23 ديسمبر، 2024 10:55 ص

قراءة في (إكليل موسيقى على جثة بيانو) – تجليات التفاعل  ضمن بنية النص الشعري …

قراءة في (إكليل موسيقى على جثة بيانو) – تجليات التفاعل  ضمن بنية النص الشعري …

يتكئُ جواد الحطّاب في تجربته الشعرية الأثيرة في ديوان (أكليل موسيقى على جثة بيانو ) على كمٍّ معرفيّ هائل وخزين رؤيوي خاص يمكنه من سبر أعماق قصية لإشكاليات وجودنا وجدليات صراعنا الأبدي ليضيء بعرفانية الشاعر وبرهانية العارف مساحات تحجبها حجب شفيفة لتصبح اللغة في ديوان الشاعر وسيلة للتواصل مع الماضي الثقافي والتفاعل مع الحاضر وكأنّ الحطّاب  يجّسد المقولة التالية : (لماذا لا نغير الواقع حتّى لا يعيد التاريخ نفسه) وهنا يكون دور لغة القصيدة عند جواد حينما تعبر عن نتاج اجتماعي وحاملة لاستمرارية التواصل مع الآخرين وناتجة عن تراكمات الشاعر المعرفية من حيث التوليد والاستنتاج ، فجواد الحطّاب لا يمتلك هذا الكمّ المعرفي ويعيد إنتاجه شعرياً بل يتشاكل معه ويتفاعل ليعيد صياغة رؤية خاصة من عندياته من خلال نصه الشعري ذات البناء المعماري الخاص به والذي ترتبط جذوره بزمكانية  سابقة أثرت  وأسهمت في تكوين وبلورة حاضره الآني وبدوره يشارك هذه الحركية بإنتاج آتٍ متشاكل مع الماضي والحاضر .
فجواد في منجزه الشعري ومن أولى قصائد الديوان  يتداخل بنفيه الضمني المتمخض عن تمني ما يستحيل حصوله في المقطع الثاني من  القصيدة المعنونة بعلامة سيميائية متوهجه ألا وهي (المتنبي) وما يحمل اسم هذا الشاعر من سيميائية غنية الإشارات وبتدفق موسيقى المتدارك النابضة :
شبّاكٌ مفتوحٌ في الليل على الذكرى
…………..
لو كان ابن أبي طالب قد مدَّ يديه إلى العباس
لو أنّ الكوفة لم تتخاذل عن ابن عقيل
لو أنّ سليمان تجاهل أمر أبي هاشم (ص 9)
من هنا يتجلى وعي الشاعر العميق بأحداث التاريخ وانعكاساتها على واقعه فهناك معانٍ كامنة تدلل على أن الواقع حتماً سيكون مختلفاً لو تحقق عكس ذلك .
هنا جواد الحطاب يخلق رؤية خاصة وحكماً معرفياً ينبثق من هدرجة أحداث تاريخية ولا يكون ناقلاً لها بل مفسّراً عليماً فهو امتداد لفلاسفة الشعر وحكمائه الذين أخرجوا الشعر من بوتقة الطبع إلى فضاء المعرفة وتشكيل حكم نقدي من قراءة الشاعر الواعية للتاريخ وانعكاساته على الواقع فنجد التداخل بين المتنبي والشاعر والتوحد بتناصٍ وجودي وليس لغوي :
شبّاكٌ مفتوحٌ في الليل على الذكرى
.. قنديلُ يتأرجح وسط ضريح ولي
لو كنتُ مكان المتنبي
لوضعت الأمراء جميعاً في الحمّام
وسحبت (السيفون )
ط .. و .. ي .. لاً ( ص 18)
 إنّ تجربة الشاعر في منجزه تستند على معادلة متماسكة العناصر  ( ثراء معرفي + رؤية برهانية = تجربة شعرية متعددة المستويات) لذا عند تناول منجزه المتعدد المستويات والهادر بفيوض الدلالات سيكون مستوعباً من حيث تجلياته الجمالية والمعرفية من  زاوية (التفاعل النصي)  والذي يعرف اصطلاحياً بـ ( التناص ) وهو يعني التواجد اللغوي لنصٍّ في نصٍّ مشتقٍّ متأثر به وهذا لا يعني المطابقة فقد يكون (التواجد اللغوي) على أشكال متعددّة بدءاً من المفردة وانتهاءً بالجملة بل وأحياناً التشاكل في المعنى فالشاعر في القصيدة الثالثة من ديوانه  (مقبرة الغرباء ) وهي قصيدة في رثاء الجواهري يشي لنا أنها قصيدة ( تناص ) مع الشاعر سعدي يوسف وهذا التفاعل النصي يمنح للنص الجديد قوة وأصالة مستمدة من إرث الشاعر المعرفي وثرائه الثقافي ويعكس امتداداً وتداخلاً إبداعي :
لم أربِّ من قبلُ حماماً
لا أشعلَ ، لا أبيض , لا أصفر , لا رمادياً
من أجلك – أنت فقط – ذهبت لسوق الغزل
واشتريت مئة طير زاجل … أطلقتها باتجاه مقبرة الغرباء (ص 26 )
هنا من خلال هذا التناص يحلينا الشاعر لتذكّر رثاء حيدر ابن سعدي يوسف من قبل أبيه بتقنية (التشفيف ) وهي عندما يغطي النص نصاً آخر فيكون النص الجديد المشتق  ذات دلالات مزدوجة لهذا كانت قصيدة الشاعر جواد الحطاب (مقبرة الغرباء ) قصيدة إبداعية متفردة من خلال كونها (فسيفساء شعرية) دمجت بتقنيات مختلفة وامتصت إشارات سيميائية منسجمة مع فضاء القصيدة مكثفة ومختزلة فسيميائية الرمز  (دجلة ) يحيلنا لتذكر بيت الجواهري :
حييتُ سفحك عن بعدٍ فحييني … يا دجلة الخير يا أم البساتين
فلقد وظّف الحطاب التناص مع الجواهري من خلال بعض الإشارات المرجعية لقاموس الشاعر وبعضاً من مفرداته الأثيرة:
أبعيداً عن (دجلة الخير ) تنمو
بأصابعك اللاسلاميات لها
عواسج الكلمات أيضاً  (ص 27)
أو التناص مع لوحة قبر الجواهري والتداخل نصياً معها وتحويلها لصورة شعرية مختزلة ومكثفة لتمنح أبعاداً دلالية للمشهد الرثائي :
(… دجلة
والفرات
محفوران – الآن – على قبرك
كأضلاع حصان ميت ) (ص 28  )
لقد جعل جواد الحطّاب من تجربته الشعرية في ديوان (أكليل موسيقى على جثة بيانو ) ناتج إبداعي نابعة من تراكمات المعرفة في ذهنية الشاعر وخزينه الفكري الناجم عن ثقافة واسعة حتى ولو لم يتعمد الشاعر بظهور التواجد اللغوي في بعض قصائده  من خلال تجليات نصه الشعري لكنّ التقاطع بين نصوص سابقة كان موجوداً من دون قصده لكون هذا يعود إلى مخزونه الأدبي في الذاكرة فنلاحظ في قصيدته (كومونة ) تقاطع نصي واضح مع تجربة الشاعر الأولى في ديوانه الأول (سلاماً أيّها الفقراء ) وتواجد هذا الموقف الإنساني للشاعر وتجلياته في القصيدة فلو أخذنا مقطعاً من ديوانه الأول لوجدنا التقاطع والتشابك اللغوي وكأن النص الجديد هو (تشفيف) إبداعي لنصوص قديمة للشاعر  مما يؤكد عمق التجربة وثبات الموقف وليس القصيدة مجرد تجربة وقتية إنّما موقف وجودي أخلاقي مستمر ونجد تجليات أخرى في ديوان (يوم لإيواء الوقت)   يقول جواد :
هؤلاءِ أهليَ الفقراء
يؤاخون نجم البراري
ويستأنسون الرمال
فالتناص هنا حتمية أراد الشاعر أم لم يرد لأن التناص هو استمرارية حتمية لتطوّر التجربة الشعرية  وبقاء جيناتها الأصلية المكوّنة لها ماثلة في التجارب التالية ففي قصيدة (كومونة) نجد هذا التفاعل النصي في قول جواد:
معي أيّها الفقراء
لنهاجم الفردوس
سنطالب – أوّلاً –
بجرد أسماء جميع الأولياء 
إنّ التقاطع النصي بين النص السابق والنص اللاحق لا يؤدي إلى طمس ملامح النصين وتشويه معماريتهما بل هو وظيفة مهمة لقراءة النص الجديد على مستويات عدّة وهذا التقاطع النصي هو ما يعرف بـ (الممارسة السيميائية ) وهي تقاطع نصٍّ جديد مع بعض  ملفوظات نصٍّ قديم كما يتجلى من خلال اللفظة أو الجملة أو السياق وهذه الوظيفة تمكننا من قراءة هذه الإشارات السيميائية على مختلف مستويات بناء النص فعلى الرغم من تجليات هذه الممارسة السيميائية نتلمّس انعكاساتها الدلالية الجلية في أكثر من قصيدة في الديوان وبوضوح في قصيدة (استغاثة الأعزل ) وهي رثائية فلسفية عميقة للشهيدة المراسلة (أطوار بهجت) فكانت قصيدة حافلة بالترميز ضمن معمارية النص والعلامات السيميائية المتفجرة الدلالات:
لن تحصي سوى : الإنسان
في صحراء (سرَّ من رأى)
كان (السيّارةُ )  على بعد (بئرٍ) من أطوار
ورغم إنّها بلا إخوة , ولم تقصص رؤياها على المرأة
إلا إنّها رأتْ أكثر من كوكبٍ يسجد
لكنّه (الغراب ) هذه المرّة وليس (الذئب) (ص 120)
من هذا التداخل النصي بين نصّ الشاعر الرثائي وقصة النبي يوسف والتواجد اللغوي لقصة يوسف وقصة هابيل وقابيل ضمن تجليات النص الشعري لجواد الحطاب يجعل (الممارسة السيميائية ) وظيفة متداخلة مع النص تمكّن من قراءتها على مستويات متعددة ضمن بناء النص الشعري وهذا التداخل يمنح النسيج الشعري توهجاً دلالياً وعمقاً معرفياً ويمنحه معطياتها التاريخية والاجتماعية  وهذا ما ينطبق على توظيف الشاعر جواد الحطاب  لسيميائية  ( أسماء الشخصيات التاريخية أو الحاضرة ) من قدرة ترميزية عالية تختزل في ملفوظاتها الكثير من الفضاءات الدلالية كإشارات على حقب زمنية تتجسّد فيها الكثير من الأحداث ونجد هذا التوظيف الإبداعي يشمل عدّة قصائد في ديوان الشاعر الحطاب منها ما جاء من توظيف في قصيدة (الحيزبون) :
ترقص الحيزبون على دمنا
ترقص الحيزبون…
٭أيعرفها سبي بابل…؟
٭ أم هي من أهل خيبر… ؟
خطيبة (ابن ملجم)
زوجة (الشمر)
مومس تيمورلنك
كلّ (سنتمر مربع) في كفّها
ظلماتٌ ,وقتل
أسألوا دم لوركا (ص 56 )
إن التفاعل النصي ( التناص ) لم يكن في ديوان جواد الحطاب ديكورياً شكلياً بل جاء وفق مقتضيات التطوّر المعرفي للشاعر والتراكم الثقافي المخزون في ذاكرته لهذا كان هذا التفاعل النصي المتداخل والمتشابك في قصائد الشاعر يؤدي وظيفة أسلوبية وكان متماهٍ في بنية نص القصيدة كفسيفساء متناغمة ومتشاكلة مع البنية النصية وفق آليات (التناص ) التي حددت من خلال الدراسات النقدية والتي ظهرت تجلياتها في فضاءات قصيدة الشاعر جواد ذات الشكل المعماري المتفرد والذي يحمل بصمة الشاعر الإبداعية فكانت لآليتي التناص ( التمطيط) و( الإيجاز) تجليات ظاهرة في بنية قصائده وهذا ما ينعكس من خلال وسائل (التمطيط) التي أعتمدها الشاعر وكانت على النحو التالي :
● الشرح : وهو من أهم وسائل (التمطيط ) باستخدام البعد التفسيري للفكرة التي يحاول الشاعر شرحها من خلال (كلمة محورية أو تركيب ) تدور حولهما القصيدة بالكامل وهذا ما نلمسه في بعض قصائد الديوان أبرزها (قصيدة المتنبي) باستخدام جملة (هل فاتَكَ {فعل} فاتِكُ {اسم}  ) لعدة مرّات في القصيدة:
هل فاتَك … فاتِك
أم أنّ الفتّاك جميعاً
كمنوا فيه…؟ ص 11/13/16(تكرّرت ثلاث مرّات )
●الاستعارة : من حيث نقل الشاعر( للمعاني المجرّدة ) إلى (المحسوس) وهذا ما يبهرنا به جواد بقدرته على الإزاحة (تراسل الحواس ) عن طريق المجاورة أو الشبه  أو تشكيل المجرد بهيئة المحسوس :
أيها الأصدقاء :
ألم ننسَ في جزمة الحرب
أقدام أعمارنا …؟ (ص 58)
أو :
الحدائقُ أصابتها التأتأة
وتوقف العطرُ عن الخفقان
.. طوال الليل
ظلّت تنزف الوردة ( ص 123 )
● التكرار : ويكون على مستويات متعددة كالأصوات والكلمات والصيغ وهنا لم يكن التكرار في ديوان الشاعر فائضاً أو مترهلاً بل جاء وفق ضرورة تعبيرية وعلى مستويات متعددة الدلالات ومضيئة لجوانب متشاكلة في بنية القصيدة ضمن مقتضيات البعد التفسيري للتكرار :
بلادي : بلادي
ليس لديها فرع آخر
كي أتركها للأمريكان
بلادي : بلادي
الدمعة في الشفتين : بلادي
الضحكة في العينين :بلادي
الرجفة في الرئتين : بلادي
والشهقة في الكفين : بلادي
بلادي : بلادي (ص 109)
أما آلية (الإيجاز) والتكثيف فللشاعر جواد الحطاب ومنذ بدايته قدرة متفرّدة على تكثيف واختزال اللغة وكان لمعمارية الشكل في قصيدته طابع خاص يتميز به عن غيره فهو قد كوّن معادلة معرفية مستندة لقاعدة أسلوبية تعتمد على ضغط الجملة الشعرية من حيث الحجم الشكلي وتحميل كتلتها الدلالية كمّاً هائلاً من المعاني ليجعل من نصّه الشعري  متعدد المستويات من حيث البناء ومن خلال الإشارات والتلميحات الموجزة التي تؤدي إلى فضاءات رؤيوية متعدّدة كالإشارات التاريخية الدالة أو الواقعية الموحية أو المعرفية وقد كان للإيجاز في قصائد الديوان تمظهر واضح أسهم في توهج الجملة الشعرية وجعلها نابضة بكم دلالي هائل ومستويات قرائية متعددة بواسطة التواجد اللغوي لأسماء تعكس أحداثاً تاريخية مهمة ذات مغازٍ عميقة في الوجدان الجمعي :
يا يوسف
ألف ذئب من ذئاب أخوتك
ولا غراب واحد من غربان (ساء من رأى) (ص 120)
أو:
مليون طفل يمصّون أصابعهم خوف الجفاف
(… من قبلُ
أعطى الحسين , ولده علي الأكبر , لسانه
لعلّ قطعة الخشب تكون مندّاة … ! )
كم حسيناً يحتاج أطفال العراق الآن … (ص 72)
لقد كان منجز جواد الحطّاب (إكليل موسيقى على جثة بيانو) وثيقة إبداعية ذات أبعاد إنسانية جسّدت بفسيفسائها الشعرية مواقف الشاعر الوجودية تجاه قضايا أمّته المصيرية واستمرارية الشاعر في المساهمة بمهمة تغيير الواقع من خلال تواصله الواعي والفاعل مع تاريخه وماضيه والتفاعل معه لاستخلاص رؤية جديدة تسهم في إثراء الواقع ومعالجة بعض إشكالياته ضمن منظومة معرفية يمتلكها الشاعر وتنبع من خزينه الثقافي الثر الذي يستمد وهجه من وعي عميق فكان هذا المنجز متعالق الجذور مع الماضي ومتناغم مع الحاضر .
ديوان (إكليل موسيقى على جثّة بيانو) يقع في جزأين الجزء الأول يتكون من  16 قصيدة أما الثاني من 19 قصيدة في  135 صفحة  صدرت الطبعة الأولى منه عام 2008 عن دار الساقي في بيروت – لبنان.