18 ديسمبر، 2024 7:18 م

قراءة في أقاصيص (سعادات الأمكنة المضاعة)لباسم شريف

قراءة في أقاصيص (سعادات الأمكنة المضاعة)لباسم شريف

مصائرية بنية الفقدان في الأمكنة الذهنية
مدخل : في عوالم أقاصيص مجموعة ( سعادات الأمكنة المضاعة ) للقاص الصديق باسم شريف نعاين حضور الصورة السردية القصصية عبر سياقية نسق الأسلوب المطرد الذي نراه يتخذ لذاته في متن نصوص ذلك التحول الثبوتي في مكونات الرسم التخاطبي سعيا من القاص نفسه لبلوغ مواطن و ملامح وفضاءات العبور نحو دلالة محصلة متجانسة أو غير متجانسة من حلقات الشد الوظائفي المتميز . فالقارىء لقصة ( الزمن الحميم ) وقصة ( سعادات الأمكنة المضاعة ) لربما يهجس وجود ذلك التنوع في قدرة القص على تشذيب أكوام من التفاصيل الحياتية المسكونة في صورة لحظة غيابية هاربة وهي تنجذب بسرعة تارة نحو السياق المجرد وتارة نحو مراكمات صور المغادرة النهائية الكامنة في حدود تكثيفات علاقات سردية معقدة موزعة بين حسية المعنى الأعتباري و شرطية الذاكرة التصديقية للصورة الإيهامية لفكرة النص : ( راحت داره تمتلىء بالغزاة .. معرفيين .. فلاسفة .. صانعي رؤى .. ولاهوتيين من شتى أديان الشرق .. ذات مساء و في ذروة صيف المدينة القائظ الذي تختفي فيه كل معايير المنطق .. كان يهجس أصداء
روحه القلقة تجوب الدار تريد أن تضع حدا لهجران طال أمد أحتباسه .. كان يحدس أنا هي و بحكم معرفته بمكانها الأثير ألتفت الى ناحية السرير الجريدي الذي ما زال يعج برائحتها قائلا : ــ ليس لدي الرغبة في مجاراة ما تريدين الخوض فيه .. مازال لدي متسع على الرغم من كل هذا الخراب .. ما زال هناك نهر جار .. ما زالت هناك بيوت عتيقة تختلج بين جدرانها جميع أنواع الذكريات بعضها حي و بعضها أغتالته متوالية الحروب / قصة الزمن الحميم / الى روح محمود عبد الوهاب ) قطعا لا يكون لحدس النهايات إلا أثر الصفاء الباطني في نظائر محيط حلقة الحضور و الغياب العابر أو الغياب المستعار بالإضافة . أن قصة ( الزمن الحميم ) لعل القاص أراد من خلالها إحداث إجرائية صنيع الحاجب الزمني الكامن بين صوت مساحة تكوينية الأشياء الذاكراتية و بين دافعية حدية إقتراب النهاية .. حيث تتشكل لنا من خلالها ــ أي القصة ــ تركيبة أشبه بالمجازية من شأنها استدعاء الصوت الشهودي الفردي الذي راح يغالب قهرية شعوره المجلى بين الصوتين ( صوت الشعور بالتوازن الداخلي ) و بين صوت الإستجابة لكائنية الخوف الداخلي الذي يكون بالنتيجة القصوى عبارة عن منح الشعور بالأشياء الحية خلافا . الحال في قصة ( سعادات الأمكنة المضاعة ) قد جاءتنا هي الأخرى عبارة عن حزمة مشاهد فنتازية إلا إنها بالمقابل الآخر تقيم أوتادها بالسعي المخالف نحو إيقاظ حيوية الشخوص اللذين لا يكفون عن مراكمة و تلفظ مفردات( الرعب / اللوعة / القلق ) فيما وهناك في الوقت
نفسه ثمة حالة من حالات الترقب التأملي لوقوع الكارثة : أن شخصيا ممن يحبذ هذه القصة انتقاءا مني على باقي قصص المجموعة لأنها راحت توفر لذاتها مجالا فنيا كبيرا لكشف رؤية الأحوال المفترضة تغليبا على مسكونية الأمكنة التوصيفية الفردية في صناعة نصوص المجموعة . لذا فأن القاص من خلال أصواتها أي القصة أخذ يواكب رسم الحالات النفسانية المعادلة وصولا الى تفاصيل أيقونية و إيمائية هائلة في ساحات ملاعب المخيلة السردية التي أجاد القاص في خلق أمتزاجاتها التقاطبية الحادثة في فراغات الأمكنة و في روحية الأشياء القابعة في مواقف النص : (كنت أرقب الضوء المنبثق من السقف و أسيجة السطح الخشبية المتداعية وهو يغمر بسطة السلم المؤدي الى المخزن كاشفا ماكانت تخبئه الظلمة / فكرة إن الضوء حل بمثابة أجوبة حاسمة على الكثير من التساؤلات التي كانت تثيرها نفسي تلك الأشياء القابعة هناك و التي تحولت فيما بعد الى أصداء ورؤى تحاول بسط سطوتها على عالمي .. نهضت مأخوذا بالتفاصيل الدقيقة التي راحت تضج بمخيلتي .. دفة سفينة مجهولة ظلت وجوه بحارتها تتعقبني على مدى أشهر .. ساعة جدارية قديمة مازال صدى بندولها يطوف بين الجدران / و قبل أن يداهمني النعاس على شكل غفوات فاترة بقيت دون حراك بعينين مصوبتين بثبات الى المخزن / قصة : سعادات الأمكنة المضاعة ) أن فكرة الفهم لوحدات هذه الفقرات السردية التوصيفية ما هي إلا عمليتان لوضعية نصل من خلالها الى تفصيل فردي ما مصدره رابطية تلك
المجموعة العرضية و جملة إدراك مسارات المخيلة إنطلاقا من الذاكرة العامة التي تربط و عناصرها الجزئية في شق روحية ( الأنا / نقطة الإنطلاق / الجزء الى الكل / و من الكل الى الجزء) فحادثة و ايقونة ( المخزن ) هي جسد البؤرة اللامرئية و المعنى في ذلك هو عاملية التبليغ و بث روح الخروج بالمخيلة نحو فعل ما رواء مظهر خطاطة الأشياء و حالاتها التوصيفية في مراكمات الموضوعة : (ساعة جدارية قديمة / العوالم التي كانت متطابقة الى حد بعيد مع حدوساتي / دفة سفينة مجهولة ظلت وجوه بحارتها تتعقبني / أزمنة محشورة في الفضاء المنسي = ذكريات مخبئة = حلم خبيث ونهار سيء = الزمن المتحول = الفراغ الغيابي في المكان = كشف لما خفي و رسم لزمن آت ) لقد سعى القاص في قصته الى إخفاء ادوات حصيلة مغزى رموزه الرؤيوية وصولا الى علاقات كانت الأساس لإتحاد الذات / الموضوع / الصفة / السبب / الصورة / النتيجة .. فليس من قبيل المصادفة أو العبث السردي أن يظهر القاص في متن نصه تلك المزايا العرفانية في غيب مرموزات تلك الأحوال التي واجهتنا في مؤثثات النص الأولى بظهور تلك الشخصية المختلة الخالية من أي إختيارية ما في النموذج الأنتقائي في النص .. بل أنها راحت تتشكل في علاقتها بالمكان و الأشياء المخبوءة في زمن زوايا مخزن الذاكرة أي تلك الحلولية الذروية المبتغاة في قيمة ما وراء المشهد العقدوي في النص : ( شعر كثيف يتخلله فراغ أملس قيل أنه مكان لشظية كادت تؤدي بحياته أصيب بها في واحدة من
أكثر الغارات عنفا أبان المراحل الأولى للأحتلال / في الأونة الأخيرة أخذت حالة الرجل بالتدهور وراح يتفاقم لديه أحساس عميق بالعزلة و الفقدان / كنا نلمس ذلك من الحوارات الوهمية التي كان يجريها مع شخوص مفترضين يظن أنهم ما زالوا يقطنون هنا . ) أن إجرائية قراءة أبعاد الحالة الشخوصية نفسيا تبدو في أحوال الشخصية هنا و كأنها تشكل إيماءة ما لرسم معالم دلالة استدراجية ما في مفعول القص . فالتحولات في مسار النص ذاته باتت تحولا في طبيعة الدالة الوصفية للمظاهر النصية القارة في موجهات الشعور بالزمن و حساب التمييز بين دال ( الرجل) و بين دال ( العزلة و الفقدان ) و بين الحوارات الوهمية ودلالة واقعة ( المخزن / الغرفة ) ومما يعمق صلة إتصال صوت الشخصية الساردة هو قدوم دلالة حلمية ( حبل الحلم ما زال عالقا ) و تبعا لهذا فأن الوصف بات ينقل لنا أحداثا منفصلة و متواصلة قادمة عن حقيقة ذلك الرجل : ( حتى أن بعض رواد المقهى ممن ألقت عليهم الأحداث الدامية وضعا من الأرباك استهوتهم تلك الممارسات التي يصر عليها الرجل ظنا منهم أنه الوحيد القادر على إقامة هذا النوع من الصلات مع أزمنة كانت أكثر سعادة و نقاء ) من هنا نعاود استعراض حقيقة و هوية و ملامح شخصية السارد الذي كان يميل الى وصف الأبنية القديمة و الشناشيل و شبابيك الأبنوس وضجيج الشوارع الممتلئة بالمارة و فيض ذكرياته : ( وحده الحزن أخذ يقدم مظهرا متشابها تتوحد جميع الملامح من خلاله ) من وراء كل هذا نتبين بأن القاص كان
يلوح الى حقيقة أحوال المعالم القديمة حيث كانت فيها سعادات الأمكنة و الشخوص متكاملة بلا حروب و بلا قلق وبلا ترقب لمجالات هاوية الموت القادمة في محور سطوع الأشياء في الأمكنة المضاعة : ( حلم خبيث ونهار سيء / أكتفى فقط بالأشارة الى ساعة المقهى على الجدار و كأنه يشير الى بطء دورانها : ــ ألم تحن الخامسة بعد ؟ كان السؤال الأكثر ألحاحا لديه في الأونة الأخيرة .. حتى أنه أصبح همه الشاغل .. استكمل لملمة أوراقه كما لو كان يتحقق من استكمال لملمة ذكرياته كلها ) أما الدلالة في قصة ( صانع الرؤى ) فلربما تشكل لنا أحداث هذا النص عن ذات بنية الأمكنة المضاعة و الشخوص المضاعة . أنها ببساطة حكاية صديقنا الفنان الراحل هادي السيد هذا الرجل البوهيمي الذي ينطق الأبداع جزافا من سيل عشوائية نافورة لعابه المتدفقة من فمه الغائر أثر ملامح الكظم و الكبت و اللوعة و الحزن الذي بات لا يفارق وجهه الذي يذكرنا بوجه تمثال أغريقي سحيق . فقصة هادي السيد حكاية واقع حقيقي كلنا شهدناها في مجال نمو أحداثها المهمومة من جراء حصيلة الظروف المضاعة في الأمكنة المضاعة ( كان هادي السيد يدرك جيدا كما ندرك نحن لم يعد هناك متسع في رأسه لتحمل كل هذا الخراب .. لدى أراد أن يحتفظ بما تبقى لديه من مساحة للجمال عبر إغراق ذاكرته بهدير البوح راحت الخمرة ترسمه تارة ذهولا وتارة اخرى صمتا تفصح عن دلالاتهما الدموع / و أخيرا لم يكن أمامه سوى مغادرة أوجاعه الى الأبد ) هنا انعطافة مصيرية أخذت تشاطرها جل
مضامين قصص مجموعة المبدع باسم شريف كحال قصة (بورتريه ) وقصة ( صوامع الجند ) وقصة (برنادشو.. صديق والدي ) المهداة الى روح صديقنا العزيز سلام ناصر رحمه الله و أسكنه فسيح جناته كما هو الحال أيضا في قصة ( المسفن ) وقصة ( البوابة و الأساطيل ) وقصص أخرى في المجموعة الموقرة . و عبر ما يمكن أن نقوله في شأن عوالم نصوص مجموعة القاص هو أنها موضوعات تأطيرية في الأعتداد الأفرادي حيث تشكل كجهد منظوري لحدود الذات الساردة و التي أخذت ويلات الحروب و قهرها منها مأخذا مأساويا في النزوع الى اختراق جهة الموجودات الحكائية بثيمة مشاهدات انفصال الذات الشخوصية عن دائرتها السلوكية السوية مع ديمومة الأشياء اللاسوية في الحياة اليومية . أما الحال في قصة ( الكتاب الجامع ) وقصة ( عوائد العارفين ) فهناك علامات واضحة في ملامح شخوص و أجواء القصتان على أنهما مستوحاة من حدود تعدد القراءة لدى القاص . فقصة ( الكتاب الجامع ) تشغلها دلاليا شخصيات تقترب من ظلال شخصية الراحل العالم الرباني و العارف الكامل السيد محمد صادق صادق الصدر (قدس سره الشريف ) أما الحال في قصة (عوائد العارفين ) فأنها هي الأخرى تمثل صياغة واضحة لمقاصد أهل العرفان و محمولات عوالمهم الربوبية و القدسية الذاتية و ما تتوارد على قلوبهم من فيوضات نورانية في مواطن التحقيق و المكاشفة و التنزيل وصولا الى عتبة السير و السلوك عبر تخطي المقامات العرفانية الأفعالية و الوصفية و الذاتية و
الصفاتية المنصوص عليها ذوقا و كشفا و توحيدا من قبل مذهب رجالات العرفان عليهم السلام .
( تعليق القراءة )
ان الأرواح و الأشياء و أمكنتها و صفاتها هي رفاة طاحونة الزمن و بقاياه . فالقارىء لعوالم نصوص مجموعة الأخ العزيز باسم شريف لربما يواجه تلك الرحلة الأنسانية الشاقة في حقائب متعددة الدلالات و المضامين و الأشكال وصولا الى محورية توالد الزمن و انتقاله عبر مفاصل فراغية مختزلة تحتضنها واجهات روح الأنسان المتأمل في ثقافة المكان و الزمان و نفسانية صلات الأشياء و علاقاتها القبلية و الأبعادية صعودا الى مستوى حالة صراعية من الأسئلة المصيرية الوجودية التي أزدحمت من خلالها احباطات النفس في نصوص مجموعة القاص حيث الحياة الترابية العفنة نواجهها بالصور الحياتية و البنيات الجسمانية و الأنفسية و الأهوائية الى مرحلة إرادة القوة التي تمنع هذه الكائنية الحيوانية الواهمة من الدفاع حتى عن عيوبها الظاهرية الباطلة .. يتحول وجود الأمكنة في قصص القاص مع طبيعتها الأدمية و الفنية الطامحة الى مهاوي حفرة في قبر حديدي يعنف جسد الذكريات و الأمكنة و الأسئلة و
المذاهب العقلية حتى يصيرها أخيرا الى نبض شبحي ترابي يحيا منزلة الأغتراب و النسيان في زوايا الظلمة البرزخية .