18 ديسمبر، 2024 11:49 م

قراءة في أولوية الفكــر أم  المادة في التطور البشري..من يتقدم على من  ؟؟!!

قراءة في أولوية الفكــر أم  المادة في التطور البشري..من يتقدم على من  ؟؟!!

إستمر الجدل الفلسفي بشأن من هو الأصل ومن له الأسبقية في نشأة وتطور الكون لقرون..هل هو المادة أم الفكر؟ ومن يتقدم على من؟؟.. او الإسبقية لمن : للفكر أم للمادة في كل ماشهدته البشرية عبر حقبها المختلفة حتى عصرنا الراهن !! 
كان الفيلسوف الألماني (جورج فيلهلم فريدريش هيغل) أحد أهم الفلاسفة الألمان ويعد من أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، من أعطى للعقل الارجحية في أن يكون له القيمة المطلقة ، وله الريادة في التطور الإنساني والتقدم والنهوض الذي تشهده الدول والمجتمعات . 
يعد الفيلسوف الألماني هيغل الذي جذبته وسحرته أعمال إسبينوزا وإيمانويل كانت وروسو والثورة الفرنسية واحدا من الفلاسفة الكلاسيكيين الألمان، مؤسس الفلسفة المثالية ، وكان هيغل الشاب راديكاليا، رحب بثورة القرن الثامن عشر الفرنسية ،  وتمرد على النظام الإقطاعي للملكية البروسية، ولكن الافكار التي وصفت بالرجعية التي حلت في كل أنحاء أوروبا بعد سقوط امبراطورية نابليون أثرت في طريقة هيغل في التفكير!! 
وقد ظهرت الفلسفة الحديثة، والثقافة، والمجتمعَ من وجهة نظر هيغل من خلال عناصر مشحونة بالتناقضاتِ والتوترات ِ،كما هي الحال بالنسبة للتناقضات بين الموضوعِ وجسمِ المعرفة ،بين العقلِ والطبيعةِ، بين الذات والآخر، بين الحرية والسلطة، بين المعرفة والإيمان، وأخيرا بين التنوير والرومانسية.
 كان مشروع هيغل الرئيسي الفلسفي أن يأخذ هذه التناقضاتِ والتوترات ويضعها في سياق وحدة عقلانية شاملة ،موجودة في سياقاتِ مختلفةِ، دعاها “الفكرة المطلقة “أَو” المعرفة المطلقة”. 
وطبقاً لهيغل، فإن الخاصية الرئيسة في هذه الوحدةِ أنها تتطور وتتبدى على شكل تناقضات وتولد التناقض والإنكار لهما طبيعة حركية في كل مجال من مجالات الحقيقة (الوعي، التاريخ، الفلسفة، الفن، الطبيعة، المجتمع) ، وهذه الجدلية هي ما تؤدي إلى تطويرِ أعمق للوصول إلى وحدة عقلانية تتضمن تلك التناقضاتَ كمراحل وأجزاء ثانوية ضمن كل تطوري أشمل. هذا الكل عقلي لأن العقل وحده هو القادر على تفهم كل هذه المراحلِ والأجزاءِ الثانوية كخطوات في عملية الإدراك. وهو عقلاني أيضا لأن النظام التطوري المنطقي الكامن يقبع في أساس وجوهر كل نطافات الواقع والوجود وهو ما يشكل نظام التفكير العقلاني. 
ومن حيث المبدأ تقوم فلسفة هيغل المثالية على اعتبار أن الوعي سابق للمادة بينما تقوم النظرية الماركسية على اعتبار أن المادة سابقة للوعي وهي، أي المادة ،  من تحدد مدارك الوعي وبالتالي يتطور الوعي بتطور المادة المحيطة بالإنسان. 
كان ماركس أحد رواد حلقات عصبة الهيغليين ثم انشق عنها مؤلفا فلسفته الخاصة به، ومن وجهة نظر مفكرين فإن النظرية الماركسية بماديتها لا تستطيع تفسير كل ما يدركه الوعي لأنها تفترض – على المطلق – بأن الوعي هو انعكاس كامل عن المادة ولكن إذا سألنا أنفسنا عن ماهية المادة التي أعطت الوعي بعض المفاهيم المثالية كالحق والعدالة والرحمة فإنه لن تكون هناك أية مواد مزودة للوعي الإنساني لتلك المفاهيم، هناك حقائق مطلقة في هذا الكون كما أسماها هيغل على المجاز يعمل العقل البشري بكل من المادة والوعي ضمن علاقة مركبة بينهما على اكتشاف تلك الحقائق والنواميس التي تجتاز في حقيقتها وماهيتها حدود المادة القاصرة نفسهأ على تفسير مثل تلك الظواهر إذا ما حاولنا فهمها بمادية مجردة، قد يمتد هذا الفهم إلى الميتافيزيق نفسه وهو ما أنكره ماركس تحت مسمى (الدين أفيون الشعوب وزفرة العقول البائسة).
 وقد إستفادت البشرية كثيرا من إحتدام هذا الجدل والصراع منذ أزمنة سحيقة ، لكن العصر الحديث ، وظهور وتطور الفلسفات والقوى والحركات ( الثورية ) ربما كان له الإسهامة الكبرى في أن تشهد مناهج التاريخ والفلسفة جدلا كالذي كان يحتدم الى ماقبل عقود من الزمن ، وما زالت نيران جذوته متقدة وان إنطفأ لهيبها بعض الشيء !! 
كان هيغل قد سبق ماركس وانجلس بسنوات في أنه وضع الفكر في المقام الأول في نشأة الكون وما شهدته البشرية من تقدم ونهوض، وان المادة من وجهة نظره كانت عاملا آخر أسهم في هذا التطور، أي أن هيغل أعطى للعقل الأرجحية في القدرة على تفسير الاشياء ، وإنه لولا تطور الفكر والفلسفات لما حدث كل هذا التطور من وجهة نظره!!
 كان ماركس مؤسس الفكر الشيوعي وباني نظريته المادية يرى ان هيغل ، قد أقام طريقة التفكير على أساس (مثلث) وضع الفكر والعقل والقيم في قمته وأبقى المادة هي قاعدة الفكر وهي مركز انطلاقته، لكن ماركس (قلب المعادلة) رأسا على عقب، وأعطى للمادة الدور الرئيس في التطور ونشأة الكون وما حصل من تقدم بشري، وان الفكر من وجهة نظر ماركس هو (إنعكاس) للتطور المادي الجدلي الديالكتيكي، وهي ، أي المادة، هي من لها الغلبة في هذا التطور، ولولاها لما شهدت البشرية كل هذا الصراع والجدل، أي أن التغير المادي هو الأكثر تأثيرا وان التطور الفكري هو نتيجة حتمية لما وصلت اليه المادة من انتقالات تطورية، حتى وصلت الى مراحل الحضارة والتمدن الذي نعيشه، حتى قيل ان ماركس أعاد ترتيب هرم المثلث الى قاعدته، بعد إن كان هيغل قد وضع المثلث بالمقلوب ، ورأى ماركس من وجهة نظره ان الأصح والأصل في القاعدة هي المادة وما الفكر الا إنعكاس للتطور المادي!! 
الا إن فلاسفة ومفكرين آخرين ، بعضهم سبق مركس بقرون وممن يحسبون على عصر النهضة والفكر الاسلامي وآخرين أعقبوا مرحلتي هيغل وماركس ، كانوا قد أعادوا ترتيب الفكر مرة ليكون له الدور الريادي المتقدم على المادة، مستشهدين بأفكار الأنبياء والرسل والمصلحين والفلاسفة الذين أسهمت رؤاهم وفلسفاتهم الى أن تصل البشرية الى كل هذا النضج وان يحتدم الصراع فيها مرة من أجل البقاء وفي أخرى لتبيان الغلبة وتأكيد الذات الانسانية والقيم في أن تكون هي الرافد الأساس للتطور الانساني والمعرفي، من دون ان يهملوا الجانب المادي ومدى إسهامه في التطور البشري، وما زال الصراع يحتدم حتى وقتنا الحاضر ، حتى وان خف كثيرا، بعد إن طغت الاعتبارات المادية على كل شيء وأصبح التطور المادي التقني التكنولوجي هو الأساس وربما يتفوق على التطور الفكري ، حتى أضحى الأخير هو المرجح في الوقت الحاضر!! 
هذا الجدل بين أولوية الفكر أم المادة ربما يعيدنا بعض الشيء الى الفلسفة البيزنطية (البيضة من الدجاجة أم الدجاجة من البيضة) ، بالرغم من ان الأصل كما يفترض بالمخلوقات انها كانت على هيئتها ، وان (الدجاجة) هي (الأصل) والبيضة منها، لكن آخرين يؤكدون انه لو لم تكن البيضة لما كانت الدجاجة، وهكذا بقي الصراع يحتدم ، لكنه وان تم حله، فهو يمثل احد اوجه الصراع، الذي كان الطابع الذي فرض نفسه لسنوات!! 
لقد أنهت سياسات الدول الكبرى وهيمنة الولايات المتحدة على السياسات الكونية للعالم، مستغلة تطورها التقني التكنولوجي المادي لتكون الاخيرة لها الارجحية في السيطرة على مقدرات العقل البشري ومصادرة قيمه الروحية والفلسفية ومنظومته القيمية والفكرية ورؤاه للمستقبل، حتى تراجع الصراع الفكري كثيرا لصالح الطابع المادي والتفوق العسكري المادي التقني ، وأصبحت المادة للأسف الشديد هي المحرك الرئيس لكل القوى والسياسات والفلسفات والنظم ، وربما راح يرسم حتى معالم القيم المطلوبة، لكن هذا لايعني ان نظرية ماركس كانت هي الأصح، ولن تكون القيم والمعارف والفلسفات متأخرة على طول الخط او أنها ستبقى غائبة أو تأثيرها محدودا،  فما زالت الافكار والمناهج الفكرية تصطرع وتلتقي او تتنافر، وتختلف مسارات التطور الفكري والايدلوجي والقيمي وان خفت بعض الشيء، الا انه لايمكن للبشرية أن تسلم إرادتها، وتكبح تطور العقل في أن يكون له الدور الريادي والأساس في التطور البشري ، وفي أن تحافظ الدول على بعض من بقايا سيادتها واستقلالها وقيمها الفكرية والروحية ، ولو في حدها الأدنى!!‪