18 ديسمبر، 2024 1:08 م

قراءة في التجربة الليبية

قراءة في التجربة الليبية

مقدمة

لعبة الزعيم انتهت! 
 
تعجز آليات التحليل والبحث والمناهج التقليدية في تفسير الأحداث الرهيبة التي تعيشها المنطقة العربية منذ مطلع العام 2011، بسبب تصاعد الثورات والاحتجاجات الشعبية التي أسقطت القلاع الأمنية الحصينة والرموز السياسية،التي كانت تظن أن إرادة الناس قد سحقت، وتراهن على أن تغييب الوعي المتعمد سوف يمنح حصانة أبدية للحاكمين.
ولعل من أكثر العاجزين عن فهم ما حدث وسوف يحدث هم الحكام وأجهزتهم المخابراتية والإعلامية،نتيجة القراءة المختلفة للواقع، بين الحكام والمحكومين، وقد كشفت تلك الأحداث غير المسبوقة، وغير المتوقعة، عن ظاهرة الافتراق بين(النص) و(السلوك)، ومن ثم التصادم المدمر بين(العقل) و(الجهل) في الواقع السياسي العربي،ولن أزعم اعتمادي منهجاً علمياً محدداً في دراسة هذه الظاهرة، التي ينبغي أن تكون من أهم مجالات الانشغال البحثي الأكاديمي خلال السنوات المقبلة، عبر مناهج التحليل التاريخي والسياسي وتحليل المضمون والاستبيان والمقارنة وغيرها، بيد أنني سوف اعتمد التجربة الذاتية في معايشة تجربة عربية،سمحت الظروف أن أطّلع على بعض جوانبها عن قرب، وهي التجربة الليبية، التي تعد نموذجاً يستحق الدراسة والتمحيص، من اجل استخلاص العبر والدروس من تاريخنا العربي الراهن، المثقل بالنكسات والخيبات والهزائم.
في أواسط الثمانينيات، من القرن الماضي،كنت بين عدد من طلبة الدراسات العليا، في معهد البحوث والدراسات العربية في بغداد،ولعل من حسن حظنا أن المشرف علينا كان العلامة المصري الأستاذ الدكتور حامد ربيع(رحمه الله) صاحب نظرية الأمن القومي العربي،وأستاذ كرسي العلوم السياسية في العديد من الجامعات العربية والعالمية، وقد فوجئنا، ذات مرة،في خضم الصراع الدموي، بين العراق وإيران، أن الدكتور ربيع راح يتحدث أمامنا عن مستقبل المنطقة بطريقة عجيبة،كأنه نوع من الخيال أو الكابوس الذي لا يصدقه العقل،مؤكداً أن  الأحداث القادمة سوف تكون أغرب مما يتخيل الكثيرون، فقال أن العراق ومصر، كانا وسيظلان يمثلان ركيزتا الأمن القومي العربي، وضعفهما معاً أو أحدهما، سوف يجعل من العرب الآخرين في أسوأ حال،وبعد خروج مصر من المعادلة العربية- الصهيونية، من خلال اتفاقية كامب ديفيد، وانتقال مركز الثقل نحو بغداد، ثم توريط العراق في حرب طويلة مع إيران،قد ترك فراغاً استراتيجياً هائلاً،على الساحة العربية سوف يتقدم لملأه واستغلاله حكام عرب،غير مؤهلين لقيادة الأمة، وغير مدركين لمصالحها،وغير حريصين على مستقبلها، ولعل بداية الكارثة قد اتضحت من خلال سيطرة حكام طائشين وفاسدين على السلطة، وقيام أولئك الحكام بالحديث باسم العرب وتقديم المبادرات في المحافل الدولية نيابة عن الأمة العربية،وسوف تكون الحقبة القادمة، أي أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين،هي (الحقبة النفطية) السوداء في تاريخ العرب الحديث،حيث يصبح النفط نقمة وليس نعمة،لأنه سوف يكون سلاحاً بيد الحكام ضد شعوبهم، وسوف يقوم الحكام العرب بنهب ثروات الشعوب علناً، وسوف يوجهون ترسانة الأسلحة الفتاكة إلى صدور الشعوب بدلاً من محاربة إسرائيل!
وفي إحدى المحاضرات وصف الدكتور حامد ربيع النظام السياسي(الثوري) في ليبيا بأنه:” تعبير صارخ عن المراهقة السياسية”..وأضاف:”كنت في زيارة لجامعة بنغازي في ربيع عام 1977، وقد شاهدت بنفسي كيف يقاد الأساتذة والمثقفون إلى المشانق، دون محاكمة،فأدركت أن هذا الشعب العربي الطيب قد وقع في مخالب كائن متوحش”!!
بعد أيام قليلة، شهدت ساحة الحرب بين العراق وإيران تطوراً خطيراً، وهو ما سمي بحرب الصواريخ، فقد استهدف صدام المدن الإيرانية بصواريخ أرض- أرض بعيدة المدى، وقد ردت إيران بإطلاق موجة من الصواريخ العمياء، وسرعان ما تبين أن تلك الصواريخ كانت هدية من القذافي لإيران،الذي أعلن انحيازه إلى الجانب الإيراني، بدلاً من أن يعمل على إطفاء نار الفتنة بين الشعبين الجارين المسلمين في حربهما الطويلة!!
  وفي إطار العداء الشخصي، بين صدام والقذافي، غير المفهوم من أغلب العراقيين والليبيين حينذاك، دارت في أواخر الثمانينيات، حرب قذرة على الحدود الليبية- التشادية،كان النظام الصدامي مشاركاً فيها من خلال تزويد الجانب التشادي بالمال والسلاح ضد الأشقاء الليبيين!!
 كل من صدام والقذافي كان يعتبر جمال عبد الناصر قدوة في الزعامة العربية،رغم سقوط أسطورة الزعيم العربي،وهزيمة المشروع الناصري، وكل منهما كان يتخيل نفسه قائداً عالمياً،فيلعبان على حبال حركة عدم الانحياز تارة، وعلى الوحدة العربية تارة أخرى،ثم ابتدع القذافي لعبة الولايات المتحدة الأفريقية، ونصّب نفسه ملكاً لملوك إفريقيا!!
الظاهرة الصدامية والقذافية انتشرت مثل الفيروس اللعين في المنطقة العربية، منذ مرحلة الستينيات من القرن العشرين، وأفرزت نوعاً عجيباً من الحكام العرب تسلطوا على الشعوب العربية، عبر الانقلابات العسكرية والمؤامرات والاغتيالات السياسية، في مرحلة ما بعد الاستعمار،وراحوا يتلاعبون بالشعوب والأوطان وفق نزعاتهم الشخصية المنحرفة ونزواتهم الشاذة، التي تفاقمت في ظل سلطة العائلة،وسلطة السيدة الأولى، وسلطة الأولاد والأقرباء وبطانتهم الفاسدة.
بعد سقوط صدام عام 2003 أدرك القذافي أن زمن الدكتاتوريات العربية قد انتهى،فأعلن موقفه المدافع عن صدام ورغبته في تشييد تمثال في طرابلس لطاغية العراق المقبور،بعد إسقاط تماثيله التي لا تُعَد في بغداد، وذلك ليس حباً بعدوه اللدود السابق، وإنما خوفاً على مصيره القادم لا محالة..تلك اللحظة كانت بداية سقوط الزعيم الأوحد!
   كان القذافي  يدافع بصلافة عن شبيهه وعدوه صدام، ولم يتحدث، مرة واحدة عن معاناة الشعب العراقي،وقد قامت عائشة القذافي بتمويل فريق من المحامين العرب المرتزقة من أجل الدفاع عن صدام،وكان الإعلام القذافي يروج لصورة الرئيس العربي الشهيد، وهو ما جعل بعض الأشقاء العرب، وبالأخص الليبيين، مع الأسف،يقعون ضحية تلك الخدعة!
   عشية الثورة الشعبية في ليبيا انكشفت اللعبة،فالقذافي لم يدافع عن صدام، وينحاز ضد شعب العراق المظلوم فحسب، بل أعلن انحيازه،إلى جانب طاغية تونس الهارب وحاكم مصر المخلوع، وظهر صاحب الكتاب الأخضر،والمبشر بعصر الجماهير، في خطابات تلفزيونية، وهو يوبخ الشعوب الثائرة،ويمتدح الحكام الفاسدين المهزومين، وقد نسي نظريته الجماهيرية إلى الأبد!!
نهاية القذافي الدموية كانت نتيجة طبيعية لشخص ظل أكثر من أربعة عقود يمارس لعبة خطرة،ويتوهم ان الشعارات والكلمات الرنانة يمكن ان تحجب الحقيقة عن الناس!  
هذا الكتاب يمثل قراءة صحفية وسياسية عميقة في التجربة الليبية، من خلال سلسلة مقالات نشرت في العديد من الصحف والمواقع الالكترونية العراقية والعربية، وهو خلاصة سنوات طويلة أمضيتها في مدينة البيضاء الليبية، للعمل أستاذاً للإعلام في جامعة عمر المختار ومديراً لتحرير مجلة(المجال) الجامعية للثقافة والعلوم،ومستشاراً إعلامياً للعديد من المؤسسات والمواقع الالكترونية العربية والليبية.
وسوف أحاول تقديم نظرة دقيقة لتطورات الأحداث التي عايشتها تفصيلياً في ليبيا،قبل ثورة 17 فبراير وبعدها، والإجابة على  الكثير من التساؤلات وكشف الأسباب التي مهدت للأحداث الأخيرة التي انتهت بمقتل القذافي وسقوط نظامه.

د.محمد جاسم فلحي
بغداد
20/10/2011

أسرار الساحر ونظريته الثالثة

ثمة عبارة متداولة في الكتابات الليبية منسوبة للرحالة والمؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت،يقول فيها:”من ليبيا يأتي الجديد”..وهي مقولة جرى ترويجها بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الملازم معمر القذافي في عام1969 ضد الملك إدريس السنوسي، حيث كان بعض الليبيين المتذمرين يرددون حينذاك:”إبليس ولا إدريس”..وقد استجيب لدعائهم سريعاً،فجاء لحكمهم ضابط شاب مغرور،أعلن ولائه المطلق لعبد الناصر، واعتبر نفسه تلميذه ووريثه الشرعي في تبني مشروع الوحدة والقومية العربية!
   يتهم الكثير من الناس القذافي بالجنون،لكن سلوكه السياسي،طوال أكثر من أربعة عقود في حكم ليبيا يكشف عن شخصية مركبة،من الصعب القول أنها تفتقد الوعي والإدراك السليم،فقد صمد الرجل أمام تحديات عديدة، واستطاع أن يسجل رقماً عربياً وعالمياً قياسياً في البقاء في سدة الحكم،رغم أن الشعب الليبي، مثل الشعب العراقي، يتميز بالشجاعة ورفض الظلم والطغيان!
رسول أم ساحر؟!
      أقرب وصف للقذافي ليس الجنون،بل السحر، فهو ساحر متمرس في عالم السياسة، في مظهره ومنطقه وخطاباته وأساليبه غير المتوقعة وتصرفاته الغريبة،وقد عايشت، خلال إقامتي للتدريس في جامعة المختار في ليبيا،منذ عام1999 ومشاركتي في بعض جوانب المشهد الإعلامي الليبي، تلك الحالة السحرية غير المسبوقة التي كان  يعيشها المجتمع الليبي في ظل حكم القذافي،فقد اُختصرت مقولات القذافي الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في كتيب صغير سُمّي بالكتاب الأخضر،واُعتبرت تلك المقولات نظرية عالمية ثالثة،بديلة للنظريتين الرأسمالية والاشتراكية،ومن ثم أصبح ذلك الكتاب هو الدستور والمرجعية الوحيدة في تطبيق تلك النظرية، وتم طبع الكتاب وتوزيعه بأكثر من خمسين لغة عالمية، مثل الكتب السماوية المقدسة، رغم أن هناك شكوك حول المؤلف الحقيقي للكتاب الأخضر، فقد نسبه بعض الباحثين للكاتب والمفكر الليبي المرحوم الصادق النيهوم أو غيره من الكتّاب العرب الذين اشتراهم القذافي بثمن بخس!
  لم يتورع القذافي عن إضفاء صفات الأنبياء على نفسه، فقد صدر كتاب(القذافي رسول الصحراء) للكاتبة الايطالية ميريلا بيانكو عام1973،وهو يتحدث في حوار مطول مع المؤلفة المزعومة، عن رحلة أربعة آلاف يوم أمضاها في التخطيط والعمل من أجل الثورة، منذ كان طالباً في المدرسة الثانوية في صحراء سبها، ثم شواطيء سرت المتوسطية،وكان يرعى قطيع أغنامه ويفكر ويتأمل،وكان ذلك الشاب الصغير(يتنبأ) بمستقبل مشرق لوطنه وأمته على يديه بوصفه المنقذ المنتظر، وبعد أن تم قبوله في الكلية العسكرية، بات الحلم أقرب إلى الحقيقة.
رحلات غامضة!
    هناك ثلاث رحلات مهمة في حياة القذافي، ترسم خط مسيرته نحو(المجد)، يحيطها الغموض والكتمان، فرحلته الأولى كانت من واحة سبها الصحراوية إلى قرية سرت، بعد طرده من المدرسة الثانوية لمشاركته في تظاهرة ضد(الاستعمار)بسبب فشل الوحدة بين مصر وسوريا،والرحلة الثانية كانت إلى لندن في دورة عسكرية قصيرة، بعد تخرجه من الكلية العسكرية،حيث يتهمه بعض معارضيه بالانضمام للمخابرات البريطانية والأمريكية والإسرائيلية، تمهيداً لتسهيل وصوله إلى الحكم،دون صعوبات، أما الرحلة الثالثة،الأكثر غموضاً وسرية فهي وصوله إلى بغداد في عهد الرئيس الراحل عبد السلام عارف،للمشاركة في دورة تدريبية عسكرية،وهو برتبة ملازم ثان، وكان يقيم لعدة أسابيع في منطقة الكاظمية،وهو بناءاً على ذلك يزعم الانتماء إلى أحفاد الرسول الأطهار عبر سلالة الإمام موسى الكاظم(عليه السلام).. ويبدو أن تلك الزيارة حفرت في ذاكرة القذافي صورة مشرقة عن صفات الشعب العراقي، وجعلته يوصي شعبه بحسن التعامل مع العراقيين الذين أجبرتهم ظروف الحصار والظلم،في بداية التسعينيات من القرن الماضي على الهجرة إلى شتى بقاع الأرض، ومن بينها ليبيا، ولم يكن الليبيون بحاجة لمثل هذه التوصية،فهم يتحلون بطبيعتهم بالأخلاق العربية الأصيلة، ومنها تكريم الضيف،والترحيب بالغريب،ونصرة الشقيق.
     نص الكتاب الأخضر يمكن اعتباره(متن) النظرية العالمية الثالثة أما (الهوامش) والشروحات والتفسيرات فهي كثيرة ومملة أحياناً، وبخاصة خطابات القذافي، التي كان الليبيون يتندرون منها أو يتجاهلونها،ولا يصغون إليها أو يقرأونها بجدية،وذلك لأنها تعبّر عن حجم الهوة الفاصلة بين النص المكتوب والواقع المكشوف على الأرض!
     يزعم القذافي أن السلطة والثروة والسلاح أصبحت بيد الشعب الليبي منذ إعلان قيام الجماهيرية وسلطة الشعب، في عام1977،حيث المؤتمرات الشعبية تقرر واللجان الشعبية تنفذ،ويؤكد القذافي أنه منذ ذلك التاريخ لم يعد يمتلك أي منصب حكومي، سوى كونه قائداً لثورة الفاتح من سبتمبر،ووفقاً لطروحات الكتاب الأخضر لا يوجد في ليبيا دستور ولا رئيس ولا ملك ولا مجلس وزراء ولا برلمان ولا صحافة مستقلة،ولا منظمات مجتمع مدني، لأن هذه السلطات أصبحت بيد الشعب، ولكن الواقع أن هذه المناصب والمواقع ظلت محتكرة بيد القذافي وأولاده فقط، وهو تناقض صارخ بين النظرية الشعبية والممارسة الدكتاتورية، فجميع الليبيين يعرفون أن لا أحد منهم يحصل على وظيفة رسمية مهمة إلا بتوقيع القذافي، ولا تصرف رواتبهم إلا بمصادقة القذافي، ولا يعدم أو يسجن أو يعفى أحدهم إلا بموافقة القذافي،ولا أحد يتجرأ على الحديث والنقد في وسائل الإعلام الرسمية سوى القذافي.. فأين الشعب الذي يقرر وينفذ؟!
   الساحر لم يغفل عن هذه الإشكالية، فهو يتباهى بعبقرية نظريته العالمية دائماً، ويتهم الشعب بالتقصير وعدم الفهم والكسل، ومن ثم أصبحت الطريق مفتوحة أمام الانتهازيين والفاسدين للاستحواذ على مكاسب الشعب الجاهل الغافل الذي لا يعرف كيفية تطبيق النظرية الثالثة.
  ولكي تستمر الوصفة السحرية، ابتكر الساحر طريقة الزحف الأخضر، فعندما تشتد الأزمة ويتزايد التذمر من ظاهرة معينة، يقوم القذافي نفسه بمهاجمة الفاسدين، ويطلب من الجماهير الزحف لتطهير تلك المواقع التي أصبحت بؤراً للفساد،مثل الوزارات والسفارات والجامعات،وغالباً ما يهتف الشباب المتحمسون باسم القائد الحكيم، وهم يشنقون الأساتذة وسط الجامعات،أو يحرقون الكتب والمكتبات أو يحطمون أبواب المؤسسات الرسمية، وينصّبون من بينهم لجاناً ثورية لقيادة مؤسسات الشعب من أجل الشعب، ثم يظهر الزعيم  على شاشة التلفزيون في خطاب حماسي لتحية الزاحفين إلى المجد، ويختم خطابه دائماً:”إلى الأمام، إلى الأمام، والكفاح الثوري مستمر”!
   وخلال أربعة عقود من الحكم المطلق استطاع القذافي،باعتباره كبير السحرة، تكوين طبقة من الشعراء والمشعوذين والمصفقين والراقصين على أبواب السلطان،الذين ينظمون المهرجانات والمؤتمرات والندوات،لمناقشة الكتاب الأخضر أو تحليل القصص التي تعبّر عن شخصية الزعيم، رغم أن المشاركين في تلك الفعاليات المفتعلة والمفبركة يعرفون صفة البخل والتقتير التي تلازم الزعيم، حيث يكدس المليارات من دولارات النفط وأطنان الذهب في أقبية تحت الأرض، وسط الصحراء الليبية، في حين يعاني الكثير من الليبيين من الفقر، وينتشر الشحاذون في كل مكان،وهي صفة لا يشارك القذافي فيها سوى الشيخ شخبوط حاكم أبو ظبي الأسبق!
أسرار الزعيم الساحر!
     هناك الكثير من المواقف الغريبة والمظاهر والألغاز التي تميز سلوك القذافي، قد لا يفهمها الكثير من الناس، وقد حاولت البحث عن حلّها وتفسيرها، خلال إقامتي الطويلة في مدينة البيضاء الليبية، ومن خلال معرفتي ببعض أقارب الزعيم المخلوع، وبخاصة من قبيلة البراعصة،التي تنتمي إليها السيدة صفية الزوجة الثانية للقذافي وأم أولاده الستة،ومن تلك الألغاز المستعصية:
1- قام الملازم الأول معمر محمد بومنيار القذافي بترقية نفسه إلى رتبة عقيد،بعد نجاح الانقلاب العسكري، وظل يحتفظ بهذه الرتبة العسكرية المتوسطة، حتى نهاية نظامه، قبل أسابيع قليلة، في حين كان بعض ما تبقى من زملائه المشاركين في الانقلاب مستمرين في الترقية العسكرية حتى رتبة لواء أو فريق،فما سر تمسك القذافي برتبة العقيد؟!..يقول أحد المقربين منه أن الزعيم التقى في بداية شبابه امرأة عجوز بدوية أخبرته بأنه سوف يصبح ضابطاً،وسوف يحصل على أعلى المناصب في بلاده، ولكنه إذا تجاوز رتبة عقيد سوف يقتل من قبل أعدائه!..لذلك صدّق القذافي نبؤة العرّافة،وتوقف عند رتبة العقيد،واستعاض عن الرتب العسكرية بألقاب ومناصب مدنية مثل القائد والزعيم وعميد الحكام العرب وملك ملوك أفريقيا وغيرها.
2- يحافظ القذافي على حياته من خلال حراسات مشددة وفرق عسكرية مدربة، وقد أضاف إلى حرسه الخاص كوكبة من الضابطات الليبيات الجميلات،يحطن به ويرافقنه في حلّه وترحاله وسفراته الكثيرة،وقد حاول الكثيرون تفسير الأمر،ويبدو أن هذه الظاهرة القذافية،لا ترتبط بشجاعة الحارسات اللواتي يظهرن أكثر قوة من الرجال،أو أكثر إخلاصاً للزعيم،  ولكن الحقيقة التي لم يعرفها سوى المقربين هي أن القذافي يعتقد أن وجود نساء بين حراسه الشخصيين سوف يجعل احتمالات التآمر عليه قليلة،وذلك أن الأجواء المختلطة وتداخل العلاقات سوف تكشف الأسرار المخفية، وأن من الشائع أن الكثير من الرجال يضعفون أمام الإغراء الإنثوي،فيتحدثون عن كل شيء،ومن جانب آخر فإن الثرثرة والوشاية عادة نسائية مفيدة أحيانا، وكانت العرافة العجوز قد أخبرت القذافي بأنه سوف ينجو من الموت مرات عديدة، على يد اقرب النساء إليه،وكانت الممرضة صفية قد أنقذته بأعجوبة، عندما حقنت نفسها بالإبرة قبل أن تعالجه في مستشفى درنه، فكانت أفضل مكافأة لها أن أصبحت زوجته المفضلة!
3- يسمّي القذافي نفسه رجل الخيمة والصحراء،ويستقبل زواره الرسميين ويسكن في خيمة متنقلة،لكنها خيمة تكنولوجية عصرية مجهزة بأحدث الأجهزة، مثل الإنارة والتدفئة والتبريد وكاميرات التصوير والمراقبة ومقاومة الرصاص والحريق،ومعروف أن لدى القذافي العديد من المخابيء المحصنة تحت الأرض،فلماذا يظهر وسط الخيمة دائما، وهو يرتدي زيه البدوي المعروف؟..يقول أحد أقربائه المقربين أن القذافي يعاني من شعور بالخوف من الأماكن المغلقة والبنايات العالية،ويرتعب من السفر بالطائرة،وبسبب نشأته البدوية فإنه يشعر بالحنين للخيمة والناقة والصحراء،ويريد من خلال خيمته التمظهر بالتواضع والتعفف والبساطة، وهي عادات حسنة لدى المؤمنين الزاهدين،لكن الواقع يؤكد أن القذافي وأسرته يعيشون حياة سرية باذخة، لا تتناغم مع الخيمة التي أصبحت رمزاً للتناقض بين القول والعمل،وبين الظاهر والباطن، في حياة الزعيم المقتول.

حصاد الجماهيرية العظمى!
    
 ينظر الكثيرون إلى الحاكم،باعتباره ملاكاً طاهراً،طالما كان متربعاً على كرسي السلطة، وفجأة عندما يسقط من فوق عرشه،يصبح شيطاناً،يستحق الرجم،بكل أنواع الحجارة،وقد شهدنا هذه الظاهرة،في جميع البلدان التي ثارت على الطغاة، وليست الحالة الليبية القذافية مستثناة،من تلك القاعدة!
   في القمة العربية التي عقدت في بغداد في أواخر شهر أيار/مايو عام1990،قبل شهرين من غزو صدام للكويت،حضر القذافي إلى بغداد، بعد قطيعة وعداء بين البلدين لأكثر من عشر سنوات بسبب تأييد القذافي للموقف الإيراني،خلال الحرب العراقية- الإيرانية،وفي الجلسة الافتتاحية تعمد القذافي الحضور متأخراً بنحو ساعة كاملة، وجعل بعض القادة العرب يتذمرون من غيابه غير المفهوم،ولم يعتذر القذافي، بعد جلوسه في المكان المحدد،بل قال متفاخراً وسط دهشة الجميع:أرجو أن لا أكون جعلتكم تنتظرون طويلاً،فقد كنت في زيارة لمرقد جدي الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)..وقد تحريت خلال إقامتي الطويلة في ليبيا عن حقيقة نسب القذافي،فلم يؤكد لي أحد من أفراد قبيلته انتسابه لآل البيت النبوي الأطهار،لكن عشيرة ورفلّة الكبيرة التي تضم قبيلة القذاذفة،يزعم بعض شيوخها هجرة أجدادهم من العراق، في عصر الدولة الفاطمية التي حكمت شمال إفريقيا لمدة تقرب من ثلاثة قرون،وبالطبع كان اغلب الهاربين من ظلم العباسيين في بغداد حينذاك هم من العلويين، الذين يوجد الكثير منهم اليوم في ليبيا،ويُسمّون أنفسهم(السادة الأشراف)،وقد عرفت بعضهم، وكانوا يعتبرون أنفسهم مضطهدين،فلم يكرمهم القذافي أو يتقرب منهم إلا في السنوات الأخيرة،بعد تصاعد خلافاته مع المملكة العربيةالسعودية!
لقاء متوتر!
وبالعودة إلى مشهد القمة العربية،بدأ صدام بإدارة الجلسة،مزهواً بانتصاره المزعوم على إيران، وأطلق تهديده بحرق نصف إسرائيل ب(الكيمياوي المزدوج)،وتتابعت كلمات الزعماء العرب المنزعجين من غطرسة صدام وغروره،حتى جاء دور القذافي، فالتفت صدام إليه قائلاً:يتفضل الأخ معمر رئيس الجماهيرية العربية الليبية..الخ الخ..أرجو من الأخ معمر تكملة اسم دولته لأنني لا أحفظه كاملاً..ههههههههههه!
 كان رد فعل القذافي على هذه الإهانة غير المقبولة والسخرية الفجة في منتهى التعقل والبرود،على غير عادته المعروفة،فلم يبدو مستفزاً،وأجاب بأنه ليس رئيساً،بل قائداً لثورة ليبيا،التي تسمى رسمياً بالجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى!..وراح يتحدث بهدوء عن مختلف القضايا الإقليمية والعربية، ومن أهمها القضية الفلسطينية!
 يختصر هذا اللقاء المتوتر بين صدام والقذافي ما قبله وما بعده من مواقف متناقضة وسياسات عجيبة وتحالفات غير مفهومة،يسيطر عليها المزاج الشخصي،دون مراعاة المصلحة الوطنية والقومية،لدى هذا النوع من الحكام المستبدين،ففي الوقت الذي اصطف فيه القذافي وحافظ الأسد إلى جانب إيران خلال حرب الثماني سنوات،تعبيراً عن كرههما لصدام،وليس حُبّاً لإيران،راح صدام يبحث عن كل وسيلة لإيذائهما،ومن بين خططه دعم الرئيس التشادي حسين حبري وتزويده بالمال والسلاح لإثارة حرب حدودية مع ليبيا استمرت حوالي أربع سنوات،وما يزال الليبيون حتى اليوم يتذكرون الآلاف من أبنائهم الذين أبادتهم هذه الحرب المفتعلة، دون أن يعرفوا أن صدام،في مقابل القذافي، كان موقد نارها وسعيرها، ولعل الكثير من العرب لم يدركوا أن صدام كان يدير حرباً أخرى في صحراء إفريقيا،بدعم غربي كامل،إلى جانب حربه في البوابة الشرقية!!
تحالفات الأخوة الأعداء!
      وفي الوقت الذي كان فيه رامسفيلد مساعد وزير الخارجية الأميركية حينذاك يقف إلى جانب طارق عزيز في افتتاح السفارة الأميركية في بغداد،خلال سنوات العسل القليلة التي جمعت بين البلدين،بلغ الصراع بين القذافي وأميركا ذروته في عهد ريغان،منتصف الثمانينيات،عندما قصفت الطائرات الأميركية والبريطانية منزل القذافي في باب العزيزية،في محاولة لاغتياله،فرد عليهم، بعد فشل الهجوم، متحدياً ومستهزئاً بقدراتهم، وسمّى ليبيا رسميّاً ب(الجماهيرية العظمى)، وقد ظلت هذه التسمية تثير الاستغراب لدى الكثيرين الذين يزورون ليبيا فلا يجدون صفة العظمى في أي مكان في ذلك البلد العربي الإفريقي الصحراوي، الذي تصدر الأخبار العالمية،خلال الأربعين سنة الماضية، لسببين فقط هما: ثروة النفط وخطابات القذافي،وربما في غياب هذين العاملين فإن مكانة ليبيا ليست بأفضل من الصومال أو جزر القمر!
   ودارت الأيام،وتغيرت خارطة التحالفات والمواقف،بعد لحظة دخول القوات العراقية إلى الكويت،فأصبح صدام العدو الأول لأميركا،وعقد مؤتمر القاهرة المعروف،وقاد مبارك والأسد تحالفاً عربياً مؤيداً للتحالف الغربي من أجل تحرير الكويت،في حين وقف القذافي وحيداً يصرخ رافضاً التدخل العسكري الأميركي،ولم يستمع إليه أحد،فأصبح،من ذلك اليوم، صديقاً لصدام، ومن ثم شريكاً له في حصار،فرض على العراق، ثم على ليبيا،لأسباب مختلفة، ولكن عجلة التاريخ لم ولن تتوقف،فالقذافي الذي نصبّه عبد الناصر في بنغازي عام1970 أميناً للقومية العربية، أصبح وهو محاصر أميركياً ومخذول عربياً من أكثر الناس كفراً بالعروبة،وعندما بادر بعض القادة الأفارقة إلى كسر الحصار الجوي على ليبيا وزيارة طرابلس، غيّر القذافي اتجاه بوصلته السياسية بدرجة مائة وثمانين، في أواخر التسعينيات،فأعلن عن قيام الاتحاد الإفريقي، والولايات المتحدة الإفريقية، ودعا إلى إلغاء الجامعة العربية،وفي احد خطاباته الحماسية قال:كنا نقول (طز) في أميركا، ولكن الآن (طز) في الأمة العربية!!

مسرحية الزعيم!

خضعت ليبيا طوال التسعينيات لحصار جوي واقتصادي دولي بسبب قضية لوكربي الشهيرة،وشاءت الأقدار أن أسافر،مع مجموعة من الأساتذة العراقيين،عبر الأردن ثم مصر،إلى ليبيا، التي كانت حينذاك أحد البلدان العربية التي تستقبل العراقيين الهاربين من الحصار والظلم، وتتضمن هذه الرحلة البرية والبحرية، ركوب الباخرة(العبّارة) من ميناء العقبة الأردني باتجاه ميناء نويبع المصري،وكان المسافرون العراقيون،من دون جميع الجنسيات العربية،يتعرضون على أيدي الضباط المصريين لمضايقات وإهانات لا يمكن وصفها، ومن بينها وضعهم تحت الحراسة العسكرية،ومصادرة جوازات السفر،وتسليمها لهم عند نقطة السلوم القريبة من الحدود الليبية،وما لفت نظري أن قاعة الجلوس في العبّارة كانت،أثناء الرحلة التي استغرقت نحو أربع ساعات، تعرض على شاشة كبيرة (مسرحية الزعيم)،من بطولة الفنان المصري عادل إمام،وكانت هذه المسرحية التي تسخر من الدكتاتوريات الفاسدة ممنوعة من العرض في كثير من الدول العربية،وبخاصة العراق وليبيا،فرحنا نتفرج ونضحك على تلك المشاهد المثيرة، رغم قسوة السفر ووحشة الطريق،وقد تساءل بعض الحاضرين عن مغزى عرض هذه المسرحية،في هذا المكان وفي هذا التوقيت،ولعل بعضهم وجد تفسيراً مقنعاً وهو توتر العلاقات بين مصر وليبيا،بسبب نشر عدة مقالات في الصحف المصرية تنتقد سياسات القذافي وتقلباته المفاجئة،وقيامه بطرد العمال المصريين،وفتح الأبواب أمام العراقيين والأفارقة غير العرب فقط!!

الراية الخضراء

طوال الطريق الساحلي من منطقة امساعد الحدودية حتى بنغازي، كانت صور الزعيم(صقر إفريقيا الوحيد) تواجهنا،بأوضاع وأشكال مختلفة، وإلى جانب الصور ترفرف قطع من القماش الأخضر،وقد فهمنا أن تلك الرايات الخضر،تمثل علم ليبيا الرسمي،فكل شيء في هذه البلاد ينبغي أن يكون مصبوغاً باللون الأخضر،ما دام الكتاب الأخضر هو الدستور،وكانت هناك الكثير من اللافتات والشعارات الثورية،من بينها(امة عربية واحدة) وهي تمثل نصف شعار حزب البعث،في حين كانت ليبيا تحتفل بإعلان الاتحاد الإفريقي في 9/9/1999 قبل أسبوع من دخولنا إليها،ومثل هذه التناقضات في الشعارات والسياسات تكاد تمثل سمة عصر القذافي بكامله،وما يلفت النظر،ويثير التعجب أن الطرقات كانت تبدو مهملة والمباني متهالكة، والسيارات رديئة،ووجوه الناس يابسة، وملامحهم مكتئبة، وذلك رغم مرور ثلاثين عاماً على ثورة الفاتح،وقد شعرنا بالصدمة عند وصولنا إلى جامعة عمر المختار،في مدينة البيضاء، عندما وجدنا أن مئات العائلات الفقيرة تحتل مباني الأقسام الداخلية المخصصة للأساتذة والطلبة،ويسكن فيها الناس مضطرين بسبب عدم توفر المساكن في بلد قليل السكان، ويمتلك ثروة نفطية هائلة!
  ولا أريد الاستمرار في سرد تلك الصور القاتمة، فهناك الكثير من الصور المشرقة، لعلها من طبيعة المجتمع الليبي المسالم، وفي مقدمتها الشعور بالأمن والأمان،فليبيا قبيل الثورة الأخيرة تكاد تخلو من الأسلحة النارية،ولا تعرف العنف أو الجريمة،وغالباً ما تكون مراكز الشرطة فارغة، حيث يتم حل الخلافات والمشاجرات البسيطة التي تستخدم فيها العصي أو الحجارة، من قبل شيوخ القبائل،في جلسة وديّة، يتناول الحاضرون فيها وجبة من الرز واللحم والفواكه والشاي الأخضر.
وفي السنوات الأخيرة،رفعت الكثير من القيود التي كانت مفروضة على الاقتصاد والتجارة، وأصبحت البلاد اقرب إلى الرأسمالية منها إلى الاشتراكية، ولعل من الإنصاف القول أن المواد الغذائية والكمالية كانت مدعومة من الدولة ورخيصة ومتوفرة للجميع، ولا يوجد جائع في ليبيا،ولكن الجميع يتذمرون من قلة الرواتب، ويطمحون أن ترتفع مداخيلهم إلى مستوى دول الخليج النفطية،يضاف إلى ذلك شعور عام بالانزعاج من سيطرة عائلة القذافي على مقدرات البلاد وثرواتها،وبذخ أولاده المفرط في التصرف بالأموال العامة،وتزايد الحديث عن نوايا توريث الحكم لسيف القذافي!
  حاول القذافي احتواء مظاهر النقمة،قبيل الثورة، من خلال الإعلان عن ترشيح آلاف الطلبة للدراسات العليا في الخارج،وإطلاق قروض سخية للإسكان والزواج،وبناء نصف مليون وحدة سكنية،ورصد نحو سبعين مليار دولار لمشاريع البنية التحتية،وإصلاح التعليم والصحة، لكن هذه الوعود لم يتح الوقت لاختبار مصداقيتها،أو تنفيذها،فقد فات الأوان ونفد الصبر!
  
شعب طيب ومتسامح

يتميز الشعب الليبي بصفات حميدة كثيرة، أبرزها التسامح والتدين المعتدل، بلا تطرف مذهبي أو تعصب طائفي، وفي يوم الجمعة ترى الناس جميعاً متوجهين إلى المساجد المنتشرة في كل مدينة وقرية،يرتدون ملابسهم الجديدة المعطرة، ويطلقون لحاهم الخفيفة،ويتبادلون التحيات والقبلات والعبارات الإيمانية الجميلة،وغالباً ما تتضمن خطب صلاة الجمعة انتقادات قاسية للمسؤولين المحليين الفاسدين لكن لا أحد يجروء على ذكر الزعيم  وعائلته، ورغم هذا الاعتدال الديني كان القذافي يعتبر السلفيين(الزنادقة) من أشد أعدائه، وقد حصد المئات منهم في ساعة واحدة في سجن أبو سليم، وكانت تفاعلات هذه القضية من بين أسباب الثورة الحالية!
ويتصف الليبيون بالبساطة والتواضع في تعاملاتهم اليومية،حيث تجد أكبر المسؤولين يجلسون وسط الناس، في أفراحهم وأحزانهم،ولا توجد كلمة(سيدي) في التخاطب بين الجندي والضابط، فيسمّون الضابط ب(الأفندي)،وبسبب البطالة المنتشرة يلجأ اغلب الشباب إلى الانضمام للأجهزة الأمنية، ولكنهم لا يحملون السلاح ولا يتمتعون بأي سلطة فعلية سوى البطاقة التي يحملونها في جيوبهم،والراتب المتواضع الذي يقبضونه في نهاية الشهر،وذات مرة طلبت من أحد ضباط الأمن في الجامعة التدخل لحماية الطالبات من تحرش الشباب المتسكعين في الحرم الجامعي، فنصحني بالقول:لا تتدخل فهؤلاء أبناء عمومة أو جيران، ولا تسمح تقاليدنا بالاختلاط الاجتماعي إلا في داخل الجامعة،دعهم يتمتعون بشبابهم،لعلهم يتزوجون فنرتاح من صخبهم!
  ويعد قطاع التعليم مجانياً في جميع مراحله، في ليبيا،حيث تنتشر المدارس والجامعات في كل مدينة،وتستعين الدولة بأعداد كبيرة من المدرسين والأساتذة الأجانب والعرب، وتحظى الفتيات الليبيات بفرص التعليم،دون أي تمييز،إلى جانب زملائهن،بل أن عدد الإناث يزيد عن عدد الذكور في الجامعات،وهن متفوقات دراسياً في الأغلب،ويحصلن على الوظائف بسهولة، لكن فرصهن في الزواج قليلة، نتيجة ارتفاع التكاليف المالية، وظاهرة الزواج من المصريات والتونسيات، بكلفة اقل عادة!

النفط مقابل.. البقاء!!
                                                     
ظل القذافي يتباهى في خطاباته بأنه زعيم الثوريين في العالم،ولا يخفي دعمه لجميع الحركات الثورية،التي تسمى في القاموس الغربي ب(الإرهابية)، وكان يستخدم أموال النفط الليبي،بلا حسيب ولا رقيب، في تمويل تلك الحركات والمنظمات،في آسيا وإفريقيا وأوربا وأمريكا اللاتينية،وقد زعم،أكثر من مرة، انه منقذ السود في جنوب إفريقيا بقيادة نيلسون مانديلا، ونصير الجيش الجمهوري الايرلندي السري ضد الانجليز،والمدافع عن الهنود الحمر في أميركا،وكان يتبجح دائما بأنه قد صنع زعامات وأسقط أخرى كثيرة،بأساليب مخابراتية عديدة،حيث كان يمتلك شبكة مخابرات ضخمة،وعناصر مدربة في روسيا ورومانيا وألمانيا الشرقية وكوبا وغيرها.
   يسيطر على تحركات القذافي الهاجس الأمني المخابراتي والخوف من الاغتيال، وقد شاهدت بنفسي واقعة تكشف عن الحذر الشديد،في ظهور القذافي،وسط الجماهير،فقد شارك الزعيم عام2002 في احتفالات مصر لمناسبة مرور خمسين عاماً على(ثورة يوليو) الناصرية، وفي طريق عودته من القاهرة، في ذروة الصيف،يبدو انه قرر زيارة منطقة الجبل الأخضر، ذات الطبيعة الخلابة،في شرق ليبيا،وبخاصة مدينة البيضاء التي تسكن فيها قبيلة البراعصة،أهل زوجته صفية،فتم تبليغ سكان المدينة الصغيرة بالحضور جميعاً إلى مطار الابرق القريب لاستقبال القائد،وكان من بين المدعوين أساتذة جامعة عمر المختار وطلبتها،رغم تمتعهم بالعطلة الصيفية،وكنت من بين الحاضرين الجالسين قرب مدرج المطار بانتظار إطلالة الزعيم،ومضت الساعات بطيئة في الانتظار،حتى جاءت طائرة ركاب صغيرة،ونزلت على المدرج،فارتفعت الهتافات والزغاريد، واستعرض الفرسان خيولهم أمام الناس،ورقصت بعض النساء العجائز على دقات الطبول والأغاني والأناشيد الحماسية،ولكن الطائرة تحركت إلى جانب المطار، وتوقفت دون أن ينزل منها أي شخص!
  وبعد مرور ساعة أو أكثر ظهرت في الأجواء طائرة عسكرية، ونزلت في المطار، وسط الهيجان الجماهيري والهتافات والرقص،لكن الفرحة لم تكتمل بظهور الزعيم،فقد وقفت الطائرة،إلى جانب سابقتها،وساد الصمت من جديد!
     مرت ساعة أخرى حتى شوهدت طائرة ركاب ضخمة نوع (ايرباص) تابعة للخطوط الجوية الليبية الإفريقية، وراحت تحاول الهبوط بصعوبة على مدرج المطار الصغير،ثم نزلت وتوقفت،وخرج منها الكثير من الركاب، غير العاديين،من بينهم ضباط وضابطات، ومضيفات وحرّاس مسلحون،ومن بين الحشد النازل على سلّم الطائرة، ارتفعت قبضة الزعيم لتحية الجمهور المبتهج،وسرعان ما ركب سيارة ضخمة مدرعة، واختفى،مثل الشبح،وسط كوكبة من عناصر الحماية!
   يروي بعض المقربين من عائلة القذافي أن الرجل يتمتع بقدرات خارقة لتجنب الخطر،والبقاء على قيد الحياة،رغم المخاطر المحيطة بحياته الصاخبة،ويعتقد بعض الليبيين البسطاء أن الزعيم يجند فرقة من الجن لحمايته، ويستعين بكبار السحرة الأفارقة، الذين يسميهم ملوك إفريقيا التقليديين، لكشف المؤامرات المعادية،ولم يتورع عن الحديث أمام أحد أصدقائه عن زواجه من(جنيّة)تساعده في تسهيل أموره والاستمرار في الحكم..وهذه الأساطير والأوهام تعد من الدعاية الذكية التي تؤثر في نفسيات الكثير من الناس المستعدين لتصديقها!

لعبة الموت!

عندما كان القذافي يمارس لعبة الغش والاختفاء في الحفاظ على حياته،فإنه في الوقت نفسه،كان يدير لعبة المخابرات ضد خصومه،في داخل ليبيا وخارجها،،وكما هو معروف، فإن تلك اللعبة الخطيرة هي لعبة الحياة والموت،والنجاح أو الفشل فيها لا يرتبط بالإمكانيات المادية والأجهزة والتخطيط والتدريب فقط، وإنما يلعب الحظ أو القدر دوراً مهما في تحديد مساراتها ونتائجها، وبخاصة إذا كانت عملياتها تتعلق بحياة الأبرياء من الناس،وتلك الحقيقة،كما يبدو،كانت غائبة عن تفكير القذافي، في خضم الشعور بالغرور والتجبر، فأوقع نفسه وأتباعه في عمليات فاشلة وكوارث رهيبة،مثل قضية اختطاف وإخفاء الإمام موسى الصدر عام 1978، وإسقاط طائرة ركاب أميركية فوق مدينة لوكربي في اسكتلندا،ومقتل نحو ثلاثمائة شخص،اغلبهم من الأميركيين،وتفجير احد النوادي الليلية لمشاة البحرية الأميركية(المارينز) في ألمانيا في منتصف الثمانينيات، وإسقاط طائرة ركاب فرنسية فوق النيجر،وإسقاط طائرة ركاب ليبية قرب طرابلس لغرض اتهام الأميركيين فقط!
وقد خضعت ليبيا طوال التسعينيات لحصار غربي،بسبب تورط القذافي في ذلك السجل الحافل بالعمليات الإرهابية،ومن أهمها قضية لوكربي المعروفة،وكما هو الحال في حصار شعب العراق،فإن القذافي وأسرته وأتباعه كانوا يعيشون في رفاهية وأمان،في حين كان الناس البسطاء يعانون من اجل الحصول على لقمة العيش،بيد أن سقوط نظام صدام عام2003 جعل القذافي يشعر أنه المرشح القادم للسقوط في لعبة الأمم والمصالح،وبخاصة في ظل تذمر متزايد بين الليبيين من الحصار والظلم،حتى أن أحد زملائي من الأساتذة الليبيين،تمنى وهو يتابع معي أخبار الغزو الأميركي للعراق، لو أن القوات الأميركية جاءت لتحرير ليبيا من الطاغية،حتى لو كان الثمن حياة نصف مليون مواطن،ويبدو أن هذه الأمنية قد تحققت في الثورة الأخيرة، من خلال الاستعانة بالتدخل العسكري لحلف الناتو، ولو جاءت بصيغة معدلة عن حرب العراق،لكن الأمر الخطير فيها أن الشعب المقهور يضطر في لحظات اليأس إلى طلب النجدة من (الشيطان الأكبر) من اجل التخلص من الشيطان الأصغر!

الخضوع والمساومة!

لم يخف القذافي شعوره بأن ورقته قد بدأت تحترق في دهاليز المخابرات الغربية،وهو يتابع بذهول مشاهد محاكمة صدام وأعوانه،ومن ثم إعدامهم،وكان يعبر عن هذا الشعور بالخطر القادم، من خلال عمليتين نفسيتين دفاعيتين متناقضتين،أولاهما الرغبة في الخضوع الكامل لشروط الإدارة الأميركية،والمساومة على تسليم الأسلحة المحظورة والنفط ودفع الأموال من أجل البقاء في السلطة،وثانيتهما التهديد بالتراجع عن التعاون والعودة إلى المشاكسة والانضمام إلى صف الدول المارقة القليلة!!
   سارعت الحكومات الغربية لاستغلال لحظات الضعف والخضوع لدى القذافي،من أجل نزع أنيابه الشرسة، قبل ذبحه،كما يبدو،وبادر هو نفسه بالتطوع، تحت الشعور المتزايد بالخوف، إلى تسليم البرنامج النووي الليبي الذي انفق عليه نحو عشرين مليار دولار،وتمت تسوية قضية لوكربي،عبر وساطة سعودية،كما يقال، من خلال دفع نحو ثلاثة مليارات دولار لأسر الضحايا الأميركيين، أي بواقع عشرة ملايين دولار مقابل كل قتيل،كما تمت تسوية قضية الطائرة الفرنسية بالأسلوب نفسه،وفتحت خزائن ليبيا لدفع رشاوى كبيرة وتمويل حملات انتخابية في أميركا وروسيا وفرنسا وبريطانيا وايطاليا، وكانت خيمة القذافي في صحراء سرت قبلة لزيارات شخصيات دولية مثل  كونداليزا رايس وتوني بلير وساركوزي وبرلسكوني،وتوافد المرتشون والفاسدون والأفاقون، مثل اسماك القرش،من كل صوب،على رائحة النفط والدم الليبي، لقبض ثمن المديح أو السكوت، ونسيان ماضي الزعيم، الذي حاول في السنوات الأخيرة تقديم نفسه للعالم بثوب جديد،وخطاب جديد!

سيف الإنقاذ!

 قبل نحو خمس سنوات عاد سيف الإسلام القذافي من بريطانيا،وهو يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية والإدارية،عن أطروحته الموسومة (ليبيا في القرن الحادي والعشرين)، وحاول ركوب موجة التغيير التي يشهدها العالم كله لطرح نفسه بديلاً لوالده،في عملية توريث شرعية ظاهرية،وراح يتحدث عن ضرورة التحول من عصر الثورة إلى عصر الدولة،ومن الاشتراكية الفاشلة إلى الرأسمالية والرفاهية،وبدأ خطوات عملية للمشاركة في العملية السياسية من خلال منظمة القذافي للأعمال الخيرية والتنمية، وفي المجال الإعلامي،مثل تأسيس شركة الغد وقناة الليبية الفضائية وإصدار صحيفتي(أويا) و(قورينا)،وإنشاء مجلس التخطيط العام، والاستعانة بشخصيات أكاديمية مثل محمود جبريل ومحمد الهوني وسليمان دوغه،لكن سيف اصطدم بما يسمى(الحرس القديم) من رجال القذافي ورفاقه،الذين حذروا الزعيم الأب من خطورة التغيير على مستقبل (النظام الجماهيري) ومن بينهم أحمد إبراهيم،الذي راح يقدم نفسه بوصفه منظّر الفكر الجماهيري الجديد،ويرفع شعارات المقاومة الزائفة،ويصف أحداث11/9 في أميركا بالعمل الجهادي الكبير، ومنهم سليمان الغويل،مسؤول قطاع الثقافة،عبر مقالاته وخطاباته المسجوعة،ومنهم رجال العسكر القديم  مثل مصطفى الخروبي والخويلدي الحميدي وعبد الله السنوسي وموسى كوسه،وفي ليلة مظلمة من خريف العام2009، وجد رجال سيف الإسلام أنفسهم معتقلين أو مطاردين، بعد أن تخلى عنهم صاحبهم،وغادر ليبيا إلى بريطانيا،محبطاً مهزوماً،في أول مواجهة أمام جبروت والده،وضاعت أحلام الابن المدلل ومعه طموحات جيل كامل من الشباب الليبي الذي لم يعد يفهم لغة الزعيم ونظرياته وخطاباته المتناقضة،ولم يشعر بالخوف من أنيابه الأمنية المتداعية،ويريد الدخول إلى المستقبل من أوسع الأبواب!

الزمن المغلق

يعتقد القذافي أن نظرية نهاية التاريخ التي جاء بها فوكو ياما تنطبق على نظريته المطروحة في الكتاب الأخضر،وليس على الرأسمالية الليبرالية، فقد توقف الزمن عند حدود تلك النظرية الثالثة،كما يرى القذافي،ولا خيار لدى الإنسانية سوى تطبيق الديمقراطية المباشرة، في حين يجد الليبيون أن بلدهم قد وصل إلى طريق مسدود،في خضم الفساد والصراع على السلطة والمكاسب ونهب الثروات بين أفراد العائلة الحاكمة،وقد جرى ترتيب صيغة تصالحية بين القذافي وسيف الإسلام،يبتعد فيها الأخير عن السياسة الخارجية والقوات المسلحة ويتفرغ للقضايا الاقتصادية والإنسانية،واستطاع سيف الإسلام العودة من بريطانيا مصطحباً معه عبد الباسط المقرحي،السجين في قضية لوكربي،من خلال صفقة مع الإدارة البريطانية،كما قام سيف بالاتصال مع أهالي ضحايا مجزرة سجن بو سليم،وعرض عليهم التعويض المالي(الدية)مقابل تنازلهم عن دماء أبنائهم،وقد رفض بعضهم ذلك العرض،وبخاصة إزاء قلة المبالغ المقدمة، وهي في حدود مائة ألف دولار،في حين كانت دية الأمريكان في قضية لوكربي عشرة ملايين دولار، وهو ما اعتبر إهانة لدماء الليبيين الأبرياء وكرامتهم!

أخطاء الزعيم القاتلة!
                                                                            
                                                             
 سبحان من لا يخطئ،فالأخطاء والذنوب من سمات البشر، وقد جعل الله تعالى باب التوبة والرحمة والمغفرة مفتوحاً،لمن يريد التراجع عن طريق الشر،ولكن غرور السلطة يجعل الكثير من الحكام يتشبهون بخالقهم جلّ جلاله،فيجعلون من أنفسهم فوق البشر،يرفضون النصح والمشورة،ويسيرون في طريق الخطايا حتى النهاية، وقد يمهلهم الله بعض الوقت، ثم يردّهم الله أسفل سافلين،لكي يكونوا عبرة للآخرين،وقد روى شيخ إحدى الطرق الصوفية في شمال إفريقيا قصة في مقابلة تلفزيونية،تحدث فيها عن قيام أحد الحكام العرب،قبيل سقوط نظامه بأشهر قليلة،بالاتصال به وطلب المساعدة!..يقول فأجبت على رسالته:إذا كنت مستعداً للتوبة يا سيادة الرئيس،فتخلى عن كرسي الحكم مؤقتا،واذهب إلى احد المساجد لتعمل خادماً للمصلين لمدة شهر،لعل الله  يتوب عليك،وينقذك،لو كنت صادقاً في طلب المغفرة،والله ارحم الراحمين.
لم يجب الرئيس على رسالة الشيخ،وربما سخر من نصيحته،فانتهى حكمه، وذاق الخزي في الدنيا،قبل عذاب الآخرة..وتلك الحكاية تختصر طبيعة العلاقة بين الخالق سبحانه والحكام الطغاة،أحفاد فرعون،الذين يجعلون من الناس عبيداً،وينتهكون الحرمات،ولا يتورعون عن ارتكاب الموبقات والكبائر،ومن أهمها قتل النفوس البريئة،وقطع الأرزاق،ونشر الفساد بين الناس!
وفي تجربة العقيد الليبي المخلوع معمر القذافي، الكثير من القصص، التي تكشف عن شخصية تتميز بالطغيان والغرور، وهناك سلسلة من الأخطاء،قادت إلى النهاية المحتومة،التي شاهد العالم كله،خلال الأشهر الماضية،بعض فصولها معروضة على شاشات الفضائيات،وما تزال تفاصيلها وأسرارها تتكشف يوماً بعد آخر.

نصيحة جلوّد الثمينة!

روى لي أحد المقربين من القذافي،في بنغازي،ذات يوم، تفاصيل لقاء عاصف بين القذافي ورفيقه الرائد عبد السلام جلوّد،الذي كان يمثل الرجل الثاني في النظام الليبي، لمدة عشرة أعوام بعد انقلاب عام1969، فقد طلب جلود مقابلة الزعيم، بعد خطاب ألقاه الأخير في مدينة زواره،وأعلن فيه قيام سلطة الشعب وتطبيق النظام الجماهيري،وفقاً لنظرية الكتاب الأخضر،وقال جلوّد لصديقه الزعيم:سوف تغرق البلاد في الفوضى،فالناس لا يفهمون هذه النظرية،اقترح يا سيادة العقيد،أن نقوم بإجراء انتخابات برلمانية ونضع دستوراً جديداً،وليختار الشعب من يريده رئيساً إذا كنت جاداً في نظريتك!
     صمت العقيد،ثم سأل جلوّد: ولو اختارك الناس بدلاً مني رئيساً، هل تقبل أم ترفض؟!
     ابتسم جلوّد بمرارة،ونهض ونزع رتبته العسكرية، وألقاها أمام الزعيم،وقال:سوف أذهب لرعاية قطيع من الإبل في الصحراء مثل أجدادي، ولن ادخل طرابلس أبدا، لكي أثبت لك أني لست طامعاً في سلطة أو منصب،ولكن تذكر أننا اقسمنا بكتاب الله على أن نحافظ على بلادنا ونصون كرامة شعبنا، ولن نخون بعضنا!
   لم يشاهد جلوّد،منذ نحو ثلاثين عاماً،من قبل الليبيين،ولم يقابل أحداً سوى أفراد عائلته،وفي المقابل وضعه العقيد تحت المراقبة،لكنه لم يقتله،ولعله من رفاق القذافي القدماء القليلين الذين نجوا من الاغتيال أو الطرد خارج البلاد!
   تلك النصيحة الثمينة التي قدمها جلوّد للقذافي لم تتكرر من قبل الرفاق والمستشارين القريبين من القذافي،فالرجل لم يعد يصغ إلا لصوته فقط، ولم يستمع إلا للمداحين والمنافقين، وما أكثرهم عند أبواب السلاطين،هذه الأيام،وكان اكبر أخطاء الزعيم، على الإطلاق التناقض بين أقواله وأفعاله،بين نظرياته والواقع،بين يومه وغده،حتى أن أحد الأساتذة الليبيين الأجلاء،في جامعة عمر المختار،قال أمام مجموعة من الأساتذة العرب:نحن الليبيين منذ أربعين عاماً،نستيقظ كل يوم صباحاً على تغيير جديد، أو نشاهد مساءاً خطاباً للزعيم يلغي ما قبله..ولا نعرف ماذا يريد بالضبط!

سلوك متناقض

     هذه العقلية المتناقضة غير المستقرة لرجل يحكم البلاد بمفرده، ويقول،في الوقت نفسه، أنه لا يمتلك أي منصب حكومي،لا بد أن تقود المجتمع والدولة إلى أخطاء كارثية،فعلى صعيد السياسة الخارجية،كان القذافي يتفاخر بمقولة عبد الناصر،قبيل وفاته، بأن القذافي هو الأمين على القومية العربية،ثم نجده يتخلى عن حلم الوحدة العربية، بعد تجارب وحدوية فاشلة، انتهت إلى خصومات عنيفة مع العديد من الدول العربية،ويذهب نحو إفريقيا،التي يطمح إلى توحيدها وإعلان الولايات المتحدة الإفريقية،لكن قارة الفقر والجهل والانقلابات العسكرية،ظلت كما هي، ولم تشفها وصفة القذافي السحرية!
      وفي الوقت الذي كان فيه القذافي يصرف بسخاء من أموال النفط لتمويل مشاريعه الوحدوية الفاشلة،فإنه تجاهل مطالب الشعب الليبي، واحتياجاته الملحة، ولم يعمل على توزيع الثروة بطريقة عادلة، رغم قيامه،قبل عامين،بطرح موضوع الثروة للنقاش العام،وقد طلب من الليبيين الاختيار بين التوزيع المباشر للثروة،وإعطاء حصة من الأموال لكل عائلة،في مقابل خصخصة الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم والإسكان وغيرها، أو الخيار الثاني وهو الإبقاء على الثروة لدى الدولة،لكي تقوم(سلطة الشعب) بتوفير احتياجات الناس، وقد تم اعتماد الخيار الأخير، بعد مناقشات استعراضية فيما يسمى المؤتمرات الشعبية، وهكذا ظلت الأموال بيد القذافي،مثلما كانت دائما!!
     تركت هذه التمثيلية الهزلية استياءاً شديداً وسط الناس،وراحت مظاهر التذمر تتزايد، وخاصة بين الشباب العاطلين عن العمل،في ظل نظام تعليمي،يمنح شهادات كثيرة،لا تتناغم مع احتياجات السوق مثل تخصصات الفلسفة والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس والمجتمع،في حين يتم استيراد عمالة عربية وأجنبية، بعقود سخية، في مجالات الطب والهندسة والحاسوب واللغات وغيرها.
   وحكاية رواتب العقود هذه تستحق وقفة لتوضيحها،فهي من أسباب السخط ضد القذافي ونظامه،ففي الجامعة التي كنت اعمل فيها،هناك أربعة مستويات من الرواتب،ليس على أساس الشهادة أو الخبرة أو الكفاءة، وإنما على أساس الجنسية،فالأساتذة الهنود والباكستانيون يتمتعون بأعلى الرواتب،وذلك بموجب صفقة تعاون تسليحي،كما يقال، مع هذين البلدين، أما الأساتذة المصريون الذين ترشحهم الحكومة المصرية،فيتقاضون رواتب عالية لكنها أقل من الأجانب،ثم هناك مستوى ثالث وهم المتعاقدون من الداخل من العراق وسوريا والأردن وفلسطين،وفي نهاية القائمة تكون رواتب الأساتذة الليبيين،هي الأقل عادة،وفي احد الاجتماعات مع الدكتور( م.س) رئيس جامعة عمر المختار الأسبق،طرحت هذه القضية،فكان جوابه،إنها مسألة عرض وطلب،وعندما احتج الحاضرون،وارتفعت أصوات الأساتذة،على هذه الإجابة غير المهذبة،قال بصراحة:إنها قرار سياسي من فوق،لا نستطيع أن نناقشه..يعني من القذافي نفسه،وقبل عامين تم اعتماد تقسيم جديد للرواتب على أساس الاختصاص، فأصبحت هناك ثلاثة مستويات متدرجة هي الطبية والهندسية والإنسانية،لكن رواتب الليبيين ظلت منخفضة!!
   الخطأ القاتل الآخر، أن القذافي الذي ارتكب الكثير من الحماقات ضد شعبه، في سنوات صعوده وشبابه وتهوره،وخاصة في الثمانينيات،مثل إعلان ثورة الطلاب في السابع من ابريل(نيسان) لم يعتذر أو يتراجع عن تلك الأخطاء،بل جعل منها أعياداً ومناسبات وطنية سنوية،رغم أنها تعتبر جرائم ضد الإنسانية،أما قصة ضحايا مجزرة سجن أبو سليم،عام 1996 فقد كانت الشرارة التي فجرت الثورة الأخيرة.

أخطاء اللحظة الفاصلة!

     لم يكن أحد يتوقع سقوط النظام القمعي التونسي بتلك السهولة العجيبة، وكان الليبيون أشد المتأثرين بالثورة التونسية،وذلك بسبب التواصل الجغرافي والاجتماعي بين البلدين العربيين،وفي تلك اللحظات التاريخية الفاصلة،ظهر القذافي في خطاب غريب،يستنكر ثورة الشباب التونسي ويعلن تأييده لصديقه الدكتاتور المخلوع زين العابدين بن علي،ويحذر من خطورة المرحلة القادمة،وسط ذهول الناس،الذين اعتبروا هذا الخطاب نسفاً لنظرية القذافي الشعبية،وتأكيداً على أن الرجل قد فقد رشده، وأضاع كل رصيده الجماهيري المزعوم،وكان القذافي، من قبل، قد اتخذ موقفاً مخزياً مشابهاً، عندما أعلن تعاطفه مع صدام حسين، بعد إعدامه، وتحدث عن نصب تمثال لطاغية العراق، وسط طرابلس،لكنه لم يستطع إكماله، وتوقع في عدة مؤتمرات عربية، أن المرحلة المقبلة سوف تشهد سقوط جميع الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة، لكنه لم يتوقع أن يكون السيناريو على هذا المستوى من الدهشة والغرابة، وبهذه السرعة العجيبة؟!
    عندما اندلعت الثورة المليونية في مصر،بعد تونس، شعر الجميع أن الحبل بدأ يلتف على رقبة القذافي،وهو يتابع خطابات صديقه حسني،ولا بد أنه شعر بضعف الرئيس المصري وتخاذله، أمام الطوفان الشعبي، وقرر مع نفسه استخدام أسلوب مختلف ضد شعبه،لو انتقلت النيران إلى ليبيا،القريبة جداً، والمهيئة جداً،وكان القرار الكارثة هو استخدام أكبر قوة نارية لقمع أي ثورة محتملة!

ليلة سقوط العقيد!
              
عشية اندلاع الثورة الليبية كانت إذاعة الثوار من مدينة البيضاء تبث أغنية وطنية جميلة من تأليف الشاعر سالم التوسكي جاء في مطلعها:”اكيده خيالك ما رسم شكل النهاية.. يلي تظن  الفخر في عدد الضحايا”..وبين يوم سقوط نظام القذافي ويوم نهاية حياته الذي لم يكن في خياله أبداً، مرت أكثر من ثمانية أشهر،كتب خلالها العقيد آخر فصول جماهيريته العظمى،بأنهار من الدماء الزكية والدموع الغزيرة،وليلة سقوط العقيد،كانت في بداية ثورة الشعب الليبي،عندما شهدت مدينة بنغازي اعتصام أهالي ضحايا مجزرة سجن بو سليم،بعد اعتقال المحامي الشاب فتحي تربل منسق جمعية عائلات الضحايا يوم الأربعاء الموافق16 شباط(فبراير)2011 قبل يوم واحد من الموعد المحدد لإعلان الثورة،وفي الليلة ذاتها شهدت مدينة البيضاء انطلاق تظاهرة شبابية،قرب تقاطع(الطلحي) رفع خلالها المتظاهرون،لأول مرة، شعار(الشعب يريد إسقاط النظام)،فقامت قوات الأمن الداخلي بإطلاق النار عليهم،وقتلت ستة أشخاص وجرحت العشرات،وكانت خطة القذافي المرسومة مسبقا تتمثل في استخدام أقصى قوة نارية لإبادة المتظاهرين في أماكنهم،لكي لا يتكرر السيناريو التونسي والمصري،في ليبيا،حسب اعتقاده.
    في يوم الخميس 17 فبراير،بدأت الثورة فعليا، حيث وقعت مصادمات عنيفة بين المتظاهرين وقوات الأمن في بنغازي والبيضاء ودرنة،وكان الشباب يواجهون الرصاص بصدورهم العارية،أو برمي الحجارة أو رفع العصي والخناجر ضد الكتائب الأمنية،التي كانت تقاتل بأسلحة فتاكة ومعنويات منهارة،فرجحت كفة الثوار، وتم تحطيم صور الزعيم وحرق مقرات الأمن ومراكز الشرطة،واستولى المتظاهرون على كميات هائلة من السلاح والعتاد،وانطلقت في صبيحة الجمعة،شعارات عبر سماعات المساجد في البيضاء”لا إله إلا الله، القذافي عدو الله”!!
  عندما سمعت هذا الهتاف،بصوت زميلي الدكتور الشيخ إدريس الفضيل،ينطلق من جامع عثمان(رض) القريب من سكني،أدركت أن القذافي قد انتهى،وبدأت مرحلة تاريخية جديدة في ليبيا،وفي ظهيرة تلك الجمعة الشتائية ألقى الشيخ الشاب صلاح سالم خطبة حماسية، في جامع بلال، وسط المدينة، تؤكد سقوط نظام القذافي، فخرج الناس بعد الصلاة، وهم مذهولين من سرعة انهيار النظام البوليسي الرهيب،وغياب أنصاره من أعضاء اللجان الثورية،وتواريهم عن الأنظار!
 تلك كانت أولى المفاجآت، أما الثانية فهي إن مدينة البيضاء، كان متوقعاً ان تكون آخر المدن الثائرة،بسبب وجود أغلبية من أقارب صفية زوجة القذافي،فأصبحت أول مدينة تشتعل فيها نيران الثورة،إلى جانب بنغازي المعروفة بتمردها الدائم!
أما المفاجأة الثالثة، فكانت ظهور سيف الإسلام، في خطاب التهديد والوعيد،وهو شاب مغرور لا يحمل أية صفة رسمية سوى كونه نجل الزعيم، وكان مهمشاً من قبل والده،في السنوات الأخيرة رغم الإشاعات المتكررة حول نوايا توريثه الحكم، وجاء خطابه، في تلك اللحظات المشحونة، استفزازياً،فزاد من نقمة الليبيين، وكان الناس ينتظرون  رد فعل الأب على الأحداث المتسارعة في بلاده،وقد مرت ثلاثة أيام دون أن يشير الإعلام الحكومي إلى التظاهرات والمواجهات المسلحة،في المنطقة الشرقية،ثم ظهر القذافي أخيراً،ليلة العشرين من فبراير،في ذلك الخطاب الكارثي، الذي لم يترك أية فرصة للحوار والعقل والحكمة،في مواجهة الغليان الشعبي المتصاعد في بلاده الواقعة بين نارين!
    كنت مثل الكثيرين،حتى لحظة خطاب(زنقة زنقة)،أدعو الله تعالى أن يتوجه القذافي إلى شعبه بخطاب تصالحي عقلاني،وأن يعدهم بإصلاحات سياسية واقتصادية سريعة من أجل مستقبل أفضل،وان يستفيد من دروس التاريخ الكثيرة،وبخاصة الدرس القريب جداً، فيتخذ العبرة من ثورتي تونس ومصر،لكنه ذهب في الاتجاه الخاطيء تماماً، عندما توهم أن إعلان الحرب على شعبه، سوف ينجيه من السقوط، وتلك كانت لحظة مقتله الحقيقية!
    شعر الجميع بعد خطاب العقيد، بالصدمة من هول التهديدات والألفاظ غير اللائقة،التي أطلقها بطريقة هستيرية،وحسم المترددون موقفهم،فانحازوا للثورة، فمن طبيعة البشر، عندما يشعرون بالرعب والتهديد والفناء،ظهور روح التضامن وبروز الرغبة في المقاومة والدفاع عن النفس، وقد جعل القذافي أصدقاءه، قبل أعدائه، يشعرون بضخامة الكارثة المدلهمة، ورغم صعوبة الاختيار،وخطورة الموقف،فقد رأيت الكثير من الأساتذة والمثقفين الذين كانوا محسوبين من أنصار القذافي ينخرطون مع عامة الناس في الشوارع، ويرفعون علم الاستقلال الليبي، ويهتفون بسقوط الزعيم، ومن بينهم من كان يتفاخر،قبل أيام قليلة بأنه من أقرباء القذافي،وشهدت المناطق الشرقية المحررة، في تلك الأيام مشاهد رائعة،كشفت عن معدن الشعب الليبي وأخلاقه العربية الإسلامية الأصيلة،فلم تسجل أية حوادث سلب ونهب،للممتلكات الشخصية والعامة،ولم يتعرض أزلام النظام السابق للانتقام أو الثأر،ولم يعتد أحد على العرب والأجانب الكثيرين،وشهدت الأسواق وفرة في المواد الغذائية،وانخفضت أسعار الخبز أو تم توزيعه مجاناً أحياناً،وسارع أغلب الشباب إلى التطوع للقتال، وكان هناك شعور بالتفاؤل يطفح على وجوه الجميع،وهذا ما يمكن أن نسميه(روح الثورة) الشعبية الحقيقية، وليست ثورات العسكر وانقلاباتهم المشؤومة!
زحف الكتائب!
    مرت ثلاثة أسابيع على بدء الثورة،كان نظام القذافي يعيش خلالها في حالة ارتباك،ثم راح يجمع بقايا كتائبه استعداداً لهجوم مقابل ساحق على المنطقة الشرقية، الممتدة من بنغازي حتى الحدود المصرية،التي تحررت في الأيام الثلاثة الأولى،وأصبحت تحت سيطرة الثوار،ودارت خلال تلك الأيام معركة فاصلة في مطار الابرق، الواقع بين البيضاء ودرنة،حيث حاول القذافي إنزال مجموعات من قوات المرتزقة القادمين من طرابلس، لكنهم قُتلوا واُسروا قرب سياج المطار، من قبل أبناء القبائل القريبة.
   في الأسبوع الرابع زحفت كتائب القذافي من سرت، نحو الشرق،وسط أنباء عن اندلاع الثورة، في مصراته، المدينة الصناعية والتجارية، القريبة من العاصمة،ثم انضمت للثورة مدن الجبل الغربي المجاورة لتونس،وتلك التطورات فرضت على كتائب العقيد القتال في ثلاث جبهات متباعدة، وفي الوقت نفسه شهدت الساحة السياسية اتصالات وتحركات سريعة، فأعلنت الجامعة العربية تجميد عضوية نظام القذافي،في سابقة تاريخية عربية، وأدانت بشدة حرب العقيد ضد شعبه،وأعطت الدول العربية الضوء الأخضر لتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ الشعب الليبي، فصدر قرار مجلس الأمن رقم1973،وبدأ حلف الناتو تحريك طائراته وأساطيله لفرض حظر جوي فوق ليبيا، ثم تدمير ارتال الدبابات والراجمات المتوجهة إلى بنغازي، قبل لحظات من اجتياح المدينة وتدميرها.
    لم تكن حسابات القذافي وقراراته مبنية على قراءة صحيحة للواقع الليبي والعربي والدولي،فأراد تكرار تجربة صدام حسين في سحق الانتفاضة الشعبية عام1991،وسط صمت المجتمع الدولي حينذاك،لكن عصر الفضائيات والانترنيت يختلف تماما عن تلك المرحلة،فقد كانت الصور تملأ الشاشات عن الانتفاضة الليبية التي أرادها القذافي حرباً شاملة،وراح الكثير من الشباب غير المدربين يقومون بتصوير أحداث الثورة بهواتفهم النقالة وكاميراتهم الشخصية،ثم يعبرون الحدود إلى تونس أو مصر، لكي يوصلوا الأفلام للقنوات الفضائية، فيشاهد العالم مذبحة الشعب الليبي، وقد شعر أصدقاء العقيد بالإحراج من فضاعة تلك الصور،فتخلوا عن مناصرته،وفشل رهان القذافي على بعض الأطراف الدولية، في حين كان أعدائه الغربيين  ينتظرون هذه الفرصة الثمينة،فجاء رد الفعل بنفس مستوى الفعل،إن لم يكن أشد، وتحولت ليبيا إلى ساحة صراع وتنافس دولي،تحت غطاء حماية الشعب من زعيمه الجماهيري!
                                  
ملحمة مصراته

عندما عجزت كتائب القذافي عن تدمير بنغازي،بسبب صمود الثوار، في ظل الغطاء الجوي لطائرات الناتو،سعى العقيد إلى صد تقدم الثوار عند منطقة راس لانوف النفطية، وعمل على تركيز الهجوم على مصراته القريبة من طرابلس،وفرض عليها حصارا بريا وبحريا لأكثر من أربعة أشهر، قاوم خلالها المصراتيون ببسالة وبطولة لا مثيل لها،رغم تدمير مدينتهم بالصواريخ والراجمات،لكن إرادة الصمود والمقاومة جعلت هذه المدينة الثرية الجميلة تصبح قلعة الثورة الليبية،وكان القذافي يدرك خطورة تحرير مصراته،الواقعة بين طرابلس وسرت،وهي المدينة التي جعلت الثورة لا شرقية ولا غربية،بل ليبية شاملة،لذلك كان انتقامه وحشياً ورهيباً،لكن قواته بدأت تتراجع أمام شجاعة الثوار،والدعم الجوي من قبل حلف الناتو،وعندما خسرت الكتائب تلك المعركة، بدأت الهزيمة الفعلية للقذافي، وأصبحت طرابلس المحاصرة،من جهتي الشرق والغرب، على موعد مع فجر الثورة القادم،وكان سقوط باب العزيزية، بداية النهاية لنظام القذافي.
لماذا سرت؟!
     قد يتساءل الكثيرون لماذا لجأ القذافي، بعد هروبه من طرابلس إلى مدينة سرت،الواقعة في منتصف الساحل الليبي،وهي مسقط رأس القذافي،يوم ولادته ويوم وفاته،وقد كان الرجل وفياً وسخيّاً مع هذه المدينة،فتحولت في عقود حكمه الأربعة من قرية مهملة صغيرة إلى مدينة عصرية،شيدت فيها أفخم القاعات والفنادق والمقرات الحكومية،وقد عقدت في سرت القمة العربية الأخيرة التي ترأسها القذافي،منتصف العام الماضي،في مجمع قاعات(واغا دوغو) وسط مشاهد البذخ المفرط،وكان القذافي قد اقترح في خطاب على منبر الأمم المتحدة عام2009  نقل مقر المنظمة الدولية من نيويورك إلى سرت الآمنة، ومن يزور هذه المدينة،قبيل الثورة، لا بد أن يشعر أن القذافي قد جعل منها مقره المحصن لإدارة حكمه والدفاع عن نظامه، وحسب حساب يومه الأخير فيها،فهي مدينة مغلقة مثل المعسكر، لا يمكن الدخول إليها إلا بموافقة رسمية،ولا يسكن فيها سوى أبناء قبيلة القذاذفة،يحدها البحر من الشمال والصحراء من الجنوب،وتخضع لحراسة أمنية مشددة، وبخاصة عند البوابات المحيطة بها،وتوجد فيها كتيبة أمنية ضخمة،ومطار مدني وقاعدة جوية عسكرية،وترسو عند سواحلها فرقاطات وزوارق حربية،وهناك الكثير من المخابيء الحصينة تحت الأرض والبنايات شبه الفارغة،تحمل لافتات تشير إلى كونها وزارات(لجان شعبية)،لا يوجد فيها وزراء ولا موظفين،بانتظار أن يعلن الزعيم، ذات يوم،نقل العاصمة من طرابلس إلى سرت، ولكن ذلك اليوم لم يأت، ولن يأت!
 خلاصة القول أن القذافي،كان طوال أربعة عقود يمثل شخصية مثيرة للجدل،عبّر عن مواقفه المتغيرة بشجاعة ووضوح،وحاول تحقيق أحلامه ونظرياته، في ظل ظروف معقدة وتحديات كبيرة،نجح في تجاوز الكثير من الأزمات،لكنه فقد السيطرة على تفكيره وتصرفاته عند اندلاع شرارة الثورة،واختار أسوأ الطرق وأكثرها خطورة،عندما أراد إبادة شعبه من أجل الاحتفاظ بكرسي السلطة،فدفع ثمن ذلك الاختيار، مثل سابقيه من الحكام الطغاة..وتلك قصة عجيبة لحياة صاخبة وعبرة لمن يعتبر!!
  
  
المؤلف في سطور
الدكتور محمد جاسم فلحي الموسوي
* مواليد بغداد عام 1959
* باحث وأديب وصحفي
* حاصل على شهادة الدكتوراه في الإعلام عام 1998
* أستاذ الإعلام في جامعة بغداد وجامعة عمر المختار في ليبيا والأكاديمية العربية المفتوحة في الدنمارك
* كتب صدرت للمؤلف:
*( صناعة العقل في عصر الشاشة ): دار الثقافة، عمان، الأردن،2003
*( النشر الإلكتروني)، دار المناهج، عمان، 2005
*(اتجاهات إعلامية معاصرة)- منشورات الأكاديمية العربية المفتوحة في الدنمارك 2006
*طريق الفردوس- رحلة في ارض السواد(رواية) منشورات المؤتمر- طرابلس – ليبيا 200

بريد الكتروني:
[email protected]
موقع الكتروني:(نون والقلم) صحيفة الكترونية ثقافية عامة
http://mfalhy2002.maktoobblog.com