صياغة الحال العربي، صياغة جديدة، فأخرجهم من الغلظة، والبداوة، والشرك إلى الإنسانية الوادعة، والحضارة المستنيرة الموحدة، حتى استمرؤوا قاعدة الدين بالنبوة باعتبار أن: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، فكان وازع توحيدهم على درب الرسالة، قد فجر في أنفسهم حس الإيمان الجمعي بأهمية الوحدة، وخيرية الاعتصام بها، لكي لا تذهب ريحهم، فتلاشت نزعة الكبر في نفوسهم بالصياغة الجديدة، مما سهل انقيادهم واجتماعهم، على دينهم ونبيهم، حيث ألف الله به بين قلوبهم، فأصبحوا بنعمة الإسلام إخواناً، ومع إن الإسلام كان ديناً إلهياً، ووحياً سماوياً متعاليا، إلا أنه لم يكن خارج الزمان، والمكان، والبيئة الاجتماعية، التي نزل فيها، فالإسلام إنما ظهر في بلاد العرب، حيث بشر به رسول منهم، بدأ تحنثه الأول في غار حراء بمكة، الذي كان مكان مهبط الوحي، الذي نزل بأول آية: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ليتواصل وحي السماء مع الأرض مكاناً للعرب، لتكون بالإسلام مركز الإشعاع، وقاعدة الانطلاق المؤمن، ومصدر الهداية للعالمين، بما شكلته من امتداد ثقافي للشخصية العربية، وقيمها النبيلة، لتأخذ مداها على أوسع نطاق من التلقي بالقبول بين الشعوب، التي ارتضت الإسلام ديناً، وقيماً، وحضارة، ولا جرم إن الإسلام هو أضخم مكون في تاريخ العرب، فكان الطاقة المعنوية الكبرى، والعنصر الأساسي في ثقافتهم، وموروثهم الحضاري، ولذلك فإن أي محاولة مغرضة لفصل الإسلام عن العرب، أو فصلهم عنه، لا تصب إلا في خانة إضعاف الحال العربي وإنهاكه، واقصائه عن دوره الإلهي والحضاري معاً، مما يفسح المجال لإضعاف وهج الاسلام بالتالي على قاعدة (إذا ذل العرب ذل الإسلام)التي تحمل الكثير من المدلولات الصائبة، عند وضعها في مثل هذا السياق من التحليل المنطقي، وبهذا تكون العلاقة جدلية بين العروبة والإسلام، حيث تبقى العروبة جسداً روحها الإسلام، في حين تكون جثة هامدة من دونه.وبهذه العلاقة العضوية المتفردة،كان النموذج العربي الإسلامي الذي انبثق في الأرض العربية، قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، مصدرا لإشعاع الأمة العربية بتجربتها الرسالية للعالمين، التي أفاضت على الإنسانية بالخير العميم،وحررت الشعوب من طواغيت الوثنية بالتوحيد.