18 ديسمبر، 2024 9:03 م

قراءة في بيان كتائب حزب الله تشخيصات للعقد وأساليب واضحة في الحل

قراءة في بيان كتائب حزب الله تشخيصات للعقد وأساليب واضحة في الحل

حدد البيان من أول استهلال له موقفه الصريح والواضح جداً من التظاهرات والاحتجاجات الشعبية التي تعم البلد حالياً. إذ انه أبعد نهائياً وبقوة أي اتهام للشعب وتزييف لأسباب خروجه فقد قال ” لم تنطلقْ تظاهراتُ الغضبِ العراقيِّ بطراً”، بل أنه علل هذا التظاهر بالطبيعي جدا نظراً “لحجمُ الآلام والأوجاع” الذي “فاقَ حدَّ التحمُّلِ والصبرِ. وزاد على ذلك ، بالقول انه من غير المعقول هو عدم الخروج “فلا يُعقلُ أن يعيشَ شعبٌ بهذا المستوى المتردّي في جميع مجالات الحياة من دون أن يرفعَ صوتَه عالياً بوجهِ من سلبَهُ مقوماتِ الحياةِ الكريمةِ”.

وانطلق ليحدد موارد هذا التردي من جهة الوعي بالأهمية الشديدة لهذه المواد، وليس من باب التعداد الإنشائي الفارغ كما يفعل الكثير من الساسة والأحزاب في بياناتهم الخالية من أي معنى سوى الضحك على الذقون. يقترح البيان من خلال تعداد هذه الموارد بشكل دقيق حلولاً لها في بعض الأحيان، إن خفي العلاج، فهو لا يكتفي بذكر التردي الصحي، بل يطالب “بالضمانِ الصحيّ” كعلاج لهذه الأزمة المستعصية. ويذكر التعليم، والخدماتِ ولا يخفى الانحطاط فيهما، ولكنه حين يتعرض للسكن لا يكتفي بالمهزلة الدعائية التي مارسها وما يزال يواصل السياسيون والتنفيذيون بالأخص منهم بممارستها بالحديث عن تخصيص وتوزيع الأراضي من غير تقديم الخدمات لهذه الأراضي أو تحويلها الى حلول حقيقية لازمة السكن. البيان يضع العلاج الحقيقي الكفيل بحل هذه المشكلة، ويطلب توفير “السكن اللائق” وليس قطع أراضٍ مهجورة خربة. وعندما يتحدث عن البطالة فانه لا يطالب بالتعيين في المؤسسات الحكومية، لان هذا لم يكن حلا ابدأ، بل كان ولم يزل تقويضا لاقتصاد البلد، عملت عليه الحكومات المتعاقبة بسياسة اقتصادية فاشلة، إما تلاعبا بمشاعر واحتياجات الجماهير أو تنفيذاً لمخطط تخريبي في بناء دولة ريعية فاشلة تسقط في أول هزة تصيب أسواق النفط، وقد أثبتت الأيام فشل هذه السياسة وكشفت النوايا الحقيقية من الإصرار عليها. في المقابل يطالب البيان “بفُرص العملِ” التي إن توفرت أينما كانت سواء في القطاع الخاص أو العام، فان ذلك أمر كفيل بحل مشكلة البطالة بشكل حقيقي وكبير وتقضي في الوقت ذاته على الجسم الحكومي المترهل التي صنعته السياسة الاقتصادية الفاشلة. إن الحلول الاقتصادية والاجتماعية للمشاكل التي ذكرت في البيان يكون “بالعدالة في توزيع الثرواتِ” لما يعلمه الجميع من بروز ظاهرة التمايز الطبقي والانقسام الاجتماعي المترتب اثر هذا التمايز. هذه الظاهرة نفسها خلقت مناخاً اجتماعياً مأزوماً أهم سماته عدم ثقة الشعب بالنظام السياسي ككل. ولا يتحقق هذا التوزيع العادل للثروات إلا بوجود “سلطةٍ قضائيةٍ تضمنُ منعَ الفاسدين من الاستئثارِ بالمال العامِّ”. إن انتقال البيان الى السلطة القضائية إشارة صريحة منه الى التقصير الكبير لهذه السلطة للحد من هذا الفساد، وهذا التقصير واحد من اكبر المشاكل العظمى في هذا البلد وهو من اهم البواعث التي دفعت الناس للخروج والتظاهر.

ويطلب بيان كتائب حزب الله من هذه السلطة إضافة لما ذكر من منع الاستئثار بالمال العام، أيضا “قطع دابِرِ الخونة”. فهو لا يقرر تقصير السلطة القضائية ولا تحديد وظيفتها التي عجزت عن القيام بها ويدعوها للنهوض بها وحسب، بل يلفت الى المشكلة الأعمق التي يعاني منها البلد وهي وجود الخونة الذين يجلسون في سدة الحكم من “الذين يعبثون بأمن العراق، ويتواطؤون مع أعدائه” وهذه من اعظم المشاكل.

إن الأعداء قد وضعوا مهاماً محددة لهؤلاء الخونة، وهي،

أولاً: منع هذا البلد من الاستقرار.

ثانياً: استنزاف إمكاناتِهِ الماديّة والبشريّة.

وينتقل البيان لتحديد هذا العدو بوضوح تام وبالتالي ليحدد ارتباط هؤلاء الخونة حين يقول “إنّ تدخلاتِ أمريكا كانت – وما زالت- تنتهكُ السيادةَ الوطنيةَ، وتعملُ على الدوامِ لتحقيقِ مآربها الخبيثة”. ويثير الوعي لدى الجمهور بأن ما يحدث في العراق هو جزء من مخطط لإثارة الفوضى في المنطقة عموماً ولا يتوقف عند حدود البلد ليعطي الجمهور إشارة الى النظر للإحداث الجارية بأفق واسع وعدم الانغلاق في اطر ضيقة لتضليل الناس كما تفعل بعض الدوائر عن عمد. ويحذر البيان من خطر أمريكا وخطر ادِّعاؤها مساندةَ مطالبِ الجماهيرِ، أو تقديمها توصياتٍ كما فعلت بإصدارها البيان الأخير عن البيت الأبيض بالدعوة الى الانتخابات المبكرة، ويصف أمريكا بانها بيت الشرّ، ولا يمكن أن يصدر من بيت الشر خيراً.

ويحذر البيان الجماهير من هذه الخُدعةٌ ويدعوها الى مراجعة سِجِلُّ أمريكا الإجراميُّ الأسودُ بحق شعب العراق، وشعوب العالم ليكتشف بنفسه نوايا هذه الدعوات. بَلْ انه ينبه هذا الجمهور الثائر الى حقيقة راسخة، أن فاقد الشيء لا يعطيه، فالذي يعامل الشعب الأمريكي نفسه وتظاهراته ومطالبه بأشدّ أنواع القمعِ، والقسوةِ، والتمييز العنصريّ، والكراهية، هل يصلح لأن يقدم نصائحاً أو يرتجى منه خيراً؟.

ثم ينتقل تخصيصا الى الدور الذي تمارسه السفارة الأمريكية في بغداد – وهي الأكبر في العالم- من أدوار التجسُّسَ والتآمرَ على العراق والمنطقة، ويشير الى مسألة مخفية عن عامة الشعب لم يصرح بها السياسيون من قبل بل تعمدوا عدم الإشارة لها مطلقا، ولا حتى بالتلميح البعيد، وهي تحمل عبء كبيراً من مصروفات هذه السفارة على ميزانية البلد من خلال تقديم خدمات خاصة لها. ويحدد البيان المهمة الحقيقية أمام الشعب والجماهير وهي التصدي لوكر التجسُّسِ وليس التوجه لسفارات وقنصليات أخرى وغض النظر عن بيت الشر. انه يتحدث عن الواجب “بقطعُ دابر هذا السرطانِ، وطردُ السفيرِ الأمريكيّ، وإغلاقُ سفارة الشر”، ويرى إن هذا فعلا اصبح لزاما عليه القيام وتجنب التساهل مع وجود هذا الوكر، لأنه سرطان ولا شفاء من هذا المرض الخبيث ألا بالاستئصال.

البيان يحدد هنا الخطوة التالية التي سوف تنهض بها كتائب حزب الله من عملية الضغط السياسي، لينتقل لمناقشة الوضع الداخلي ومشاكله بتشخيص دقيق لأصل المشكلة وتحديد صريح للواقع بلا مواربة، فيتهم النظامُ السياسيُّ الذي بُنِيَ على المحاصَصَةِ الطائفيّةِ، وتوزيعِ المناصبِ والمكاسبِ بين القِوَى التي تُمثِّلُ المكوناتِ، ويحدد العلة

أولا: في وجود هذا النظام بمصمَّمَهُ الاحتلالُ الأمريكيُّ،

وثانياً: يؤسس بعد الإقرار الصريح بعبثية هذا النظام الفاشل ومن أوجده لتحقيق أغراضه الخبيثة، تبعا للقواعد العقلية والمنطقيّة بخطأ التوجهات التي تحمَّلَ “قوًى لِمُكَوِّنٍ واحدٍ مَا آلَتْ إليه أوضاعُ العراقِ” ولا يدافع عنها بالمطلق.

انه يصف نتائج أعمال هذه القوى السياسية بالفشل الذريع في جميعِ المجالاتِ. ولا يكتفي بعدم تبرئة أحد، بل يدعو الى “أن تقِفَ جميعُ قِوَى المكوّناتِ تحتَ طائلةِ المحاسبةِ”، ويجعل ذلك أمراً لا يمكن التهاون به، بل يحدده بمفردة واضحة الدلالة وهي الوجوب. بكلمة أخرى أدق، فان هذا هو الأمر الثاني الذي سوف تسير عليه الكتائب في عملها السياسي بعد محاربة السفارة الأمريكية والسعي الى أغلاقها وطرد السفير الأمريكي، واعني به محاسبة كل أطراف السلطة والمحاصصة. يصف البيان أفعال تلك الجهات التي تدعي تمثيل المكونين الآخرين “بأقذرَ أنواعِ النفاقِ في وسائِلِهَا الإعلاميّةِ” وأنها لن تَنأى بنفسِهَا عَمّا حلَّ بالبلدِ مِن خرابٍ وفساد، بما “تمارسُ وتُحرِّض ضدّ النظامِ السياسيِّ في صورةٍ من صورِ الإستغفال والتضليلِ بحق شعبِنَا العزيزِ”، في محاولة منها لإخفاء الدور الذي تمارسه.

ويبدأ بتحديد تلك الجهات بوضوح صريح للغاية في تحديد الموضع التنفيذي ومَنشَأ المحاصصَةَ في تشكيلِ الحكومةِ وهو البرلمانُ؛ وتقدم الكتائب إعلانا ليس جديدا من حيث ما يطرح عن بيع المناصب، لكن لأول مرة تعلن جهة معروفة ومؤثرة عن وظيفة البرلمان في هذا النظام السياسي الفاشل بتحوّله من تمثيل الشعب إلى سوقٍ تُبَاع فيه المناصبُ والتعييناتُ، وصيرورته محلاً تعزِّزُ فيه مكتسباتِ عشائرَ معينة؛ مثلَ الكرابلةِ، والحلابسةِ الذين لهم السطوة الفعلية الآن في تمثيل الوسط السني، ويشير البيان الى تراجع دور آلِ النُجيفِيّ بالقول “في وقتٍ ما، ولكن تراجعهم هذا لا يبرئهم من القيام بهذا الدور التخريبي في بيع المناصب. ولا يكتفي البيان باتهام رئاسة مجلس النواب بالمحاصصة وبيع المناصب وحسب، بل إن “الأمرَ وصلَ إلى حدّ الخيانةِ العُظمى للبلاد، والمتاجرةِ بالقضايا المصيريّةِ المرتبطةِ بالأمنِ والسيادةِ”، في إشارة علنية للتعاون مع العدو الصهيوني من خلال علاقات يتم التكتم عليها من قبل القوى السياسية وأعلنت كتائب حزب الله منفردة عن هذا الدور الخياني الخطير الذي تقوم به جهات معينة وخصوصا رئاسة البرلمان.

ويواصل البيان تعرية هذا النظام السياسي بجرأة كبيرة بتشخيص “الفسادِ المستشرِي في رئاسة الجمهوريّة؛ وهو الذي يفتِكُ بالجسدِ العراقيِّ بما يفوقُ “تسعةَ” أضعافِ مستوَى فسادِ العاملينَ في منظومةِ السُّلطةِ التنفيذيّةِ”. وبملاحظة الرقم تسعة، وليس عشرة كما ألفت عليه العادة في الكتابة الإنشائية تتوضح لنا نوايا كاتب هذا البيان، بأنه ينوي القول إن هذا ليس اتهاما إنشائيا بالفساد، بل على علم ودراية وبأرقام دقيقة متوفرة لديه وهو تحذير لتلك الجهة أكثر من كونه تبيين لفعلها. ثُمَّ ينبه البيان رئيسِ الوزراءِ الى ضرورة الالتفاتَ من غفلته وإلى حقيقة قائمة لم يعطها الاهتمام اللائق بها، وهي أن القراراتِ الإصلاحية “التي اتخذها بدأتْ تُسَوَّفُ من بعضِ عناصر جهازِهِ التنفيذيِّ؛ خدمةُ للمشروعِ الصَّهيُوأمريكيّ”. وينبهه في ذلك الى الخرق الكبير الحاصل في مكتبه. مخاطبته بلقب السيد رئيس الوزراء كما فعلت المرجعية في كل خطبها منذ اندلاع الأزمة حتى الآن عندما تجنبت توجيه النقد له، يؤكد أن هناك ما يمكن التعويل عليه كشخص لحد الآن في مواجهة القوى السياسية المنشأ الحقيقي لسلطة الفساد. لكن هذا لا يعفيه من توجيه النقد له بالتباطؤ في عملية الإصلاح أو الغفلة الحاصلة عن حجم المخطط في تدمير الدولة واندساس عناصره الى أدق الأجهزة التنفيذية وأقربها لسلطة القرار الحكومي، وإن حسن نوايا رئيس الوزراء لن تعفيه من تحمل المسؤولية إن عجز عن القيام بدوره كما ينبغي.

وفي الختام يحدد البيان الموقف العملي لكتائبِ حزبِ اللهِ بالوقوف التامَّ مع مطالبِ المتظاهرينَ الحَقّةِ تمييزا لها عن بعض المطالبات ذي الأجندة الخاصة التي جرى تبيينها في ثنايا البيان. وتحدد كتائب حزب الله موقعها بأنها من المتظاهرين وأنها ليست جزءً من هذه الطبقة السياسية، وبالتالي إنها لن تقف في موقف الدفاع عن احد من هذه القوى السياسية، بل في المقابل سوف تصطف مع المتظاهرين. وسيكون العمل السياسي لكتائب حزب الله هو مراقبةِ الأداءِ الحكوميّ والبرلمانيّ عن قُرب، لا الاكتفاء بالوقوف بعيدا والانحصار في الجهد العسكري، وهذه نقطة مهمة جدا، ولأول مرة تعلن عنها كتائب حزب الله صراحة بتفعيل دورها السياسي من خلال المراقبة الجادة رغم إصرارها على تجنب المشاركة في العملية السياسية والجهد التنفيذي. هذه المراقبة لن تكون ضمن لعبة السياسة التي تسوف الإصلاحات، بل سوف تكون وفق الأُطر الزمنيّةِ التي طالَبَتْ بها المرجعيّةُ. إن الإشارة للمرجعية في هذه النقطة تحديداً يعني أن المرجعية هي الموجه والبوصلة الحقيقية للإصلاح، وانها تضع نفسها كواحدة من السبل الأخرى لإجبار القوى السياسية على التنفيذ كما ورد مؤخراً. ويعني هذا الخطاب فيما يعنيه أيضاً، أن هذه الجداول الزمنية واجبة الاحترام، وان العمل خلافها بما لا يحقّق مطالب الشعب سوف يرتب موقفا عملياً آخراً، يتطلب معه استخدام الثِقْل والإمكانات التي تتمتع بهما الكتائب، وهذه إشارات ذات مغزى كبير جدا توجهه الكتائب الى الجهات السياسية عامة، والى بعضها المحسوب على المكون الشيعي خاصة، بأن ساعة الإصلاح الحقيقي قد أزفت ومن يقف بوجه عجلة التغيير السائرة لخدمة الشعب، فلن يكتفى بإزاحته من السلطة، بل سوف يجري العمل على “اقتلاعِ جذورِ الفاسدينَ”. إن هذا الاقتلاع سوف يكون جذرياً، ولن يبقي لتلك الأحزاب والشخصيات من وجود، وان الخصام معها سوف يكون خصام وجود كما كان مع الدواعشِ والمحتلّينَ، وهذا هو عهدُ الشعب بنهج المقاومة والمقاومين الصادقين، ولن يخيبَ عَهدُه بهم، لأنه بالمقاومة فقط تحيا الشعوب.