22 نوفمبر، 2024 5:20 م
Search
Close this search box.

قراءة في المجموعة القصصية (امرأة وكائنات أخرى) قراءة في المجموعة القصصية (امرأة وكائنات أخرى)

قراءة في المجموعة القصصية (امرأة وكائنات أخرى) قراءة في المجموعة القصصية (امرأة وكائنات أخرى)

شعرية اللغة السردية .. ومثالية المضامين الإنسانية
يضعنا القاص عبد الهادي والي في مجموعته القصصية (امرأة وكائنات أخرى) أمام عتبة عنوان لمجموعته القصصية ذات سيميائية عالية متعددة المستويات الدلالية لمّا لرمزية (المرأة) في كينونتنا الوجودية من علّة فاعلة تجعل العنوان مختزلاً للكثير من المعاني الكامنة في ذخيرة المتلقي المعرفية من منظومة وعي تجاه هذه الوجود المكمل لعنصر الوجود الفاعل ألا وهو (الرجل) وكان لهذا الرمز المتوهج (المرأة) كم من الإشعاعات الدلالية التي تستفز القارئ وتجعله مندمجاً بوعيه مع تجليات العنوان ومتشوقاً لسبر أعماق المجموعة القصصية وفهم شفراتها ومضامينها وما تحمله من ثيمات ذات رسائل تعكس رؤية القاص ومواقفه الإنسانية تجاه القضايا الوجودية في حياته أو بعبارة أخرى المنظومة الأيدلوجية التي سربها الكاتب في ثنايا قصصه والتي تحمل بصمته الفكرية وموقفه من قضايا مجتمعه وقراءته المعرفية لها والتي يشي لنا عنوان مجموعته بومضة دلالية لموقفه أزاء وجوده وكأنه يجسد قول الفيلسوف الألماني (جوته) عن المرأة واختياره لها كعنوان لمجموعته القصصية : ((المرأة . . هي الإناء الوحيد الباقي لنا لنفرغ فيه مثالياتنا . . )) .

لقد كانت مجمل التجربة القصصية لعبد الهادي والي تتجسد في القصص الاجتماعية والإنسانية التي تحاكي الواقع وتضيف إليه أبعاداً تأملية تشد القارئ الواعي إلى عوالمها المفعمة بالحزن والمرارة لأناسٍ بسطاء يعيشون في الحياة ، منهم المهمش ومنهم المعذب والآخر جائع ، حياة صعبة قاسية رغم كل ذلك هناك بوارق الأمل والتكيف للظروف وهذا ما يتجلى لنا من أولى قصص المجموعة والتي هي قصة ( ثمره وحيدة ) فلقد كانت استذكاراً للأيام الصعبة وللطفولة المعذبة ، جعلها القاص لوحة وصفية عاجّة بالتفاصيل التي رسمت صوراً ووصفاً للبيوت والشوارع وللوقت القاتل الذي يسرق بقايا العمر ( ساعات شحيحة من وقت كالذهب النقي وساعات فائضة كالرماد هكذا كانت تمر بنا الأيام مخضلة بالحنين والدموع والأسى الخالص )ص4

إنّ القاص استطاع أن يوصل إلى المتلقي رؤيته الفكرية بأسلوب قصصي متماسك النسيج عن الوضع العام آنذاك المبتلى بالفقر والحرمان والذي يسوده الجهل المعرفي وانحسار الوعي الثقافي باستثناء نخب متعلمة قليلة ، لكن رغم كل هذه المظاهر المؤلمة والصور القاتمة نقل لنا تشريح رؤيوي عميق لبنية المجتمع في تلك الحقب الزمنية التي كان الأناس البسطاء يتحلون بطيبة القلب والعلاقات الحميمية بين الجيران والتي كانت هذه الصفات متجذرة داخل النفوس ، فلقد كان الكل متساوين في هذا الحي الذي عاشه الراوي في صباه (

الزقاق كومة هائلة من الطين مرصوفة على هيئة اسيجة وغرف متداعية تتعكز على ألواح تنخرها الرطوبة وديدان العثة )ص 4

فعلى الرغم من كم هذه المعاناة والأوجاع تبقى الأم الحنون التي هي (المرأة ) والتي جعل القاص منها رمزاً مركزياً متعدد المستويات الدلالية التي تتجاوز التركيب والجملة السردية ضمن النسيج القصصي بمعانيها العميقة التي تجعل القارئ يتأمل في أعماقها الدلالية ويكتشف الأبعاد الإنسانية الذي يحمله هذا الرمز المشع بل كانت في أغلب القصص هي البؤرة المركزية التي يدور في فلكها الحدث القصصي وإعطاء صور إنسانية ذات مستويات متعددة فهي الغطاء والخيمة التي تستر العائلة التي تتغذى على الحب والحنين هذا هو حال كل الفقراء وهذه بيوتهم التي يسكنونها ، لكن مع هذا ( تمر الأيام متتابعة ويتبعثر الحزن كغمائم متمزقة في الفضاء البعيد )ص9 لهذا جعل القاص قصته وثيقة إنسانية تصور هذا الكائن بتشريح دقيق وكأنما يتجلى الكل في الجزء الفاعل الذي هو الأم وارتباطها الجدلي بالبيئة المحيطة بها (لقد رعته يتيماً ، غرسة صغيرة، استطالت تحت وابل دموعها ، ثمرة وحيدة لشجرة راسخة الجذور . لم تدع الآخرين يزحمون قلبها ، أفردت شراعها لتبحر به وحده . ) ص 9 والتي منها ينطلق لإنهاء قصته بضربة رائعة ( لحظة تنوير ) : ( في طياتٍ لا متناهية من طوفان أيام منحدرة لا تتوقف عن الجريان)ص10.

إن القاص عبد الهادي والي كان لمرجعيته الفكرية وتأثره الثقافي تجليات في قصصه كونه متماهي مع الاتجاه الواقعي فلقد تميزت مجمل قصصه بالواقعية الانتقادية والتسجيلية وكان لفهمه العميق لهذا الاتجاه الأدبي قد منحه قدرة إبداعية على التشخيص والتحليل لتفاصيل واقعية وحوادث اجتماعية لها انعكاسات في واقع القاص وتأثيرات على المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه لهذا كانت قصصه عميقة ومستوعبة لأبعاد معاناة الإنسان ومصورة لتفاصيل الواقع المر الذي يحياه وهو من كتاب القصة الذي يعتبرون النتاج الأدبي موقف إنساني تجاه قضايا الإنسان ويحمل هذا الاتجاه رسالة إصلاح اجتماعي من خلال تقديم الواقع القاسي لإيجاد بديل يعلي من شأن الإنسان ويمنحه استحقاقه الوجودي ففي قصته (للسماء عيون تدمع أحياناً) يصور القاص المعاناة الإنسانية ضمن لغة سردية موحية وذات أبعاد إيحائية تعتمد التكثيف والاختزال عبر وصف تشريحي دقيق لردود أفعال الشخصيات وتصرفاتها التي تعكس الحالة الشعورية والمحيط المؤثر في أفعالهم ، الهروب من الطائرات ،الناس يسيرون في العراء ويختبئون في جحور تقيهم المهالك كأنهم قطيع يحاصرهم اليأس والاستسلام ، أما الأطفال فحالتهم يرثى لها ، فهم متمسكون بذويهم يركضون مع ريح لاهبة ، أيام كلها خوف وقلق يلوذون بالصمت مرة وأخرى يصرخون ، تخرج منهم زفرات حارة مؤلمة مكتومة في الصدور مع كل ذلك الأمل يلوح لهم من بعيد العشب والماء بانتظارهم ( لنتوقف عن الاندفاع الى الأمام ولنسلك طريقاً جانبياً يقودنا الى تلك التلال المنعزلة ، ثمة عشب كثير هناك ، وثمة

بقع لالتماعات أظنها مياه متخلفة عن أمطار سابقة ) ص42

لقد كان القاص على وعي عميق بقدرة اللغة الترميزية عن نقل كم دلالي متوهج من خلال عتبة عنونات قصصه الذي حمل رسائل تشفيرية ورموزاً مختزلة لثيمات القصة المركزية عميقة فنجد سيميائية العناوين ودورها في بعض قصص المجموعة كـ ( أصوات أشبه بالعويل ) ( وجوه كالحة ) (عبارة مكررة ) وغيرها…. فلقد فضح العنوان المضمون ، يقولون إن العنوان هو عتبة النص وأحيانا يكون العنوان الرامز يخفي المكنون مما يحث القارئ على أن يشارك الكاتب في تتبع الحدث ويكتشف سرديات الأحداث ليكون القارئ فاعلاً في النص ومتفاعلاً معه وتنتقل تجربة القاص من الإطار الذاتي للمنحى الموضوعي ويتشاكل مع تجربة القاص من يتطابق وموقفه أو من تمثل التجربة الذاتية نقطة تلاقي معه في مجتمعه وبيئته فتتحقق القصدية من العمل الأدبي الملتزم الذي يحمل في طياته مهمة إصلاحية كما ذكرنا آنفاً ،لهذا كان للعنوان وظيفة تحفيزية ودور يكشف للقارئ الواعي سر القصة منذ البداية بعيداً عن الغموض ، فقصص عبد الهادي والي أعتبرها قصصاً وصفية واقعية اجتماعية فيها جمالية ، تضاف إليها أبعادا جديدة مثيرة وساحرة وفي نفس الوقت مؤلمة هذا الخليط الهارموني المتناقض يجعلها أكثر قوة ورصانة خصوصاً إن لغة السرد لديه متماسكة مما يدل على تمكنه واقتداره لغوياً فلغته كانت تتطابق ومقتضيات البناء القصصي وذات شعرية عالية تشع بمستويات دلالية مألوفة للقارئ وحميمة ،(لتبدأ مسيرة نهار جديد ينسج على منوال متناغم هو نسخة معادة لنهارات سابقة تعج بنسوة لا تبرز من وجوههن سوى أعين تلتمع بالوشاية …) ص22

بالإضافة إلى الغنى اللغوي الذي حمل أفكار ورؤى الكاتب ونظرته تجاه واقعه ووجوده ، كان البناء الفكري لقصصه ينقل لنا أفكاراً نبيلة ومضامين إنسانية ملتزمة بالأفكار والمعاني والموضوعات الذاتية والنفسية والشعورية والعاطفية من حب وهيام وعشق وأمومة وتعلق بالأخر والتفاؤل بالمستقبل والانكسارات وسلب الحريات والخيبات والفشل والخيانة والنجاحات وغيرها ، مما يدل على عدم ارتكان القاص الى وتيرة واحدة في السرد بل كان يعمد الى التنويع ليخلق أثرا جميلاً .. إن الهم الاجتماعي كان من أكثر الثيمات أو الأفكار التي تتناولها المجموعة ، كان اهتمامه منصبّاً على معاناة الأناس البسطاء والكادحين الذين يعانون الفقر والجوع وهي استذكارية تحمل في طياتها أيام الطفولة ، والعلاقات الحميمية التي ترتبط بها العوائل البسيطة وتبقى الحوادث راسخة في مخيلة القاص حتى الكبر في قصته : (عبارة متكررة) حكاية شيقة يرويها القاص مستذكراً يوم تسجيله في المدرسة لأول مرة بصحبة أبيه ، وخوفه الشديد آنذاك من أن يتركه والده وحيداً في المدرسة ، ترن في ذاكرته عبارة أبيه

المؤثرة : ( سوف تتعلم يا ولدي وسوف تكبر فلا تخف )ص31 .. يستعيدها الراوي وهو يخاطب بها حفيده حين يقوم بتسجيله في المدرسة لأول مرة !

إن عناصر البناء القصصي في مجموعة القاص عبد الهادي والي كانت وفق العناصر التي تكوّن القصة وتكسبها هويتها الإبداعية والجنس الأدبي الذي تنتمي له لأن القصة يجب أن تتكون من عناصر تمنح القصة شكلها الفني الذي يميزها عن الأجناس الأدبية الأخرى لهذا التزم القاص بعناصر البناء القصصي وبدت ظاهرة في كل قصصه (فالحبكة) : في المجموعة متماسكة وترتبط بها مجمل الأحداث عضوياً لتكون مركز ثقل القصة الذي تستمد منه التوازن (والأحداث) : تم تنسيقها بطريقة سلسة ومحكمة تتلاحق وتتوالى في اتجاه معنى الحدث. أما (النسيج) : أو البناء كان متماسكا في أغلب قصص المجموعة مترابطاً بوحدة عضوية من خلال الثيمة المركزية للقصة وأما الشخصيات في المجموعة: فكانت متعددة المستويات ومتطابقة مع البيئة التي تحياها من طبقةٍ فقيرة مدمرة ومستغلة ومهمشة ، أننا أمام أديب متمكن ، كاشفا عن معان إنسانية جميلة منسوجة في وعي كبير بالحياة وتقلباتها ، وألوان المجتمع وانحرافاته ، فكان اهتمامه منصباً على كشف وتعرية الواقع وإدانة كل سلوك يخرج عن القيم والمبادئ الإنسانية . كما في قصته ( طقوس فريضة سرية ) إدانة للواقع الفاسد الذي فرضته الأنظمة الشمولية الدكتاتورية التي ابتليت بها الشعوب والتي تساقطت الواحدة تلو الآخرى ، فلا أحد يقوى على الاعتراض أو المحاججة ، الكل يجب أن ينصاع للأوامر ( واستطرد بعد صمت قليل وهو يقلب أوراقا بين يديه :لا ينقصك سوى ذنب تخلفك وعصيانك الدائم عن الانتماء الى الحزب) ص101

لقد برز في هذا المجموعة القصصية (الأسلوب القصصي ) الذي تميز به الكاتب وعكس وعي عميق بفاعلية وقدرة اللغة بنقل أدق التفاصيل الذاتية والواقعية فكان القاص دقيق في اختيار مفرداته اللغوية الموحية التي شكلت قاموسه اللغوي بعيداً عن المفردات الغامضة وتميز أسلوبه بالبساطة والوضوح والابتعاد عن الجمل والتراكيب الغارقة في الغموض والتي تشتت القارئ وتفقد العمل الأدبي وظيفته الأساسية وهي الرسالة الأخلاقية الإصلاحية والتي تؤدي وظيفة حياتية فالأسلوب القصصي وسيلة وليس غاية الغرض منه تحقيق قصد الكاتب في إيصال رسالته لهذا جاءت عناصر الأسلوب القصصي متطابقة ومقتضيات البناء القصصي فالحوار كان يتطابق ومستوى الشخصيات المتحاورة(قال لها مازحاً : – (هل تتزوجيني ؟) ردت على الفور : ( سأكون أسعد الناس ) ( الا يخيفك فارق السن بيننا ) ( رجل ناضج مثلك سيعوضني الكثير ) ) ص87

وأما السرد الوصفي في القصص كان يرسم بدقة متناهية تفاصيل المكان بلوحات واقعية إذ قلّما تخلو صفحة من وصف حسي أو معنوي أو صورة محفوفة بالألق الجميل ( أسند رأسي

إلى حيطان متأرجحة أدور كقشة صغيرة وسط دوامة ريح لا تهدأ ./ أنقذف ناحية نجم أزرق من علٍ يسحبني في سكناتي ويقظاتي الدائمة./ قلت له مغضباً ذات ليلة : ( أغرب عن سمائي فلن أصحبك أبداً إلى قمر باردٍ بعيد ) / أي لحن هذا الذي يداعب أوتاراً مقطوعة في النفس زرقة شفافة تطفو أمامي بلون السماء الصافية وأوهام تخترق جمجمة خاوية )ص 92 ..

لقد كنّا في قراءتنا النقدية أمام تجربة قصصية واعية وملتزمة تجاه قضايا واقعها المصيرية ومستوعبة لتأثير الماضي في تشكيل الحاضر لقاص مقتدر يمتلك وعياً عميقاً بجماليات السرد القصصي مع الدقة في اللغة التي استطاعت أن تحكم معاني وبنيان قصصه فضلاً عن الوصف والخيال الذي يجعل القارئ يندمج معه ويشكل وجوداً ملموساً للوجود المقروء في القصص ، مما أضافَ للإبداع رافداً جديداً محتفظا بنكهة القصص الأصيل ناقشا اسمه في تيارات السرد وأشكاله الجديدة .

المجموعة القصصية (امرأة وكائنات أخرى) تحتوي على تسع عشرة قصة في 133 صفحة من الحجم المتوسط صادرة عن دار الضياء للتوزيع والنشر / النجف.

أحدث المقالات