وقع بين يديّ، مؤخّرا، كتيّب يحمل عنوان “الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الإتّجاه الإسلامي” المعروفة اليوم بحركة النهضة ” أصدرته هذه الحركة التونسيّة -التي كانت تسمّى حركة الإتّجاه الإسلامي – منذ ما يزيد عن الربع قرن، أي في بداية فترة حكم الطاغية بن علي وقبل خوضها تجربة الحكم المريرة بعد ثورة 14 يناير2011. ومعلوم أنّ الحركة التي عرفت نشاطا مكثّفا في الأوساط الطالبيّة و الجامعيّة التونسيّة منذ بداية سبعينات القرن الخالي، لم تعلن عن وجودها الّا في منتصف سنة1981 في مناخ إجتماعي وسياسي غير مهيئ ولا مرحّب بالمشروع الإسلامي الذي كان يعتبر آنذاك فكرا غيبيّا، ظلاميّا ووهميّا. حتّى أنّ زياد كريشان وهو من “اليسار الإسلامي”، و أحد أبرز قيادات “الاتجاه الإسلامي” في الجامعة، كان يدعو إلى أن « يتخلّص الانسان من هيمنة السماء وأن يعيد علاقته معها على أساس الندّية والمساواة، وهو ما لا يحصل الّا بالعقلانيّة التي تتنافى مع ربّ لا راد لكلماته ولا معدّل لحكمه»
وقد عرض الكتيب، بداية، إلى الرؤية الفكريّة/العقديّة لحركة النهضة ثمّ إلى المنهج الأصولي لها. وهما الرافدان الرئيسان اللذان تعتمدهما في تصوّرها للإنسان كما للحياة والكون، وفي مواقفها من القضايا السياسيّة و الإقتصاديّة والإجتماعيّة والثقافيّة ونحوها إن على المستوى الوطني أو على المستوى الإقليمي والدولي.
فأمّا الرؤية الفكريّة/العقديّة فتعتمد على مرتكزين إثنين يمثّلان المرجعين الأهمّ، وهما « القرآن الكريم والسنّة المتواترة ». وهو، لعمري، أمر طبيعي بالنسبة لأي حركة إسلاميّة تنشد الإصلاح والإسهام بقسطها في النهوض بالأمّة من منطلقات ومرجعيّات دينيّةّ، ضرورة أنّ النصّ القرآني هو النصّ المؤسّس و الرئيس وأنّ نصوص السنّة المتواترة هي نصوص أساسيّة لا تقلّ أهمّية عمّا ورد في القرآن باعتبارها من نصوص الوحي. لذلك فقد جاءت هذه الرؤية الفكريّة والعقديّة مستوحاة من هذه النصوص جميعها، بل وكذلك “من ظواهر الكتاب المعضٌدة بما صح من أحاديث نبويّة». بما جعل «أصحاب هذه الرِؤية لا يكفّرون مُسلما » لقول جاء على لسانه أو لرأي أبداه أو حتّى لمعصية أتاها، بعد أن يكون قد نطق بالشهادتين وقبل بأركان العقيدة الستّة، من إيمان بالله ، وبملائكته ، وبكتبه ، وبرسله ، وباليوم الآخر ، وبالقضاء والقدر، ثمّ مارس الشعائر الدينيّة والفروض وابتعد عن نواقض الإسلام. وهو موقف منسجم مع مدلول الآية الكريمة: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء}ومتناقض مع رأي “الخوارج” الذين يكفّرون المسلم بكبائر الذنوب رغم انّها لا ترقى، بداهة، إلى الشرك والكفر. كما أنّه موقف لا يتّفق مع ما يذهب إليه “المرجئة ” الذين لا يكفّرون المسلم مطلقا ولو أتى المحرّمات و النواقض وترك الواجبات، لأنّ ما يعنيهم فقط هو تصديق المسلم بوجودِ اللهِ و بوحدانيته وبدينه في قلبه وليس بالضرورة العمل
بالشعائر والفروض و الإنكفاف و الإنتهاء عن المنهيات. و عموما فإنّ موقف ومذهب حركة النهضة من التكفير إنّما هو الموقف الوسط “المحمود” الذي تبنّاه أهل السنّة والجماعة، والذي يجمع بين نصوص الوعد التي أخذ بها المرجئة، وهم متطرّفون، ونصوص الوعيد التي أخذ بها الخوارج وهم متطرّفون أيضا. وهو موقف لعلّه يتماهى مع المفهوم الأرسطي للفضيلة بما هي «الوسط بين تطرّفين مذمومين»
بهذا المعنى ووفق هذا الفكر والتصوّر فإنّه بالنتيجة « لا يُقبل عمل إذا لم يكن وراءه هذه العقيدة كدافع للعمل وواقع حسبما تقتضيه هذه العقيدة » التي لها أبعاد واقعيّة عديدة على مستوى الفرد كما الجماعة باعتبار أنّها عقيدة توحيد بما هي «نظام كامل متناسق في حياة الإنسان والكون» تقوم على” تكريم الإنسان وعلى إطلاق يديه وعقله وضميره وروحه من كلّ عبوديّة» و« ليست مجرّد معرفة تجريديّة طبيعتها التأبّي عن معالجة الواقع». كما أنّ الحركة لا تفرّق « بين التوجّه لله بالشعائر والتلقّي منه في الشرائع». لذلك فهي ترى أنّ « الإنحراف عن أي منهما يُخرج صاحبه من الإيمان والإسلام قطعا». وهو ما قد يتعارض ضمنيّا، مع موقفها الوسطي من التكفير الذي عرضنا له، ومع مصادقتها على الدستور التونسي الذي لا تنصّ مواده على أنّ الشريعة الإسلاميّة هي المصدر الأساس للتشريع. ولكن قد لا يكون ذلك من قبيل السلوك السياسي والديني الملتبس، بقدر ما يعني أنّ الحركة قد تكون أرغمت ليس من منطلق الواقعية السياسيّة بل تحت حرج اللحظة وفي سياق استيعاب المرحلة المتّسمة بضغوطات المعارضة إلى القبول بما يخالف رؤيتها الفكريّة. أو لعلّها قامت بعد تولّيها السلطة بنقد جذري أو ببعض المراجعات لرؤيتها العقديّة وبلورتها لتتكيّف وتتأقلم أكثر مع الواقع السياسي للمجتمع التونسي والعربي عموما
بعد الثورات العربيّة ، آخذة في الاعتبار التطوّرات الجارية والواقع على الأرض، ولا سيما إثر سقوط الإخوان في مصر بعد الإنقلاب عليهم، بما يؤشّر- ربّما-على تشظّي الإيديولوجيّة الإخوانيّة التي لعلّها تشكّل الرؤية الفكريّة الأمّ للإسلام السياسي السنّي على الأقلّ. وفي كلّ الحالات فإنّ دلالة ذلك هي أنّ بعض مواقف النهضة قد لا تبنى وتؤسّس على ما وقع تنظيره سلفا بل تبنى على راهنيّة المشهد السياسي والإجتماعي دائم التحرّك. وهو سلوك مختلف عمّا تسلكه أغلب حركات الإسلام السياسي.
وأمّا المنهج الأصولي لحركة النهضة فيتعرّض إلى قضيّة العقل والنصّ، محاولا التوفيق بينهما و مبيّنا « ما لكلّ منهما من دور في إنجاز مهمّة الإنسان في الوجود »، وموليا لهذه القضيّة العناية القصوى التي تجعلها في موضع « التأصيل المنهجي والعقدي والمعرفي». و رغم أنّ الإنسان في العقيدة الإسلامية « يشترك مع سائر المخلوقات في المأتى وفي المصير »، إلّا أنّه يمتاز عنها بمظاهر « التكريم والتسخير » واكتساب العقل الذي بفضله تكون، ليست إرادته فحسب حرّة، بل وكذلك اختياره الذي يكون مسؤولا عنه باعتباره اختيارا حرّا يترتّب عنه إمّا الثواب أو العقاب. «بما يجعل لحياة الإنسان غاية سامية هي التعلّق بالخير وفعله ونبذ الشر وتركه وتحقيق خلافة الإنسان على الأرض».
ولكن، قد يكون من المفيد كنه العلاقة الجدليّة ما بين العقل كما وقع تعريفه، و النصّ بما هو وحي مطلق الحقائق « يتناول مظاهر الحياة جميعا » في ثنايا خطاب شامل، « كلّي عامٌ للنّاس كافة » يشتمل على « نصوص قطعيّة الدلالة، لا تحتمل إلا معنى واحدا، ونصوص ظنيّة الدلالة يتردّد معناها بين وجوه مُختلفة ..كما يشمل نصوصا قطعيّة الورود وهي القرآن و الحديث المتواتر، ونصوصا
ظنّية الورود وهي أحاديث الآحاد». وترى الحركة أنّ الوحي « لا يُقدّم مبادئه التشريعيّة للحياة بوصفها علاجا موقوتا »، أو بوصفها تنظيماً مرحلياً، بل « يُقدّمها دائما باعتبارها الصورة النظريّة الصالحة لجميع العصور، والقادرة على التكيّف وفقا لظروف مختلفة ». كما أنّ « حقائق الوحي لا تنافي حقائق العقل ومبادئه» رغم أنّه، أي العقل، لا يبلغها مباشرة، بل يتوصّل إليها عن طريق « المقايسة والموازنة والإنتقال من المقدّمات للوصول إلى النتائج». وباعتبار أنّه « محكوم بظروف المادة زمانيّا ومكانيّا، لأنّه يعتمد معطيات الحسّ»، فإنّه لا يتمكّن إلاّ من « الإدراك النسبي للحقّ والخير».
واعتمادا على هذه المفاهيم لكلّ من الوحي من جهة، والعقل من جهة أخرى، فإنّ مقاربة حركة النهضة لبلوغ تحقيق آمال ومصالح النّاس تكون في إطار « تحقيق مقاصد الشريعة وإقامة مصالح الأمّة »، وفي سياق الجدليّة القائمة بين النصّ القرآني /الوحي والعقل دون التعسّف على أيّ منهما، أي « دون إهدار أو تعطيل لنصوص الكتاب والسنّة، ودون إلغاء لدور العقل في فهمها وتنزيلها في واقع الحياة ». إلّا أنّ الحركة متّهمة من بعض التيّارات الدينيّة اليمينيّة بتهميشها للعلم الشرعي وإعلاء منزلة العقل على حساب النصّ، ويتّهمها الإسلاميون اليساريون التقدّميون بإعلاء مكانة النصّ على حساب العقل وعلاقته بالحقائق المُطلقة والأحكام القطعيّة. بما يعني التقصير في الفهم المقاصدي للنصوص الذي قد يؤدّي من زاوية نظرهم إلى العمل بالمصلحة حتى عندما تخالف النصّ. بما يوافق مقولة «تقديم المصلحة على النصّ» للفقيه الحنبلي نجم الدين الطوفي منذ سبعة قرون، رغم ورودها في سياق مختلف لا تعنيه سوى المصالح الفقهيّة صارفا النظر عن المصالح الدنيويّة.
وفي كلّ الأحوال فإنّ هذه المقاربة تنجز على مرحلتين إثنتين هما: مرحلة فهم الوحي ومرحلة تطبيقه.
فأمّا مرحلة الفهم فتكون عن طريق «البحث عن مراد الله تعالى فيما أمر به ونهى عنه في نصوص الوحي » إعتمادا على الأسس اللغويّة والعقليّة و المقاصديّة و الظرفيّة والتكامليّة التي تعني إستحالة التناقض بين أحكام الشريعة فيما بينها. ذلك أنّ « النصّ القطعي الثبوت الدلالة لا يُناقض الحقيقة العلميّة الثابتة ». يشار في هذا الصدد أنّ العقل يفهم نصوص الوحي وفق صيغتين إثنتين، إحداهما قابلة للتغيير لأنّها « نشأت من النظر في نصوص ظنّية في ثبوتها أو دلالتها ما لم يرد فيها إجماع من الصحابة ». أمّا الثانية فهي إطلاقيّة غير قابلة للتغيير. وهي المتعلّقة بالأساس ب«الأفهام الناشئة من النظر في النصوص القطعيّة»، إضافة إلى« الأفهام الناشئة من النظر في نصوص ظنيّة ولكنّها حظيت بإجماع الصحابة عليها».
وأمّا مرحلة التطبيق التي «تصل الأحكام بالواقع الإنساني بغاية الإنسجام بينهما»، فتكون بفضل منهج لتطبيق الوحي يعتمد لا فقط على العلم بعلل الأحكام التي تمكّن أبناء الحركة من « تحرّي مقاصد الأحكام في نصوص الوحي قدر الطاقة»، بل وكذلك على العلم بالواقع بما فيه واقع الأفعال الإنسانيّة، في «مختلف أحوالها وأسبابها ودوافعها وتأثّرها وتأثيرها». وبالتّالي معرفة هل أنّ « الفعل يندرج تحت الحكم المعيّن ليُطبّق عليه أو يندرج تحت حكم آخر ..وما إذا كان هذا الفعل مستجمعا للشروط التي تجعل تطبيق الحكم عليه مؤدّيا إلى تحقيق المقصد القريب فيُطبّق، أو غير محقّق فلا يُطبّق». ولعلّه يتجلّى بوضوح أنّ هذا المنهج في التعامل مع الوحي على مستوى الفهم وعلى مستوى التطبيق، يسعى قدر
الإمكان أن « يحقّق صلاح نظم الشريعة لكل زمان ومكان» مع تلازم الأخذ في الإعتبار للمقاصد الشرعيّة وللظروف الزمكانيّة، «إذ أن تطبيق أحكام الوحي تطبيقا آليّا بدون وعي بمقاصدها وطبيعة الواقع المنزّلة فيه قد يِؤدي إلى فوات مصلحة أو إلحاق ضرر بالنّاس من حيث قصد الشارع تحقيق النفع لهم..».
ما يمكن ملاحظته حول هذه الرؤية أنّها، على مستوى الصياغة التي تولّاها الدكتور ”الأزهري” عبد المجيد النجّار، لا تستشكل على غير المختصّين مثلي، وعلى المستوى الفكري والأصولي، فهي بمثل ما لا تقبل الغلو والتطرّف فهي لا تسمح في ذات الوقت لا بمخالفة مقاصد الشريعة ولا بالإضرار بمصالح المسلمين. كما لا تقبل لا بتاليه العقل ولا بتهميش دوره في فهم هذه المقاصد وتنزيلها في الواقع المعيش. وهو عكس ما درجت عليه –عموما- الحركات الإسلامية التي تدعو لتطبيق نصوص الوحي بشكل دغمائي حرفي دونما مراعاة لضغوطات الزمان والمكان. ولعلّ هذا الطرح العصراني والعقلاني المستنير، غير المتحلّل من مصدر التلقّي و لكنّه غير المتمسّك في ذات الوقت بحرفيّة النصّ ولا موغلا في الماضوية ولا مستغرقا في الإهتمام بالبعد العقدي والأخلاقي فقط، كما هو حال التنظيم الإخواني، بل يؤمن بأنّه « لا بدّ من الالتصاق بالجماهير وهموم الوطن والتخلّي عن المثالية »، مثّل تعبيرا عن تحوّل عميق بالنظر إلى المناهج الفكريّة والعقديّة لما يعرف بالإسلام السياسي. وهو ما جعل الغرب يصف زعيم الحركة راشد الغنّوشي بـ”الليبيرو إسلامي”، كما أسهم في إكساب الحركة شعبيّة كبيرة خلال سبعينات القرن الخالي داخل البلاد وخارجها، وجعل أتباعها لا ينتفضون من حولها عند تعرّضها لمحنتي الثمانينات و التسعينات بتجفيف الدكتاتور بن علي لمنابعها
قبل وبعد انقلابه على بورقيبة. وذلك لقناعتهم بتميّز الحركة عن غيرها من الحركات الإسلاميّة الوسطيّة أو المتطرّفة.
ما نستشفّه دون عناء من مضمون فكر الحركة ومنهجها الأصولي، أنّه متأثّر بالعقيدة الأشعريّة التي تذهب إلى أنّ العقل يفيد اليقين أكثر من النقل. كما أنّه فكر يستبطن الدعوة إلى الاجتهاد والتجديد ويرفض التعصّب المذهبي ، ما يعني أنّه ذو منزع عقلي و فلسفي لعلّه يساهم في ترشيد الإسلام السياسي. كما أنّه متأثّر إلى حدّ كبير بفكر كلّ من المفكّر الجزائري مالك بن نبي الذي نادى بالإقتراب من الواقع المعيش و إنتاج مواقف من وحي هذا الواقع والدكتور حسن الترابي كأحد أبرز دعاة التنوير والتجديد الإسلامي لا في السودان وحسب، بل وفي كافة أرجاء العالم الإسلامي. وما يكرّس هذا الإستنتاج أنّ زعيم الحركة راشد الغنّوشي كثيرا ما، شجّع على قراءة كتب بن نبي ونوّه بفكر الترابي. بل إنّه اشترك مع الترابي في نشر كتاب بعنوان “الحركة الإسلامية والتحديث”، علاوة على إهدائه له كتابه الشهير “الحريّات العامّة في الدولة الإسلاميّة”.
ولعلّ من نقائص هذه الرؤية أنّها لم تتعرّض إلى موقف حركة النهضة من موقع ودور المرأة في المجتمع العربي الإسلامي ولا سيما موقفها من مجلّة الأحوال الشخصيّة التونسيّة، ولم تستفض في شرح مفهوم القضاء والقدر بمثل ما استفاضت فيما يتعلّق بباقي أركان العقيدة. لأنّ الفهم الخاطئ لهذا الركن يستتبعه بالضرورة القعود عن العمل وعن الفعل المحرّك للتاريخ. كما جاءت هذه الرؤية الفكريّة والمنهجيّة تفتقر إلى الرؤى السياسيّة والإقتصاديّة والإجتماعيّة والثقافيّة للحركة وكذا موقفها من العنف والإرهاب الذي أصبح يمثّل اليوم خطرا داهما على المجتمع، ينضاف إلى
المشاكل اليوميّة الكثيرة « التي يحسّ بها الناس ويتألمون منها » كما جاء في الكتيّب موضوع المقال.