قبل أربع سنوات اتصل ترامب بسكرتير ولاية جورجيا قائلاً : كل ما احتاجه 11000 صوت وبعض الفكة. وسأله إن كان يستطيع تدبيرها حتى يكسب الولاية! في نفس الوقت اتهم خصومه الديمقراطيين بتزوير الانتخابات واللعب بنتائجها، ثم طلب من نائبه يوم 6 يناير عدم التصديق على النتائج في الكونجرس وحرض مؤيديه على إيقاف هذا التصديق بكل الوسائل.
هذه أمثلة بسيطة على مدى حب ترامب للسلطة وعدم مبالاته بكل القيم أو المعايير من أجل التمسك بها. طبعاً أثبت التصويت الكاسح لترامب في هذه الانتخابات عدم وجود تزوير أو لعب بالنتائج، مما يعني بطلان حجته التي طالما تذرع بها، لسبب بسيط عدم قدرة الأفراد على المساس بالنظام الانتخابي، نصف الآلي، على مستوى قارة كبيرة كالولايات المتحدة، السؤال المطروح الآن والذي يتبارى المحللون في البحث عن أسبابه هو : لماذا نجح ترامب بهذه الصورة في انتخابات 2024؟ والجواب البسيط يتمثل في العبارة الخالدة التي يرددها الأمريكيون دائماً It’s the economy, stupid! ، إنه الاقتصاد، يا أحمق !
في انتخابات عام 2020 كان الاقتصاد الأمريكي متعافياً ولعل نسبة الفائدة التي كانت ثابتة ولمدة طويلة، حول 1%، دليل على عدم وجود تضخم، مما يعني أن الشعب الأمريكي لم يكن يعاني من هذه الناحية ، وعندما يكون الأمر كذلك فإن الناس تنظر لأمور أخرى، كان من بين هذه الأمور انتشار فايروس كورونا الذي طحن مليون نسمة من كبار المسنين ، أي أن كثيراً من العائلات قد فقدت فرداً منها، ثم مشاهدتهم كيف تعامل ترامب مع الداء، فلم يكن على مستوى المسؤولية، بل كان استخفافه معيباً ، كما أن انتشار أخبار قبل الانتخابات عن كيفية تعامل الشرطة مع 500 طفل قريباً من حدود المكسيك بعد حرمانهم من أسرهم وطردهم خارج البلاد وسجن الأطفال في أقفاص والمعاملة المهينة التي تلقوها، كان هذا عاملاً زاد من حنق الناس على ترامب وعلى عنجهيته وغروره، فعاقبوه في صندوق التصويت. .
خلال السنوات الأربع السابقة من حكم بايدن كانت الإدارة تصرف المليارات من الدولارات بدون حساب على الحروب في أوكرانيا وفلسطين، إذ بلغ حجم المساعدات المقدمة لأوكرانيا منذ بدء الحرب الروسية الاوكرانية عام 2022، 64 مليار دولار، بينما بلغ حجم المساعدات المباشرة لإسرائيل منذ طوفان الأقصى 18 مليار دولار ( الرقم المعلن).
هذا الصرف رفع المديونية الأمريكية عدة درجات فبدأ التضخم يزداد بوتيرة منظمة، وللسيطرة على الوضع اضطرت هذه الإدارة إلى رفع نسبة الفائدة بالتدريج ( تم رفع نسبة الفائدة 11 مرة منذ مارس 2022) حتى وصلت الى 5.5% ، وهي أعلى نسبة لها منذ أكثر من 23 عاماً ، ولعل خير مثال على التضخم سعر جالون البنزين الذي كان بمعدل 2.17 دولار عام 2020 ووصل الى معدل 3.88 دولار عام 2023، وبلغ في بعض الأوقات 4.14 دولار. ولا يغيب عن الذهن أن معظم الأسر الأمريكية تملك أكثر من سيارة.
تأثير التدهور الاقتصادي على مستوى دخل الفرد حدا بالناخب الأمريكي لطرح السؤال الهام : لماذا نموّل حروب غيرنا؟ وهل مكانة أمريكا في العالم تأتي بهذه الطريقة. هذه المكانة التي أطيح بها في قرار بايدن تنفيذ انسحاب مذل من أفغانستان بطريقة مهينة ذكّر المسنين في أمريكا بانسحاب مماثل من فييتنام. كان هدف بايدن المصرح به توفير المبالغ التي تصرف على الإقامة في بلد غير مرغوب الإقامة بها، وعدم الزج بالجنود الأمريكان في حروب مباشرة، ولكن ثبت كذب الرجل بعد اشتراك البحرية في الحرب ضد أنصار الله في اليمن ، مما يعني فهمه القاصر لعبارة (boots on the ground) ، ) الأحذية على الأرض).
قام الشعب الأمريكي بالتصويت الكاسح لرجل غير محبوب ومتهم بقضايا كثيرة من بينها التهرب الضريبي وقضايا أخلاقية وهم على دراية بأنه مسن وأنه لن يثير حماستهم مثلما فعل الشاب أوباما، عاملوا ترامب على أساس ( من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر) ولكنهم في نفس الوقت عاقبوا بايدن وهاريس والحزب الديمقراطي وأثبتوا بأن الشعوب تعرف مصلحتها وأن الاقتصاد هو العامل الحاسم في اختيار من يتولى السلطة، كما أثبت هذا التصويت الكاسح أن المبالغ الخيالية غير المسبوقة في التاريخ والتي صرفت على هذه الانتخابات لم تؤثر على نتائجها، من الجدير ذكره هما أن كمالا هاريس حصلت على المبلغ الأكبر من التبرعات وخاصة من لوبيات مصانع الأسلحة. أثبت هذا التصويت أيضاً أن وقوف النخبة من المثقفين والمشهورين في السينما والأدب والفن وزعماء الحزب الجمهوري، الذين يكرهون تفرد ترامب بالسلطة ضده، لا تعني شيئاً بالنسبة لهؤلاء الذين يعانون من أجل إعالة أسرهم ، هذه النخبة لم تتأثر بالتضخم الاقتصادي فلا يعوزها المال للتغلب عليه.
النتائج والتوقعات:
سيتحسن الاقتصاد الأمريكي في العهد الجديد لترامب وسينتهي شبح الحرب النووية التي هدد بها الروس بسبب بايدن وسياسته الحمقاء، فهو لم يقرأ التاريخ ولا يعرف الجغرافيا، هذه السياسة التي ربما ستسير عليها خليفته هاريس.
سيطلب ترامب من الأوروبيين أن يمولوا حربهم ضد روسيا، إذا أرادوا استمرارها، فهو لن يدفع دولاراً واحداً لتمويلها. سيرفض الأوروبيون ذلك فقد تم دفعهم لهذه الحرب من بايدن وإدارته.
سيستمر ترامب في تأييد إسرائيل، فهو محب لها وكاره لإيران، ولكنه لن يمول حربها في المنطقة، ربما سيقنع السعوديين بالقيام بهذه المهمة بالقول لهم إنه لو سقطت إسرائيل فإنهم سيكونون الهدف التالي، سيدفع السعوديون له، سيقتطع نسبة من هذه المدفوعات لدعم الاقتصاد الأمريكي ويعطي ما تبقى لإسرائيل.
ستكون فترة ترامب الرئاسية الثانية والأخيرة حافلة بالمفاجآت، فهو رجل من الصعب التنبؤ بأفعاله، ولعل مثل ذلك مقابلته لكيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية عدة مرات في فترة رئاسته الأولى، الأمر الذي لم يفعله أي رئيس أمريكي من قبل. ولكن في المجمل ستكون فترة هادئة فهو لا يحب الحروب، ولكن المؤكد أنه بكل هذه التناقضات الموجودة في شخصيته سيدخل التاريخ.