18 ديسمبر، 2024 9:02 م

قراءة في أقاصيص ( حفلة القتلة ) لعلي بدر تشظيات واقع النص و محورية الرؤية

قراءة في أقاصيص ( حفلة القتلة ) لعلي بدر تشظيات واقع النص و محورية الرؤية

مقدمة :

أن فعل القراءة في تجربة مجموعة أقاصيص ( حفلة القتلة ) للروائي علي بدر ، يمكننا تأكيدها عبر تمفصلات مشاهدها السردية الكامنة في متون تبئيراتنصوص المجموعة الصادرة مؤخرا عن دار نشر ( ألكا ) البلجيكية ، على أنها تلك الحالات المتفاعلة و المتفارقة في رؤية موجهاتها الدلالية المتعددة و المتوحدة في حيزية فضاء علاقة شكلية و مضمونية ، لا تدل إلا على مؤهلات ثيماتية قد لا تتجاوز عمق تماثلات خلفية ( المؤلف الضمني / السارد المشارك ) فيما تتوزع محكيات القيمة الدلالية في مسار النصوص ، على نحو يجعل منها حالة بؤرويةتحولاتية خاصة في عضوية الدليل و الأداة المحفوفة بروح الاستطراد و التقابل و التوازي و بنية للوظيفة المشتركة في هوية و مرجعية المسرود المحكي على لسان النص . في قصة ( الروايات البوليسية ) تواجهنا حالة غرائبية حاذقة من عضوية مدلول و إشكالية عنونة ( حفلة القتلة ) بعيدا عن معطى الزمنية و المكانية الحاصلة في هوية الفاعل المتمثل بماهية القتل ، حيث و عبر جملة فقراتية من اللقطات المشهدية ، نستدل بأن محورها أي ـــ القصة ـــ كان محورها الشخوصي المشارك سردا ، تحكمه حالات مفترضة من قبل أفق تصور المواقف و الحالات روائيا ، ثم بالتالي سرعان ما تتحول إلى حادثة واقعية تجر عليه الكثير من الويلات ، نقرأ ببساطة ما جاءت به هذه الفقرات الاستشهادية من النص نفسه : ـــ ( ما أن وصل إلى منزله حتى أستخرج دفتره الذي خصصه لكتابة رواياته المرعبة .. و أخذ يخط أول الصفحات عن مقتل محام كبير في مكتبه .. يحدث ذلك أثناء تواجده إلى ساعة متأخرة من الليل وحيدا في مكتبه الكائن في عمارة البياتي في بغداد الجديدة .. و قد شاهد سائق تاكسي ثلاثة أشخاص خارجين من العمارة في الساعة الثالة صباحا .. لم يبد عليهم أي شيء . لكن الشكوك تحوم حولهم . . و هناك سر يقع تحت الدرج المؤدي إلى مكتب المحامي المقتول .. و عليه أن يحلل الجريمة و دوافعها و تتابع كل شخصية من هذه الشخصيات . / ص15 ) لعل في هذه الفقرات من النص ، ما يدفعنا إلى التصور المباشرة ، بأن حكاية الشخصية الروائية في النص قد تبدو لنا أحكاما طافحا بتنويعات الحنكة الابعادية في إجرائية مخططها الأجرامي . غير أننا نصطدم أخيرا بحادثة غريبة وحقيقية تطابق واقع رؤية رواية الكاتب البوليسية . فقد حدث فعلا ما يثير العجب خصوصا ما قامت بنشره الصحيفة من كلام غاية في الضربة المضمونية ( كتبت صحيفة الجمهورية ذلك اليوم .. أن هناك شخصا يدعي أن كل ما يكتبه من جرائم على الورق يتحول إلى حقيقة .. وهو يشك بمعلم أسمه نديم هو من يقوم بكل هذه الجرائم .. الشاب بحالة مزرية يبكي و يتوسل الناس أن يصدقوه . / ص18 ) . أما الحالة في قصة ( حفلة القتلة ) فقد جاءتنا أحداثها التتابعية و كأنها لعبة في مكونات الحكاية التفارقية المشبعة بنكهة الجرائم في زمن الحكومة البعثيةالسابقة و كيفية ملامح و تقاسيم و سلوكيات رجال الأمن فيها ، ما جعل سياقها السردي بعدا غثيانيا قريبا من فضاء تنويعات المفارقة المضمونية أيضا . تبعا لها تقابلها قصة ( ماكنة الصور المرعبة ) و هي تجسد صياغة ذهنية من النوع الذي يبعث في شخصها حالة هلوسية شاذة و منحرفة تماما ، حيث تكمن في دواخل سريرة محورها الشخوصي ، إيهامات هستيرية تصور له في جانبه النفسي ثمة مأزومية خاصة تمتد به إلى أقصى الخطوط النفسانية الشاطحة ( هكذا كان يفكر محمود وهو يقضي ليلة مرعبة .. زوجته تنام في الحجرة وهو في الصالة يفتح النافذة .. يدخن و يراقب الفضاء لئلا يقفز أحد الكائنات من أعلى و يخرب سلام الأرض . / ص47 ) .

ــــ الوظيفة التكميلية في اللحظة المغايرة : ـــ

من هنا لعلنا نستطيع الوقوف على أهم قصص المجموعة ، حيث نتعرف من خلال هذه البنى النصية على مكملات مجرى المسار التتابعي في المسرود القصصي المخالف و المفترض جدلا ، إذ تواجهنا قصة ( جريمة جندي المخابرة ) حيث نلاحظ من خلال القيمة البنائية لهذا النص ، أقصى درجة من فنية و تقنية التقديم و التأخير و البطء الزمني و الإسراع بالانفراج عن حالة ذروية مناقضة إلى مساحة البداية و التوسط و الخاتمة في النص . فالحكاية في هذا النص تعتمد على موجهات أختلافية و احتمالية في بيت مشاهد اعتراف الجندي الخابر ، و ذلك اعتمادا على وظيفة تعقيبية حاذقة من ازدواجية القاتل في ذاته و لذاته ، و تدفعنا قراءة هذه القصة إلى تفعيل تصورتنا القرائية المشحونة بمؤثثات المخيلة الجازمة بأن هنالك عضوية كبيرة من الأخفاء و التمويه و التراجع و النقص و التقدم السريع عبر التلاعب بوحدات الحكي في اللازمن النصي ، نقرأ مثل هذه الفقرات التالية من القصة : ( سادتي أسمي جمال أحمد .. أعمل كجندي مخابرة في وحدة الأستطلاع العميق المقابلة للعدو الأمريكي في الجنوب / أعترف أمامكم و أنا بكامل قواي العقلية بأني قتلت سالم حسين عريف مخابرة في وحدتنا .. سحبت مسدسي و أصبته برصاصة في رأسه .. لأنه ببساطة خائن و عقوبة الخائن هي الموت . / ص53 ) .في الحقيقة أن أفعال هذه المخلية في زمن النص ، بدت لنا من الحافزية المحفوفة بهالة توجس معرفة المزيد من خطية مسار المحكي ، فضلا عن هذا أصبحت توفر لنا أنعطافية خاصة بعاملية الفعل الموجه في صورة القاتل و هويته الدالة اعترافا ، لكن الغريب أننا صرنا نواجه أختلافية في محاور الحدث مما جعل النص و هوية القتل تمتاز بهالة من التحول في نقل الأحداث و كيفية وقوعها تغايرا ، فمرة نجد ثمة أسباب تخالف ما سبقها من مسببات ، و مرة نكتشف بأن القاتل هو خارج عملية فعل القتل و من قام بالقتل هو الجندي الآخر في المخابرة بعد ضبطه بفعل الأتصال مع الأمريكان و خيانة زوجته له مع عريف المخابرة القتيل ، وصولا إلى معطيات شبه تكميلية تسعى لسد ثغرات فهمنا لفعل و حقيقة الموقف ومن هو القاتل الحقيقي إذن ، نقرأ هذه الفقرات اللاحقة من القاتل : ( أرجوكم سادتي الضباط لا تضنوا خيانة عريف المخابرة في وحدتنا غامضة .. فقد دخلت مساء الثلاثاء .. و وجدته يتصل بالأمريكان و يعطيهم إحداثيات و مواقف عسكرية كثيرة .. لقد سمعته بأذني هاتين / أنه جاسوس ببساطة و حين واجهته بالأمر أعترف بأنه جاسوس يعمل لصالح الأمريكان .. و لكنه ندم على فعلته أو خاف من الوشاية به .. فطلب مني أن أطلق عليه رصاصة واحدة في رأسه و هي رصاصة الرحمة فسحبت مسدسي براوننغ 9 ملم و أطلقت عليه رصاصة واحدة / نعم لقد كانت رصاصة واحدة في الرأس كافيه لمقتله / لا أعرف عن أمر الرصاصتين الأخريين . / ص54 ) يمكننا ملاحظة كيفية بلوغ المسرود تفصيلا أختلافيا في أفعال و أعترافات القاتل ، ففي كل حين و كل فقرة أصبحت هناك تفاصيل إضافية توافينا بطريقة حاذقة . و هذا الأمر بدوره صار يقودنا بالزمن الأرتدادي و الأسترجاعي خلافا نحو رؤية غريبة و فجائية في اداة اللازمن الفعلي من اسباب القتل و كيفية وقوعها من قبل القتلة في وحدة المخابرة . من ناحية أخرى تظهر أمامنا ( إشكالية فاعل القتل ) و كيفيتها المتعددة زمكانيا ، و أستتباعا لماهية التفاصيل الجادة في هوية الاعتراف . على حين غرة نعاين بأن هناك علاقة مريبة بين ذلك العريف المخابر و زوجة جندي المخابرة وحيد : ــ (كنت أقف قريبا من غرفة المخابرة فسمعت أصوات غريبة و مشاجرة في الداخل بين عريف المخابرة سالم و الجندي وحيد حيث كان عريف المخابرة يتسلم برقيات مجهولة المصدر على الأرجح من الأمريكان .. و أثناء المشاجرة أنطلقت رصاصة المسدس من الجندي وحيد . و أصابت عريف المخابرة بخصيتيه .. ذلك أن الجندي وحيد يتهم عرف المخابرة بقيامه علاقة مع زوجته عندما أرسل بيده مبلغا من المال قبل شهرين .. فأستغل الخائن هذا الأمر و عقدة علاقة مع زوجة الجندي وحيد . / ص56 ) . أن فكرة الربط بين صورة الأحداث و صوت السارد المشارك توعز لنا بمردودية القتل الى الخائن و أحجية تلك الرصاصات المنفردة و المتعددة مع تضافر أسلوبية التبئير لهوية القاتل الحقيقي ، و هو الأمر الذي غدا يماثل حالة الهوس من قبل صوت المسرود القصصي بوصف كيفية تداخل زمن رؤية المؤلف و رؤية إشكالية القارىء . غير أننا نتوصل من خلال المسرود إلى الأعتراف الأخير : ــ ( أنا جندي مسكين سادتي الضباط لم أنم منذ شهرين ، من بدء الهجوم الأمريكي علينا و حتى اليوم لقد تحالف الجميع ضدي الزمن .. القدر .. الأمريكان .. عريف المخابرة .. زوجتي . / ص58 ) أن هذه الضربة الختامية جاءت لنا خير دليل على تقنية لعبة تداخل الأصوات و الأفعال مما يشكل أخيرا تأويلا جماليا خاصا على مستوى ثراء و حنكة هذا التنصيص . لقد أجاد علي بدر فعلا في ادوات نصه هذا ، بماله من علاقة مركبة متراتبة في تقانة المسكوت عنه ، و ذات الأمر يسحبنا لينطبق على محور القصة الرائعة ( حكاية المترجم الهندي التي رواها لي صحفي ميت ) و قصة ( وحدهم القتلى شهدوا نهاية الحرب ) و قصة ( كبش الأساطير ) و قصة ( ثلج النهار الملتهب ) و انتهاء بقصة ( موت الجندي الخيالي ) فمجموع قصص هذه المجموعة تقريبا ، أخذت تعتمد في سيرة كتاباتها على خزين ذلك الزمن ( السير ذاتي ) من حياة علي بدر نفسه ، كما تذكرنا بعضها لأجواء و فضاء محمول رواياته الكثيرة و تحديدا التي يذكر فيها علي بدر جنديا في حرب الثمانينيات و حرب الخليج .

                             ــــ تعليق القراءة ــــ

أنطلاقا من تجربة و رؤية أقاصيص مجموعة ( حفلة القتلة ) نقول بأن التقارب المحوري الدلالي يطرح نفسه في مشغل علي بدر الروائي و القصصي ، و لدرجة تصورنا بأنها فصول روائية منقطعة عن أصولها أو أنها مشاريع لكتابة رواية في محطات معطلة ، فشخصية الجندي في مشاهد الحرب تبقى خطاطة ذاكراتية في قاموس رواية علي بدر ، و صورة ذلك الشاب الروائي العاطل عن ممارسة كل الأشياء إلا الحلم بالنساء و مضاجعة الشقراوات في بلاد الغرب وشرب المزيد من قناني الخمر و التفكير بكيفية الوصول الى منصة النجاح الأوربي كروائيا من الشرق . هكذا هي أجندات علي بدر السردية ، غير أننا في قصص ( حفلة القتلة ) صار يذكرنا أيضا بقصص همنغواي عن الحرب . أما قصص احتفالية القتل و الجريمة فهي دخيلة على منتج علي بدر ، وذلك لأن للروائي حالات و أفكار و رؤى تغاير هذا المنحى من الكتابة ، لذا ظلت قصص القتلة لديه و كأنها كتبت للمتعة القرائية العامة .