19 ديسمبر، 2024 2:58 ص

قراءة في البنية الفكرية السومرية

قراءة في البنية الفكرية السومرية

قدَّم لنا الفكر المعاصر (ميكانيزمات) جديدة في آليات دراسة التاريخ الحضاري، فبدلاً من التقسيم المفترض لتاريخ الفكر الإنساني، بوساطة نوع من العوارض (الكونكريتية)، التي تفصل الماضي عن الحاضر وكذا المستقبل. فان فكر ما بعد الحداثةPost Modernity  المشرق، قد أزال إلى الأبد هذه الحدود الجغرافية، وأتاح لنا أن نقدم إبداعات واكتشافات الحضارة السومرية، للفكر المعاصر، بنفس الآليات التي قدم بها الفنان الفرنسي (دوبوفيه) صورة البايزون الكهفية، إلى الذائقية الجمالية المعاصرة، وكأنها إبداع يصلح لكل الأزمنة.
فحين (نستدعي) الحضارة السومرية لأحكام الذائقية المعاصرة، ونقيم حواراً ساخناً بين الحضارات، ونعقد تواصلاً في تحولات الأساليب الحضارية عبر التاريخ. علينا أن نفهم إن حِراك الأساليب الفنية بوصفها (القيمة) العليا للحضارة، هو بمثابة خاصية من (التمرحلات) التراكمية بصدد الكيف، بعدّها تقع ضمن التجربة والخبرة الإنسانية بشكل عام. وبتأسيس هذا النوع من المفاهيم المعقلنة والواعية، فأننا نبغي وضع بنية الحضارة السومرية في موقعها الصحيح ضمن الاتجاهات الحضارية المتحركة في بنية الفكر المعاصر.
يكتب أسم سومر بالعلاقات (Ki – en – gi)، والدلالة العلامية للنص، هي أرض سيد القصب. والمهيمن في مدلول الملفوظات هنا.. هو الإله (أنكي) إله المياه، ومرجعيات الخطاب هي خاصية بنية البيئة السومرية. إذ ولدت الكلمة الأولى (متخفّية) بين أحراش القصب.
فليحتفل العالم كل حين، بذلك الكاتب (البركاني) الذي انتقى تلك القصبة الخالدة، وأحال مقدمتها إلى شكل مثلث، ولامسها بخفة على سطح الطين، فأبدع أول حرف مجرد، لا شيء فيه سوى شكل المسمار. وبتحريك أشكال المسامير وإعادة تركيبها، ولدت ألف علامة، وعشرة آلاف مدلول. لا شك أن العملية خارقة، أشبه بالمشي على حبلٍ معلق في الهواء، أو القفز من خلال حلقة نارية. حقاً كانت أرض (سومر)، بؤرة الانجازات الهامة في تاريخ الفكر الإنساني.
ففي العصر السومري العظيم، حققت حضارة بلاد الرافدين، قفزة معرفية من النوع (الكوبرنيكي)، مكوّنة أول مجتمع (متحضّر) في التاريخ.. مؤسسة (تاريخها) من خلال نشاط وحيوية حراك الأفكار المتحولة والمتجددة بشكل متسارع، فكأن هذا العصر أشبه بالقرن التاسع عشر الميلادي، فكل العصور التقت فيه، وتاريخ (الحداثة) بدأ منه.
كتب أحد المؤرخين السومريين، إن كتابة تاريخ الحضارة.. يعني حفظ إبداعات الإنسانية من الضياع. وذلك كشف فكري هام، في جدلية كتابة التاريخ، إذ كانت لدى السومريين (أثْبات) تخص أسماء وسني حكامهم. إلا أن من المؤسف.. هو إنهم لم يعلنوا عن بداية زهوهم الحضاري، الذي حددناه في (3500 ق.م). رغم أن ذلك كان يحزنهم، فلو سألت أحدهم: من الذي أقام هذه الحضارة الراقية على أرض الرافدين؟ لأجاب: لا أدري.. ربما بناها الجميع. ومع ذلك تشير الأدلة المادية، إلى أن نهاية عصرهم الذهبي وهيمنتهم السياسية كانت في (2370 ق.م)، حيث أعتلى سرجون الأكدي عرش الحكم على أرض الرافدين، معلناً قيام الدولة الأكدية.
أوجد الشعب السومري الرفيع الثقافة، نظام السلم الموسيقي، واحتفل بتعظيم القوى (الماورائية) في أقدم مراحل الفلسفة المثالية. وإنسانية الفكر السومري، وضعت الإنسان على أنه أعظم قيمة في الوجود، حين دون أعظم مشرعيه: “جئت لأخلص الضعيف من القوي، ولن أدع أحداً ينام وهو جائع”. هذا الإبداع الحضاري العظيم في تاريخ الفكر الإنساني، يشّكل الجوهر في (ذهبية) المشهد الفكري السومري، بوصفه تعبير جاد عن خاصية الزمان والمكان.. إنه صورة حية لتألق تلك القيم الثقافية الخالدة.
أكتشف السومريون الكتابة، التي كانت في مرحلتها الأولى (صورية)، تقوم على ثلاث مرتكزات.. الشيء المشار إليه هو المعنى، والإشارة وهي العلامة الكتابية.. والتشابه (الكائن) بين الاثنين. ثم جاءت الكتابة الرمزية للارتقاء بالنظام الكتابي، ذلك إن التفكير بالرموز في النصوص الكتابية السومرية، كان بمثابة (ارتقاء) بشكل العلامة الكتابية إلى درجة عليا.. تعددت فيها مستويات الدلالة، فحققت الذهنية السومرية، خصوبة فكرية، مكنتها من إدراك العلاقات والنماذج والصيغ الكلية.
وبوصول الكتابة إلى مرحلتها المقطعية الصوتية، تحولت من وسيط تمثل فيه الكلمات (الأشياء) التي تشير إليها دون زيادة أو نقصان، إلى أنساق خاصة تتراصف فيها الكلمات، لتتفعّل مدلولاتها من علائقها الداخلية كل منها بالآخر.
كان للّغة في الفكر السومري، طاقة سحرية، أوجدها الإنسان للسيطرة على عالمه، حسب ما أوحى إليه منطقهُ الأسطوري, فكانت أسطورية المنطق (فكراً) حققه الشعب السومري بفاعلية الطقوس الدينية، التي تعاظمت بقوة الكلمة، وكأن تأثير قوة الكلمة.. قد فاق (أثر) التصوير والتمثيل والتشكيل، فتقرب بها السومريون إلى (الماورائيات) بالضراعة والرجاء.. وبالأمر والنداء.
إن أول مدرسة في تاريخ الحضارة الإنسانية، كانت قد أسست على أرض (سومر)، وكان التدريس منصباً في طرق تعليم العلوم المختلفة، وإن عدد الذين مارسوا فن الكتابة يزيد على الآلاف.. فمنهم من كان كاتباً ممتازاً.. والآخرون مساعدون، ويصنفون على أنهم كتاب حكوميون أو دينيون، وكان بينهم اقتصاديون وإداريون وموظفون بارزون في الدولة.
واكتشفت (ألواح) طينية تحمل تمارين كتبها الطلاب أنفسهم، كجزء من واجباتهم اليومية، وكانت تتراوح بين كتابة المبتدئين.. والذين أوشكوا على التخرج. والأجمل من ذلك، هو مجموعة الألواح الطينية الكبيرة الحجوم، التي رُسم عليها بحركة خطوط الأقصاب المرتعشة (مناظر) طبيعية من الريف العراقي. فهنا جدول ماء، وهناك مجموعة من أشجار النخيل. قبل عصر الانطباعية بأكثر من خمسة آلاف سنة.
وفي بلاد سومر، نشأت أول أنظمة الديمقراطية في العالم، حيث كانت السلطة السياسية العليا والقضايا التشريعية بيد مجلسين هما: الشباب والشيوخ، وينتخب أعضائهما عادة من الشعب. إلا أن حرية الأفراد لم تكن مطلقة في كل الأحوال، وإنما كانت تسير ضمن حدود النظام، حيث حفظت حقوق المواطنين، ضمن سلسلة طويلة من الشرائع القانونية. والمدهش في الموضوع، هو أن النصوص الكتابية قد ذكرت وجود عدد من النسوة ضمن أعضاء مجلس الشباب.
ودونت الآداب السومرية على عدد كبير من ألواح الطين الصغيرة، ورتبت على هيئة سلاسل متتابعة، وحفظت كل سلسلة في أوعية من الفخار أو الخشب أو السلال، وعلق معها عنوان السلسلة الأدبية. ونتج عن هذا الأسلوب نظام الفهرسة وأقدم أنظمة المكتبات التي عرفت باسم (بيت الألواح).
واكتشف السومريون (الختم الأسطواني) على أنه وسيلة تقنية لتنظيم معاملات البيع والشراء بين أفراد المجتمع. فقد كانت فكرة الختم بمثابة التوقيع الشخصي للأفراد. ومع (التوقيع) ولدت فكرة (تميّز) الذات وتفردها في حركة الفكر الاجتماعي، حيث سادت الحرية، وشعر المرء بمكانته الاجتماعية المميزة، وذلك هو التحقّق الأول لولادة الأفكار الإنسانية في تاريخ الفكر الحضاري.
إن الاحتفاء بالفنون السومرية بوصفها أعظم (قيم) هذه الحضارة، يتفعّل بكشف بنية العلاقة بين البيئة (المحيط الخارجي) والمنجزات الفنية. وتعتمد هذه الرؤية على إنارة الإبداعات الفنية من الخارج، إذ تؤسس (التاريخية) منهجها بإخضاع مقولات الفن لقوانينها. ذلك أن أمثلة الفنون التشكيلية من هذا الدور الحضاري الهام، كانت تؤدي وظائفها في بنية الفكر، كمدلولات لحاجات روحية، فقد أبدعت لتقديم حلول لإشكالات الفكر الإنساني في مراحل تكوينه الأولى على أرض الرافدين.
فلم ينحت الفنان السومري تماثيله، بغية الحصول على (تمثلات) مشابهة لوقائع التجربة الخارجية. بل لتأويل (قوة).. تبقي الفكرة التي يمثلها التمثال حاضرة أبداً، فصور التماثيل هنا، ليست مقصودة لذاتها، بل لتعبيرها عن أفكار تنتمي إلى مستوى أخر غير منظور. فالتمثال الممثّل في هيئة مادية، ليس إلا تأويلاً لقوة غير مادية، أو لنقل (ماورائية) في حركة الفكر الاجتماعي.
ورغم إن الكتابات السومرية، لم تشخص في مناهجها الفكرية، تأويلاً محدداً يخص النشاطات الفنية، إلا أننا يمكن أن نتحرى ميول الفكر، من تحليل وتفسير منظومة العلاقات التي تميّز الأشكال، ومن ثم أعادة تركيبها وردها إلى مهيمنات بنية الفكر الحضاري. معتبرين المنجزات الفنية نوعاً من (الأبنية) التي تتفعّل أنظمتها بسياقات من الجدل، بين العوامل المحركة لبنية الفكر الحضاري، وما يميز الأشكال من دلالات تعبيرية.
وتتنوع آليات دراستنا التحليلية في تقديم خاصيات الإبداع في بنية الحضارة السومرية إلى الفكر المعاصر، بدراسة التاريخ بدلالة الفن وليس العكس، وذلك (بتفعيل) الخطاب الجمالي لهذه المنجزات، نحو نوع من الرؤية نسقط فيها مفاهيم الفن المعاصر على هذه الإبداعات. فجلّ الاهتمام منصب هنا، على تحليل أبنية الصور كأشكال تركيبية، وتمظهراتها المتشابهة مع سمات الأشكال في الفن الحديث. وذلك (فعل) يدعونا إلى تأطير الأشكال في وحدة كلية، بدلاً من تفكيك أنساقها الشكلية، التي تقررها (فواصل) الحدود التاريخية وإخبارية المضامين.
بمثل هذا (الإقرار) بتعدد الرؤى التحليلية، نفهم مقولات هذه الحضارة الهامة في بنية الفكر الإنساني، ونستوعبها، ونعلن عنها. نأمل أن تساهم هذه الدراسة في إنارة حيّز من (عتمة) الماضي، لتحقيق فهم أعمق للحاضر، بغية التبشير بمستقبل أجمل للإنسانية.

أحدث المقالات

أحدث المقالات