(نحن مجرد ثقوب في آلة الناي )
يعد المسرح الواجهة الخلفية للواقع والحياة بشكلها الأوسع ، واجهة تتيح للكاتب رصد ومتابعة إحداث ذلك الواقع بكل تفاصيله المتشابكة والمتداخلة يضاف لها عين المتلقي الأول المؤلف المبدع الذي يتحكم بتنظيم وترتيب عوالم شخوصه والإحداث التي تشكل فضاءات النص معززا ذلك برؤية وجودية ومعرفية قادرة على فض هذا التشابك المعقد ما بين الواقع الفعلي والمتخيل المسرحي .
تمثل مسرحية (براد الموتى ) للكاتب والمخرج علي العبادي واحدة من المسرحيات التي تبحث في مناطق العتمة (المسكوت عنه )اجتماعيا وثقافيا وذلك من خلال سعي الكاتب للحفر في عمق اللاوعي الجمعي للمجتمع العراقي بكل حمولاته و إشكالياته الثقافية التي تتجلى في أنساق ثقافية مضمرة تطل برأسها بين فتره وأخرى وبإشكال متجددة ومختلفة حسب ما يتطلبه الواقع وهي إشكالية الاستبداد والتطرف المرتبط بالسلطة و الخطاب العنيف المعادي للأخر المختلف،وهذا ما أكده عنون المسرحية التي يشكل البراد بكل دلالاته النفسية والثقافية المرتبطة بفعل العتمة والموت استعارة صورية معبرة عن حجم التهشيم للمعنى الوجودي في الواقع لذلك تمثل مسرحية براد الموتى نصا نقديا مركبا من عدة رؤى وتوجهات نقدية مثل الاتجاه اللساني المختص باللغة ،والسيميائي الخاص بالرموز ،والصوري الخاص بتقنية الضوء والفرجة والاستعارة، حيث تتداخل هذه الاتجاهات داخل النص تداخلا تاما لتكسب النص طابعا إستعاريا ورمزيا يعكس قدرة الكاتب على فهم أساليب الكتابة الإبداعية .
يفتتح الكاتب المسرحية بمشهد استهلالي صادم لوعي المتلقي جثث متناثرة بزي ابيض وهو مشهد شديد الواقعية، موتى بأكفان بيضاء مشهد بات مألوفا لجميع العراقيين يتكرر كل يوم، كما يؤشر اتساع مساحة الموت في حياتنا .
تدور إحداث المسرحية حول ثلاث جثث داخل براد الموتى لا تحمل أسماء بل أرقام جثة رقم1،وجثة رقم 2،وجثة رقم 3 وهو ما يجعل من هذه الأرقام دوال تحيل إلى مدلولات متعددة تنفتح إستعاريا على صور الموت المرتبط بالممنوع والمحرم إمام تقلص واضح لصور الحياة المرتبط بالحرية والكرامة الإنسانية الغائبة لذلك امتزجت صورة الحياة داخل وخارج البراد بصور الموت واللاجدوى حتى بات يشكل عالم الأموات هو الصورة الأكثر تداولا في الواقع مما حول وجودنا إلى وجودا رمزيا يختزل بأرقام لا حياة تدلل عليها لفشلنا في تحقيق النموذج الحي والفاعل في الواقع المعاش فبتنا بلا هوية إنسانية و بلا أسماء تدل على وجودنا الحي (جثة رقم واحد:تتقدم الأيام وتسير بلا توقف وأنا أموت بالتقسيط المريح).
يقوم بناء المسرحية على ثيمة أساسية تنتظم حولها خيوط الإحداث وهي ثنائية الصراع ما بين الحياة و الموت ، اي الحياة المرهونة بتنازلات لسلطة الموت آلة القتل الحاكمة التي توهمنا دائما أنها تحيي وتميت حيث يدور صراع وجودي ما بين جثة رقم 1ورقم 2 التي تمثل الشعب مع وجثة رقم 3 التي تمثل السلطة التي استعادة وجودها بفضل رقم 1ورقم 2بعد ما كنت جثة هامدة لا حول ولا قوة داخل البراد ينتقل بعدها الصراع خارج البراد في مشهد يرمز للنزوع البشري للبحث عن الحقيقة او الخلاص خارج جدران الثقافة السائدة (البراد)لتكتشف بعدها صدمة هذا الفردوس الموعود الذي صورته لهم السلطة وهم الحلم بالحرية والسعادة لجثة رقم 1 ،وكتابة تاريخ جديد لجثة رقم 2 ، مقابل ان تكون جثة رقم 3 هي صاحبة السلطة داخل البراد (جثة رقم 3:سأخرجكما ..من هذا البراد ..ومن عفونته ..مقابل أن تختاروني مسؤلا عنه – جثة 1و2 :موافقان ).
استخدم الكاتب لغة ذات استعارات صورية وكثافة رمزية عالية كونها ذات بعدين جمالي فني( صوري) وفكري فلسفي (استعاري) يتضح ذلك في مشهد النصب الذي يرمز لصورة الحلم والنصر فالحلم يعكس الفني والجمالي (المتخيل) الإنساني المرتبط بالبراءة (جثة رقم 1 :انه رجل نبيل –جثة رقم 2:وطيب أيضا) ، إما الفكري الفلسفي فيتكشف من خلال تساؤل وجودي مفاده ما جدوى النصر في ظل الموت الذي يلاحقنا في كل مكان ،وهو ما يشكل صدمة لجثة رقم 1ورقم 2 من هذا الخارج المتمثل بوهم الحرية والسعادة والتاريخ الذي لم يرسخ سوى أصنام نحن من باركنا وجودها المقدس (جثة 2: اهذا الضياع ؟يسمى حياة سعيدة!- جثة رقم 1:عندما تصبح ذاكرة المرء دخان تسمى حياة سعيدة ) .
استثمر الكاتب زمان ومكان دائري مغلق موت ولادة ثم موت لدلالة على اللاجدوى من الحياة لذلك يبدأ المسرحية بمشهد الموت جثث مبعثرة ، ولادة تمزيق الكفن والخروج من حيز البراد المعتم الذي يشكل رحم للولادة،لتعود هذه الولادة للموت بعد صدمة الحياة في ظل السلطة لذلك تنتهي المسرحية بعودة رقم1ورقم2بعد إن اكتشفا حجم الوهم الذي رسمته لهم السلطة رقم 3 للسيطرة على البراد (جثة 1: ذلك الوهم الذي رسمته لنا ) ثم يقوم عراك يقتل فيه رقم 3 لتنتهي المسرحية برؤية نقدية تستعيد وهم الحقيقة التاريخية بالفردوس المفقود وهي استعادة صورية أكثر منها واقعية الهدف منها تهشيم سطوة السلطة المرتبط بوهم الخلاص الموعود وهي استعارة قد وفق في توظيف صورها الكاتب داخل النص تتمثل في موضوعة البحث عن أسباب التخلف والموت المستشري في حياتنا اليوم (1:تعلمنا من ذلك البراد درسان ..الأول إن لا نكون أنت) إما الدرس الثاني يأتي بعد صراع وتمرد على السلطة داخل البراد المتمثلة بجثة رقم 3 والوهم الذي رسمه بإعطاء الحرية والسعادة للوصول إلى السلطة. هناك حتمية وإصرار من الكاتب على جعل الموت بديل موضوعي للحياة داخل مجتمعاتنا حتى لو كان هذا الموت هو موت مجازي متخيل لكن إصرار الكاتب يعطي انطباع بعتمة المستقبل ،كما اعتمد الكاتب على الحركة والصوت أكثر من مساحات الحوار مما يقلص من دور اللغة بوصفها عامل مركزي في بناء النص تصنع ديناميكية الإحداث داخل النص .
في الختام تمكنت المسرحية من إزاحة الستار عن وعي ثقافي واجتماع ساهم في إنتاج التسلط والاستبداد والموت المصاحب لوجودنا بفعل السقوط المتكرر في فخ الأوهام التي تصنعها السلطة للوصول إلى مأربها بالاستحواذ ومصادرة حقوق الآخرين لذلك تعتبر مسرحية براد الموتى رسالة ذات إبعاد استعارية عميقة تتضح في صور الموت المتفشي وتمثل في نفس الوقت عامل إدانة وشجب للسلطة الحاكمة والثقافة التي أنتجتها متمثلة بالجماهير .